عنوان الفتوى : المخالطة خير من العزلة إلا في أحوال مخصوصة

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ما حكم اعتزال الناس للتفرغ للعبادة والبعد عن الفتن، وإذا كان الناس لا يساعدون الشخص على الالتزام، ومخالطتهم تورث ابتعاده عن الله تعالى، ثم إنني أيضاً أشعر بأنني غير محبوب من الناس، وغير مؤثر حتى في الأهل والناس، وهذا شيء يكدر خاطري كثيراً، ويجعل عزلتي أفضل لي ولهم، وخصوصاً أنني في بداية الالتزام، فأخشى على نفسي كثيراً، وأنا طيلة حياتي هكذا ألتزم فترة وأعود، ثم اذا عدت للكبائر أعود أكثر من السابق، فأنا أريد بيئة صالحة أو أن أعتزل الناس حتى أحفظ ماهو أهم ما يكون للإنسان، وهو الإسلام وعلاقته مع ربه أولاً وأخيراً، فيا لها من راحة عندما يتعبد الله ربه بعيداً عن الناس يؤدي مناسكه على أكمل وجه ، ولكن ما الحكم إذا كان لدي والدان هل أستأذنهما مع العلم أنه يوجد لدي إخوة قريبون منهما، وما صحة ومناسبة هذا الحديث: وَرَجُلٍ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ.

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالحديث المذكور ثابت في الصحيحين عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ : رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ » قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ « مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ.

وقد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى استحباب العزلة وتفضيلها على مخالطة الناس، ولكن التحقيق أن الأصل هو تفضيل المخالطة على العزلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. رواه الترمذي وابن ماجه.

 وفي مخالطة الناس من المصالح والأجور العظيمة ما لا يوجد مثله في العزلة، وقد تفضل العزلة ولكن في أحوال مخصوصة أو في حق أناس معينين، يقول أبو زكريا النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره).

فيه: دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط ، وفي ذلك خلاف مشهور ، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ، ومذهب طوائف : أن الاعتزال أفضل ، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب ، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ، ولا يصبر عليهم ، أو نحو ذلك من الخصوص ، وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين ، فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك . وأما ( الشعب ) : فهو انفراج بين جبلين ، وليس المراد نفس الشعب خصوصا ؛ بل المراد الانفراد والاعتزال ، وذكر الشعب مثالا لأنه خال عن الناس غالبا . وهذا الحديث نحو الحديث الآخر حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة فقال : " أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك. انتهى.

 وانظر الفتوى رقم: 99224. وبما قدمناه تعلم أن الأولى لك أن تبحث عن رفقة صالحة تعينك على طاعة الله تعالى، وتحملك على البر، وتنهاك عن الشر، وهؤلاء الصالحون بحمد الله موجودون لا تخطؤهم عين من طلبهم، وكونك لا تؤثر في من حولك هو مجرد ظن منك، وربما يكون تزيينا من الشيطان، ولو سلم صحته فليس عليك حصول النتائج، وينبغي أن تبذل وسعك في الدعوة والتذكير، وأما شعورك بأن الناس لا يحبونك فهو من هذا الباب، على أن هذا لو كان له حظ من الصحة فإن بإخلاصك لله تعالى واجتهادك في عبادته يصرف الله قلوب الخلق إلى محبتك كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {مريم:96}

ولتكن مخالطتك للناس فيما يعود عليك بالنفع، فإذا رأيت المخالطة قد تجر إلى ما لا تحمد عاقبته، فحينئذ كن حلس بيتك، والزم العزلة، وضابط هذا أن تخالط الناس في الواجبات كالجمع والجماعات وفي المستحبات، ولا تخالطهم في المباحات إلا بما تدعو إليه المصلحة، وأما فضول المخالطة فتحرص على التخلص منه لما له من ضرر على دين العبد، هذه هي جادة أهل العلم والفضل المطروقة فالزمها ولا تغل أو تجف فيفوتك من الخير بحسب غلوك أو جفائك، وخذ هذا الكلام النفيس للعلامة ابن القيم رحمه الله واجعله ميزانا للعزلة والمخالطة.

 يقول رحمه الله: إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات، تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينها دخل عليه الشر.

أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث.

وهم: من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه...

القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لأكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس، لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. انتهى.

فالذي ننصحك به هو أن تجعل مخالطتك للناس على هذا النحو، فتأتي النافع منها وما لا يستغنى عنه، وتدع ما فيه الضرر، فإذا علمت ما بيناه لك ونصحناك به، فإن كانت العزلة أولى في حقك فلك أن تعتزل الناس ولو بغير إذن والديك إذا لم يكونا في حاجة إليك، ولم تخش عليك الهلكة، قال في مغني المحتاج: ( ويحرم ) على رجل ( جهاد ) بسفر وغيره ( إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين ) لأن الجهاد فرض كفاية وبرهما فرض عين .... ( لا سفر تعلم فرض عين ) حيث لم يجد من يعلمه أو توقع زيادة فراغ أو إرشاد فإنه جائز بغير إذنهم كحج تضيق عليه وكذا إن لم يتضيق على الصحيح ( وكذا ) سفر تعلم فرض ( كفاية ) فيجوز أيضا بغير إذنهم ( في الأصح ). انتهى.

والله أعلم.