عنوان الفتوى : حكم الدعاء عند القبور
ما صحة هاتين الروايتين من حيث السند والمتن؟. أخبرني أبو إسحاق ـ إبراهيم بن عمر البرمكي ـ قال: نبأنا أبو الفضل ـ عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري ـ قال: سمعت أبي يقول: قبر معروف الكرخي مجرب لقضاء الحوائج ويقال: إن من قرأ عنده مائة مرة ـ قل هو الله أحد ـ وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته. حدثنا أبو عبد الله ـ محمد بن علي بن عبد الله الصوري ـ قال: سمعت أبا الحسين ـ محمد بن أحمد بن جميع ـ يقول: سمعت أبا عبد الله بن المحاملي يقول: أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة ما قصده مهموم إلا فرج الله همه. تاريخ بغداد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهاتان الروايتان وإن كانتا صحيحتين عن أصحابهما، إلا أنه ينبغي أن يُنتبه فيهما إلى أمرين:
ـ الأول: أن صاحبي القولين ـ وهما: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد الزهري، وأبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الضبي المحاملي ـ وإن كانا من الثقات، إلا أنهما من المتأخرين الذين جاءوا بعد القرون الثلاثة المفضلة، فالأول: توفي سنة 336، والثاني: سنة 330.
ـ والأمر الثاني: أن أقوال أهل العلم يحتج لها ولا يحتج بها، فالحجة في نصوص الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم الحجة في فهم هذه النصوص هي فهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء من بعدهم قوم تسبق شهادتهم أيمانهم وأيمانهم شهادتهم.
متفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: قول القائل: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين ـ قول ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين ـ كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة ـ ولا مشايخهم الذين يقتدي بهم ـ كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وأمثالهم ـ ولم يكن في الصحابة والتابعين والأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين ـ لا مطلقًا ولا معينًا ـ ولا فيهم من قال: إن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة ولا أن الصلاة في تلك البقعة أفضل من الصلاة في غيرها، ولا فيهم من كان يتحرى الدعاء ولا الصلاة عند هذه القبور، بل أفضل الخلق وسيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في الأرض قبر اتفق الناس على أنه قبر نبي غير قبره، ومع هذا لم يقل أحد منهم: إن الدعاء مستجاب عند قبره، ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجها إلى قبره، بل نصوا على نقيض ذلك، واتفقوا ـ كلهم ـ على أنه لا يدعو مستقبل القبر.هـ.
وقال ـ أيضا: إذا قيل عن بعض الشيوخ: إن قبره ترياق مجرب، قيل له: إذا كانت قبور الأنبياء عليهم السلام ليست ترياقا مجربا، فكيف تكون قبور الشيوخ ترياقا مجربا؟.هـ.
وقال ـ أيضا: الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:
أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها.
المرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا ـ أيضا ـ من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة المسلمين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب. هـ.
وقال في اقتضاء الصراط المستقيم: لم ينقل في استحبابه ـ فيما علمناه ـ شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: خير أمتي: القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. مع شدة المقتضي عندهم لذلك لو كان فيه فضيلة، فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضي لو كان فيه فضل، يوجب القطع بأن لا فضل فيه.
وأما من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت فصار كثير من العلماء والصديقين إلى فعل ذلك، وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال: اجتمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين:
أحدهما: أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره ـ قديما وحديثا.
الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ولم يفعلوه، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات، وهي لا تتناقض، وإذا اختلف فيه المتأخرون، فالفاصل بينهم هو الكتاب والسنة وإجماع المتقدمين ـ نصا واستنباطا ـ فكيف وهذا ـ والحمد لله ـ لم ينقل عن إمام معروف ولا عالم متبع؟ وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت، فكيف بالمنقول عن غيره؟ ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ فيه ويصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحرف النقل عنه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور ـ بعد النهي عنها ـ فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها، ثم سائر هذه الحجج دائر بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، وتركه لها ـ مع قيام المقتضي للفعل ـ بمنزلة فعله، وإنما تثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن أبناء النصارى وأمثالهم، وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا، استنباطا بحال. هـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 31022.
والله أعلم.