عنوان الفتوى : التوكل على الله يستجلب به المحبوب ويستدفع به المكروه
قرأت كثيراً عن التوكل، ولكن عندي شبهات أرجو كشفها، وهي: هل التوكل يرد المقدور؟ وهل التوكل يؤدي إلى وقوع المقدور حسب ما يريد العبد؟ وهل معنى الحسب والكفاية في قوله تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، وقوله: "أليس الله بكاف عبده" أن يقضي الله الخير للعبد حيث كان ثم يرضيه به، وإن كان في قالب ضراء في نظر العبد القاصر بخفايا الأمور ومآلاتها، وأن تكون العاقبه له ولو بعد حين كما قال تعالى: "والعاقبة للمتقين"؟ وكيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام : "احفظ الله يحفظك"، وقوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" وبين أنهُ سُحِرْ وقد شجًََت رباعيته يوم أحد وهناك من أهل العلم من يقول: إنه قتل بالشاة المسمومة؟ وكذلك ما ورد عن بني إسرائيل أنهم قتلوا أنبياءهم مع أنهم يحفظون الله بالاستقامة على طاعته؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالتوكل وغيره من الأسباب الشرعية كالدعاء وتقوى الله تعالى والاستغفار، مما يُستدفع به المقدور المكروه، ويستجلب به المقدور المحبوب، بل هو من أعظم أسباب ذلك، قال الشيخ حافظ حكمي في (معارج القبول): ليس في فعل الأسباب ما ينافي التوكل مع اعتماد القلب على خالق السبب، وليس التوكل بترك الأسباب، بل التوكل من الأسباب وهو أعظمها وأنفعها وأنجحها وأرجحها. اهـ.
وفي (زاد المعاد) لابن القيم: القدر يدفع بعضه ببعض، كما يدفع قدر المرض بالدواء، وقدر الذنوب بالتوبة، وقدر العدو بالجهاد، فكلاهما من القدر ... والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به، والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتح عمل الخير. وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان. اهـ.
وقال في (مدارج السالكين): من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله. اهـ.
ومن الوقائع النبوية في دفع المكروه بصدق التوكل على الله تعالى ما رواه جابر بن عبد الله قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب بن خصفة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟! قال: الله عز وجل. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله فأتى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. رواه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له.
وفي ذلك نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {المائدة: 11}
قال ابن كثير: يعني: من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه. اهـ.
ومن ذلك أيضا رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر حين قال له في الغار أثناء الهجرة: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال صلوات الله وسلامه عليه: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. متفق عليه.
وفي ذلك نزل قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {التوبة: 40}.
ويدل على عموم هذا المعنى الآيتان اللتان ذكرهما السائل، قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ {الزمر: 36}
قال البغوي يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي: (عباده) بالجمع يعني: الأنبياء عليهم السلام، قصدهم قومهم بالسوء كما قال: (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه)(غافر: 5) فكفاهم الله شر من عاداهم. اهـ.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق: 3}
قال العلامة ابن عاشور في (التحرير والتنوير): وجملة { إن الله بالغ أمره } في موضع العلة لجملة { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة، فإن الله إذا وعد وعدا فقد أراده، وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه. ولعل قوله: { قد جعل الله لكل شيء قدرا } إشارة إلى هذا المعنى ، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمَّه فقدر لذلك أسبابه كما قدر أسباب الأشياء كلها، فلا تشكوا في إنجاز وعده، فإنه إذا أراد أمرا يسر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة. اهـ.
وهنا لابد من التنبيه على أن تحقيق هذا الوعد الكريم لا يعلم كيفيته وموعده إلا الله، فلا يقال: كيف ولا متى ؟ ولكن يوقن بذلك وينتظر الفرج ويرضى بتدبير الله له، ولهذا خُتِمت الآية بما ختِمت به، قال السعدي: { فهو حسبه } أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى: { إن الله بالغ أمره } أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه { قد جعل الله لكل شيء قدرا } أي: وقتا ومقدارا، لا يتعداه ولا يقصر عنه اهـ.
وقد سبق لنا تفصيل الكلام عن أن وعود الله الكريمة للمؤمنين تتحقق بالطريقة التي تتفق مع الحكمة من الخلق، وهي الابتلاء والامتحان، والتمييز والتمحيص. فراجع الفتوى رقم: 117638.
وأما الجمع بين قوله تعالى: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {المائدة:67} وحديث: "احفظ الله يحفظك"، وبين ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه من بلاء، فقال ابن عادل في (اللباب): الجواب أن قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته ورمي عليه الكرش والثرب وآذاه جماعة من قريش اهـ.
وقال الشيخ ابن باز: لم يترتب على ذلك شيء مما يضر الناس أو يخل بالرسالة أو بالوحي، والله جل وعلا عصمه من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها، أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء فإنه لم يعصم منه عليه الصلاة والسلام, بل أصابه شيء من ذلك, فقد جرح يوم أحد, وكسرت البيضة على رأسه, ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر, وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك, وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقا شديدا, فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل, ومما كتبه الله عليه, ورفع الله به درجاته, وأعلى به مقامه, وضاعف به حسناته, ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الرسالة, ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم. اهـ. وراجع لمزيد الفائدة عن ذلك الفتوى رقم: 54814.
ولمزيد الفائدة عن معنى التوكل وحقيقته يمكن الاطلاع على الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 146499 ، 18784، 118213.
والله أعلم.