عنوان الفتوى : الإضلال عقوبة لمن لم يقبل الحق بعد معرفته
قول النبي صلى الله عليه وسلم: القلوب بين إصبعين من يدي الله ـ و: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. هل الله يقلب القلوب هكذا؟ أو بعد عصيان المرء، فيقلبها مثل: شخص يهزأ بدين الله يزغ قلبه ويجعله يستهزئ ويكفر؟. وما معني: مصرف القلوب؟ وهل هو: صرف قلبي على طاعتك، وما الفرق بينهما؟ وهل الأول في الكفر والثاني في العصيان؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالله تعالى هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وهو سبحانه لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ولا يغير تبارك وتعالى نِعمته على عبده إلا إذا غير عبده من حال نفسه، قال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. { الأنفال: 53 }.
قال ابن القيم في طريق الهجرتين: إِن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إِلا بطاعته، وأَنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إِذا أَنعم عليك ثم سلبك النعمة، فإِنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك، وإِنما أَنت المسبب فى سلبها عنك، فإِن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأَنفسهم، فما أُزيلت نعم الله بغير معصيته.
فآفتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأَنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك. هـ.
وقد ذكر ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: عشر مراتب للهداية الخاصة والعامة، فقال في المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام، وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه، بحيث يصير مشهودا للقلب كشهود العين للمرئيات، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها، قال الله تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون.
فهذا الإضلال عقوبة منه لهم حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا به، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب، وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده، والقرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
وقوله: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون.
فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له، فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه موضع عظيم. هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: العمل بموجب العلم يثبته ويقرره، ومخالفته تضعفه، بل قد تذهبه، قال الله تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. { الصف: 5 }. وقال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة. { الأنعام: 110 }. وقال تعالى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا. ـ 66ـ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ـ 67ـ ولهديناهم صراطا مستقيما ـ 68. {النساء }. اهـ.
وقال ـ أيضا: الله سبحانه جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع كقوله: وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم. وقال: وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم. وقال: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. وقال: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. اهـ.
وقال ـ أيضا: من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح. اهـ.
وقد سبق لنا بيان ما يعود على العبد من آثار الذنوب والمعاصي والبعد عن الله، في الفتاوى التالية أرقامها: 56211، 49228، 41620.
وبهذا يتبين جواب الشق الأول من السؤال، ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 122280.
وأما الشق الثاني من السؤال: فالذي يظهر لنا أنه لا فرق بين المعنيين: مصرف القلوب ـ و ـ مقلب القلوب ـ من حيث اختصاص أحدهما بالكفر والثاني: بالمعاصي، فكلاهما يستعمل فيهما جميعا، قال الراغب في المفردات: قلب الشيء: تصريفه وصرفه عن وجه إلى وجه. وقلب الإنسان، أي صرفه عن طريقته.
وتقليب الله القلوب والبصائر: صرفها من رأي إلى رأي، قال: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. هـ.
وكلا الدعاءين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسياق وتعليل واحد فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك. رواه مسلم.
وأما الدعاء الثاني: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فمروي من حديث أنس والنواس بن سمعان وأم سلمة وعائشة بنحو السياق السابق.
والله أعلم.