عنوان الفتوى : شبهتان وجوابهما حول هداية الخلق وصلب عيسى عليه السلام
هناك نصرانية تجادلني في الإسلام و تحاول إقناعي بالتنصر، كما أحاول إقناعها بالإسلام، و لكنها وجهت إلي أسئلة لا أعرف إجابتها و أرجو منكم أن تجيبوا عني: 1. اقتباس مع الترجمة: بما أنك تقول أن الله يغفر الذنوب جميعاً و هو الغفور الرحيم، فلماذا قال الله في القرآن: (و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء و يهدي من يشاء و لتسألن عما تعملون)، لماذا يضل الله بعض الناس و يهدي بعضهم، لماذا لا يهديهم جميعاً؟ 2. اقتباس مع الترجمة: أنت تقول إن الله ألقى شبه عيسى على من خانه حتى يصلب، فلماذا لم ينصره الله عليهم و ينشر دينه بدل أن يلقي الشبه على ذلك الشخص؟ أرجو أن تجيبوا بأسرع وقت و أشكركم جزيل الشكر على وقتكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهدايته تعالى التي هي التوفيق للإيمان والعمل الصالح، لا ينالها كل أحد، وإنما تدرك من كان أهلا لها، فإن الله تعالى حكيم عليم، يضع الأمور في نصابها، وينزل في كل منزلة أهلها، وقد نص القرآن في مواضع على أن الله تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن لا تليق به فيغويه، قال تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {القصص: 56}
قال ابن كثير: أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية وبمن يستحق الغواية. اهـ. وقال السعدي: هو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله. اهـ.
وقال عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {الجاثية: 23}
قال السعدي: {وأضله الله على علم} من الله تعالى أنه لا تليق به الهداية ولا يزكو عليها. اهـ.
وقال سبحانه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. {الروم : 29}
قال السعدي: أي: لا تعجبوا من عدم هدايتهم فإن الله تعالى أضلهم بظلمهم، ولا طريق لهداية من أضل الله لأنه ليس أحد معارضا لله أو منازعا له في ملكه. اهـ.
وقال تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. {الصف: 5}
قال السعدي: {فلما زاغوا} أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم {أزاغ الله قلوبهم} عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم، ليس لهم قصد في الهدى، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه، وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلا منه بهم، كما قال تعالى: { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }. اهـ.
وقد نص القرآن أيضا في مواضع كثيرة على صفات من يحرمون هذه الهداية، كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {البقرة: 258}
وقوله: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {البقرة: 264} وقوله: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {المائدة: 108}
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ {الزمر: 3} وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر: 28] وقوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {آل عمران: 86}
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا {النساء: 137}
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا {النساء: 168}
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {النحل: 104}
وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل: 107].
وفي المقابل نص القرآن على صفات من يستحقون الهداية، بفضل الله تعالى عليهم ورحمته بهم، كما في قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {المائدة: 16}
وقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * {الرعد:27، 28}
وقوله: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ {الشورى: 13} وقوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت:69}
ولا شك في أن من يتأمل ذلك يزداد يقينا بعدل الله وحكمته، وعلمه وعزته، وأنه الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، فله الحكمة البالغة، والحجة التامة، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 141109، 32573.
وأما الإشكال الثاني فمبناه على جهل الإنسان وعجزه عن إدراك حكمة الله تعالى في قضائه وقدره، فإن كان الحق الذي تقبله العقول في قصة نبي الله عيسى عليه السلام أن ينجيه الله تعالى ولا يسلط عليه أعداءه الذين أرادوا قتله، فهذا ينبغي أن يحصل بما لا يأتي على الحكمة الكلية للخلق بالنقض أو النقص، وهذه الحكمة يمكن تلخيصها في كلمة واحدة وهي (الابتلاء)، أو في آية واحدة كقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك: 2}
وراجع لتفصيل ذلك الفتوى رقم: 117638. وإلا فلو ألغينا هذه الحكمة لصح أن نتساءل: لماذا لا يعجل الله نصر عباده الصالحين دون أن يتعرضوا للاضطهاد والقتل والتشريد ؟! ولماذا قتل بعض الأنبياء والمؤمنين في سبيل دينهم ؟! فهذا نبي الله يحيى بن زكريا قتل في سبيل الحق، كما يعتقد المسلمون والنصارى جميعا.
ثم إن هذا السؤال لا يليق بالنصارى، فإنهم أوهي الناس اعتقادا، وأبعدهم عن الحق والمنطق، في مسألة الصلب، حيث قرنوها بالفداء، فهم يعتقدون أن الله تعالى وتقدس مكَّن أعداءه من قتل ابنه الوحيد صلباً؛ تكفيرا عن خطايا البشر !!!!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وليست الغرابة هنا متوقفة على بنوة عيسى لله تعالى ! بل تتعداها إلى اعتقاد صلبه على أيدي أعداء الله. ويمكن مراجعة ذلك مع مناقشته في الفتوى رقم: 70824. كما يمكن الوقوف على تفسير قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ {النساء:157} في الفتوى رقم: 6238.
والله أعلم.