عنوان الفتوى : الحالات التي يجوز فيها عضل الزوجة لتفتدي بمهرها
هل عضل الزوجة محرم على الإطلاق؟ وهل يجوز للزوج أن يضيق على زوجته ويعضلها ويضارها لتطلب منه الخلع وترجع له المهر إذا كانت سيئة الخلق ولا تؤدي حق زوجها؟ وكيف نجمع بين قوله تعالى (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) وقوله تعالى (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا*وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظا) وقوله تعالى (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) وكيف الرد على من يقول بأنه لا يحق للزوج أن يطلب المهر الذي دفعه لها لأنه أخذ حقه حينما استحل منها ما كان محرما عليه؟ ولماذا يحل للزوج أن يأخذ المهر بعد هذا؟
الحمد لله
أولا :
عضل الزوجة هو التضييق عليها لتفتدي منه بالمال ، وهذا العضل فيه تفصيل :
فيجوز إذا أتت الزوجة فاحشة ، أو أصرت على ترك فرض ، أو كانت ناشزة لا تطيعه ، فيضيق عليها لتخالعه وتفتدي منه .
ويحرم العضل إذا لم يكن شيء من ذلك .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) النساء/19
والفاحشة : تعم الزنا ، والنشوز والعصيان ، وبذاءة اللسان ، كما سيأتي .
نقل ابن كثير رحمه الله عن زيد بن أسلم قوله : " ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّسَاءَ كَرْهًا ) : كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث
امرأتَه من يرث مالَه ، وكان يعضُلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل
تهامة يُسِيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد
، حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. رواه ابن أبي حاتم ".
ثم قال ابن كثير : " وقوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ ) أي: لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو
حقًا من حقوقها عليك ، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) يقول : ولا
تقهروهن ( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) يعني : الرجل تكون له امرأة
وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مَهرٌ ، فيَضرها لتفتدي.
وكذا قال الضحاك ، وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير...
وقوله : ( إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال ابن مسعود ، وابن
عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والشَّعْبِيُّ، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد
بن جُبَيْرٍ، ومجاهد، وعِكْرَمَة، وعَطاء الخراسانيّ، والضَّحَّاك، وأبو قِلابةَ،
وأبو صالح، والسُّدِّي، وزيد بن أسلم، وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا
، يعني : إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها ، وتُضَاجرهَا حتى تتركه
لك وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) الآية[البقرة:229].
وقال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك : الفاحشة المبينة : النُّشوز والعِصْيان .
واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه : الزنا ، والعصيان ، والنشوز ، وبَذاء
اللسان، وغير ذلك.
يعني : أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها ، أو بعضه ، ويفارقها ، وهذا
جيد ، والله أعلم " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/ 240).
وقال في "زاد المستقنع" : " فإن عضلها ظلما للافتداء، ولم يكن لزناها ، أو نشوزها ، أو تركها فرضا ففعلت ، أو خالعت الصغيرة، والمجنونة ، والسفيهة ، أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع ".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه : " قوله: ولم يكن لزناها أو نشوزها ،
فإذا خالعت في هذه الحال لا يصح الخلع ؛ لأنه قد أرغمها ، وقد قال الله عز وجل : (
ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) [النساء: 19] ،
فإذا فعل هذا بدون سبب ، كرجل ـ والعياذ بالله ـ طماع لا يخاف رب العالمين ، ولا
يرحم الخلق ، ما أحب هذه الزوجة ، وقال : لا يمكن مالي يذهب هدرا ، وصار يضيق عليها
، ويمنعها حقها ، ويهجرها في المضجع ؛ من أجل أن تفتدي منه ، نقول : هذا حرام عليك
؛ لأن الله نهى عنه .
وقوله : ولم يكن لزناها فإذا كان لغير زناها ، لكن لتوسعها في مخاطبة الشباب ،
تتكلم في الهاتف ، وما أشبه ذلك ، فهل نقول : إن هذا من سوء الخلق الذي يبيح له أن
يعضلها لتفتدي منه ؟
نعم ، ونجعل قوله : لزناها شاملا لزنا النطق ، والنظر ، والسمع ، والبطش ، والمشي
، كما أخبر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن العين تزني، والأذن تزني، واليد
تزني، والرجل تزني ، فهذا الرجل يقول : ما أصبر على هذه المرأة ، وهي بهذه الحال ،
فصار يضيق عليها لتفتدي منه ، فهذا جائز.
