عنوان الفتوى : هجر العصاة.. مراعاة المصلحة والمفسدة
قرأت في إحدى مقالاتكم عن الهجر، قولكم والهجر هنا قد شرع كعلاج ولم يشرع للبتر، ولا للإهلاك، وبالتالي فلا تزيد في الكيفية أو في الكمية ، فما معنى قولكم فلا تزيد في الكيفية أو في الكمية، وما هي كيفية هجر أهل المعاصي وما هي كميته ؟وهل يهجر الأهل والأقارب والجميع غير الوالدين بعد عدم جدوى النصيحة بكافة الوسائل أو بعضها؟ وكيف يكون هجرهم وما هي كميته؟ وما الحكم إذا كان والداي يرفضان بشدة هجري لهم بل ربما يغضبان من ذلك؟ علماً باني أصبحت أقلل من مجالس الأهل والأقارب العاصين بعد مبالغتي في نصحهم أغلب الأحيان خاصة الأقربون منهم للزيارة المتواصلة كل أسبوع خوفاً أحياناً من ائتلاف المعصية ،وغضباً لله تعالى ، فهم كلامهم كثير ( ثرثارون ) بصفة عامة، ولا يذكرون الله إلا قليلا، لكن هذا لا ينفي وجود جملة من الخيرات فيهم، فقريبة لي حرصت على أن يجتمع بعض الأقارب إذا أمكن مرة كل شهر لإلقاء محاضرة دينية، لكن التجمعات الأخرى لا يذكرون الله إلا قليلا ، ووالداي يغضبان من تقليلي لهذه المجالس، فما حكم ذلك سواء ارتدعوا أم لم يرتدعوا من الهجر؟ وهل أهجر في أماكن لا يحضر مجالسهم والداي ، مثلاً في التحفيظ الذي أدرس فيه؟ وقرأت يا فضيلة الشيخ أنه إذا ترجحت المصلحة وجب الهجر، وإذا لم يترجح فهو منهي عنه ، أما إذا لم يترجح هذا ولا هذا فالأقرب النهي عنه لعموم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فهل أجرّب الهجر حتى أعرف أن المصلحة مترجحة أم غير مترجحة ؟ وما الحكم إذا رفض والداي دعوتي لهم إلى الله تعالى لهم بسبب الهجر، أو ما أقوم به من تقليل مجالستهم حال المعصية في عدم حاجتهم لي وتقليل مجالسة الأهل والأقارب ؟ وما حكم نفعي لهم قولاً أو عملاً في أمور الدنيا هل يجب أو يسن هجرهم حتى في أمور الدنيا النافعة قولاً وعملاً- يعني في نفعي لهم- ؟ وهل يجب أو يسن هجر من أنتفع بهم دنيوياً ؟ وماذا لو رفض مساعدتي دنيوياً بسبب هجري له ؟ وعفوا للإطالة وعفواً لتكرار بعض جوانب الأسئلة في
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالمقال الذي أشارت إليه الأخت السائلة على موقعنا على الرابط التالي:
http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=81727
وقد أوضح فيه كاتبه أصل الاعتبار فقال: شرع الله مصلحة كله، ولا بد من مراعاة واقع الغربة وتفشي الجهالة والقيام بواجب الدعوة والرفق بالخلق وإزالة الشبهات ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وكان من مذهب عمر وأبي الدرداء وإبراهيم النخعي أنك لا تهجر أخاك عند المعصية، فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم مرة أخرى، ولعل هذا يتناسب مع ظروفنا، إذ لا سلطان لنا على النفوس، ولغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة، وإذا كان المهجور يزداد شراً وفساداً بالهجر، فصلته حينئذ مع دعوته أولى من هجره والتباعد عنه. اهـ.
فالحامل على هجر المسلم إما أن يكون استصلاحه هو، وإما أن يكون مراعاة لمصلحة عامة، وإما للأمرين معا. فإذا لم يحقق شيئا من ذلك فيبقى الأصل ولا يشرع الهجر. فليست المسألة مسألة عقوبة على معصية دون تحقيق مصلحة شرعية، وإلا فلو كان كذلك لكان هجر الكافر أولى.
فإذا استبان ذلك، فمسألة الكمية أو الكيفية، لابد من مراعاتها تحقيقا للمصلحة، والمراد بالكمية مقدار الهجر ومدته، والمراد بالكيفية صورته وطريقته، وذلك يختلف بحسب الحال، وبحسب اجتهاد المرء في تحقيق المصلحة، فقد يكون مجرد الانقباض في الكلام والتقلل منه على غير المألوف في العادة كافيا للزجر، وقد يتحقق ذلك بالتجهم وعدم التبسم، وقد يتحقق بتغيير طريقة المعاملة وأسلوب الكلام. وقد لا يتحقق إلا بالإعراض التام وعدم رد السلام، والمتأمل لحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، يجد بعض هذه الصور من المعاملة، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على بعض أصحابه خاتما من ذهب فأعرض عنه، فألقاه واتخذ خاتما من حديد فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار. فألقاه فاتخذ خاتما من ورق، فسكت عنه. رواه أحمد، وصححه الألباني والأرنؤوط.
وقدم رجل من نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار. رواه النسائي، وصححه الألباني.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى قبة مشرفة فقال: ما هذه؟ قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خرج فرأى قبتك. قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض.. الحديث. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
وفي حادث الإفك قالت السيدة عائشة: يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني.. الحديث متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى. قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك. متفق عليه.
وإذا عرف هذا، فمن كان يكفي في ردعه درجة من درجات الهجر وصورة من صوره فلا يصح أن يزيد المرء عليها، لا في الكمية ولا في الكيفية، وهذا يعني الاقتصار على الأيسر والأقرب.
وأما مسألة ذوي القرابة والأرحام، فلا يخفى أن حقهم أعظم، فهجرهم لا يشرع إلا في حدود المصلحة الشرعية الراجحة، ودليل مشروعيتها قصة كعب بن مالك وفيها: حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام. متفق عليه.
وأما مسألة الوالدين وغضبهما من تقليل مجالسة الأقارب لما فيها من معاص، فينبغي أن تعلم السائلة أنه من الأفضل لها أن تحضر هذه المجالس لوعظ أهلها برفق وحكمة، فهذا خير لها من هجرتهم، فإنها إن فعلت ذلك لم يكن عليها في حضورها من بأس حتى ولو لم يقبلوا نصحها كاملا، فإن الله تعالى لما قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام: 68} قال بعدها: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأنعام 69}.
قال السعدي: هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم لعلهم يتقون الله تعالى. اهـ.
وأما عن كيفية معرفة الراجح من الهجر وعدمه من حيث المصلحة، فهذا راجع لتقدير المرء، ومعرفته بحال نفسه وأحوال من حوله وواقع مجتمعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم. اهـ.
وأما مسألة نفع أو انتفاع السائلة في الأمور الدنيوية، فهذا يتأتى مع بعض صور الهجر كهجر أماكن المعصية، وهجر العاصي حال معصيته، ولكنه لا يتأتى مع الهجر بمعنى القطيعة والمفارقة. فمن كانت المصلحة الشرعية تتحقق بهجره حال وقوعه في المعصية دون ما سواها من الأحوال، فلا مانع من نفعه والانتفاع به في غير هذه الحال، ومن كانت المصلحة في مفارقته وقطيعته مطلقا فلا يتسنى لا نفعه ولا الانتفاع به إلا في حال الضرورة. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 24833، 22420، 113746.
والله أعلم.