فإن قال قائل : إن الله يقول : ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) والكلام أو النظر ليس
من الفواحش ، فنقول : إن هذا وسيلة إلى الفواحش ، ثم إن كثيرا من الناس يكون عنده
غيرة ، أن تخاطب امرأته الرجال ، أو أن تتحدث إليهم...
وقوله : أو نشوزها ، وهو معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها ، فإذا صار عندها
نشوز وعضلها وضيق عليها لتفتدي فلا حرج.
قوله : أو تركها فرضا كأن تترك الصلاة دون أن تصل إلى الكفر ، أو تترك الصيام ،
أو تترك الزكاة ، أو تترك أي فرض ، أو تترك الحجاب ، وتقول : سأخرج مكشوفة الوجه ،
فله أن يعضلها إذا لم يمكن تربيتها ، أما إذا كان يرغب في المرأة ويمكن أن يربيها
فلا حرج أن تبقى معه " انتهى من "الشرح الممتع" (12/ 462).
فتبين بذلك متى يجوز للرجل أن يعضل زوجته لتختلع منه ، وتفتدي بالمهر أو غيره .
ثانيا :
لا تعارض بين هذه الآية والآية التي بعدها وهي قوله سبحانه : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا .
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ
مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) النساء/20، 21
بل هي تأكيد لحرمة مال الزوجة ، وأنه لا يجوز أخذه ، فالمعنى : إذا أراد أحدكم أن
يفارق امرأة ويستبدل بها غيرها ، فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ، ولو كان
قنطارا من مال.
فالصداق ملك للمرأة لا يحل أخذه ، إلا أن تبذله بطيب نفس منها ، أو تفتدي به نفسها في الحال التي يجوز أن يضيق عليها فيه كما سبق ، أو في الحال التي يشق عليها البقاء مع زوجها - من غير تقصير منه - لقوله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) البقرة/229
وقد جاء هذا مؤكدا بقوله تعالى : ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) والإفضاء هو الجماع ، كما قال ابن عباس وغيره ، والمقصود أن المهر مقابل ما استحل من فرجها ، فكيف يأخذه وقد حصل له مراده .
قال ابن كثير رحمه الله : " أي : وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيتَ إليها
وأفضَتْ إليك.
قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وغير واحد : يعني بذلك الجماع.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما
من تلاعنهما : ( الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ) ثلاثًا. فقال الرجل :
يا رسول الله، مالي -يعني: ما أصدقها - قال : ( لا مال لك ؛ إن كنت صدَقْت عليها
فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها ) .
ثالثا :
وأما قوله تعالى : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ) البقرة/231 فالمقصود منه عدم إمساك المطلقة ومراجعتها في العدة لأجل الإضرار بها .
" قال ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، ومقاتل بن حيان وغير واحد : كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا ، لئلا تذهب إلى غيره ، ثم يطلقها فتعتد ، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ، فنهاهم الله عن ذلك " انتهى من "تفسير ابن كثير".
رابعا :
قول من يقول : " لا يحق للزوج أن يطلب المهر الذي دفعه لها ، لأنه أخذ حقه حينما استحل منها ما كان محرما عليه " صحيح في العموم ، ويستثنى منه ما ذكر الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) كما سبق بيانه ، ويستثنى منه أيضا : ما لو طلبت المرأة الفراق لكرهها لزوجها ، كما في حديث امرأة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه ؛ فقد أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ . وكان قد أصدقها حديقة . قالت : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقبل الحديقة ، وفارقها ) أخرجه البخاري (5273) .
فكون المهر في مقابل استحلال البضع ، لم يمنع من رده على الزوج في هذه الحالة ، لما كان له مسوغ معتبر في الشرع ، وفي النظر الصحيح أيضا .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |