عنوان الفتوى : ولد مسلما، فشك في الإسلام، فخرج يبحث عن دينه، فمات
إذا ولد شخص مسلما ، لكنه شب لا يؤمن بالإسلام ، ويبحث عن الدين الصحيح ، ومات قبل أن يكتشف أن الإسلام هو الدين الحق ؛ فهل سيذهب إلى الجنة أم إلى النار؟
الحمد لله :
أولا :
قد دلت النصوص القاطعة المتكاثرة من الكتاب والسنة ، وإجماع أهل العلم المقطوع به ، على أن كل من مات موحدا مسلما ، فهو من أهل الجنة ولا بد ، حتى وإن عذب قبل دخولها بذنوبه ، وأما من مات مشركا ، كافرا بالله العظيم ، أيا كانت ملته وديانته : فهو في النار خالدا فيها مخلدا ، أبد الآبدين .
قال الله تعالى : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) المائدة/72 . وقال تعالى : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الزمر/65-66 .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) .
رواه البخاري (1238) ومسلم (92) .
قال القاضي عياض رحمهُ اللهُ عند كلامهِ عن تكفيرِ من صوب أقوال المجتهدين في أصولِ الدين : " وقائلُ هذا كلهِ كافرٌ بالإجماعِ على كفرِ من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود ، وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك " انتهى .
" الشفا " (2/281)
ثانيا :
من رحمة الله تعالى بعباده أنه لا يعذب أحدا حتى تبلغه رسالة ربه ، وأنه أرسل رسله رحمة بعباده ، وقطعا لعذر من اعتذر . قال تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) النساء/65 .
وقال تعالى : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) الإسراء/15 .
وروى مسلم (153) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) .
قال النووي :
" َفِي مَفْهُومِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَعْذُورٌ ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الصَّحِيحِ " انتهى .
ثالثا :
إذا حصل البلاغ وورد الشرع وأقيمت الحجة ، فلا يعذر المخالف ، ولا يمهل وينتظر به حتى يتعرف – بزعمه – على الحق .
( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) [فاطر/37]
" متعناكم في الدنيا ، وأدررنا عليكم الأرزاق ، وقيضنا لكم أسباب الراحة ، ومددنا لكم في العمر ، وتابعنا عليكم الآيات ، وأوصلنا إليكم النذر ، وابتليناكم بالسراء والضراء ، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا ، فلم ينجع فيكم إنذار ، ولم تفد فيكم موعظة ، وأخرنا عنكم العقوبة ، حتى إذا انقضت آجالكم ، وتمت أعماركم ، ورحلتم عن دار الإمكان ، بأشر الحالات ، ووصلتم إلى هذه الدار ، دار الجزاء على الأعمال : سألتم الرجعة !! هيهات هيهات ، فات وقت الإمكان ، وغضب عليكم الرحيم الرحمن ، واشتد عليكم عذاب النار، ونسيكم أهل الجنة ، فامكثوا فيها خالدين مخلدين ، وفي العذاب مهانين " .
"تفسير السعدي" ( ص 690) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر ، إذا طلب الإمهال للنظر :
فأوجبه من أوجبه من المتكلمين ، من المعتزلة ومن تبعهم على هذه الطريقة ...
وأما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقا ؛ أما في حال المقاتلة : فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية إن كانوا من أهلها .
فإذا أُسِر الرجل منهم : فهذا لا يتعين قتله ؛ فإذا طلب مثلُ هذا الإمهال ، ورُجي إسلامه ، أمهل .
وأما المرتد : فلا يؤخر عند الجماهير أكثر من ثلاث .
وأما من له عهد : فذلك لا يكره على الإسلام ، فهو في مهلة النظر دائما .
ولو طلب أهل دار ممتنعين من الإمام أن يمهلهم مدة ، ورجا بذلك إسلامهم ، ولم يخف مفسدة راجحة : أمهلهم .
والحربي إذا طلب الأمان حتى يسمع القرآن ، وينظر في دلائل الإسلام : أمَّناه ، كما قال تعالى : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ التوبة/6 . " انتهى . " درء تعارض العقل والنقل" (8/15) .
وقال علماء اللجنة :
" المسلمون لا يحكمون على غيرهم بأنهم في النار إلا بشرط وهو : أن يكونوا قد بلغهم القرآن ، أو بيان معناه من دعاة الإسلام بلغة المدعوين ؛ لقول الله عز وجل: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقوله سبحانه : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
فمن بلغتهم الدعوة الإسلامية من غير المسلمين وأصر على كفره فهو من أهل النار ، لما تقدم من الآيتين ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار خرجه مسلم في صحيحه . والأدلة في هذا المعنى من الآيات والأحاديث كثيرة " انتهى
وقال علماء اللجنة أيضا :
" ومن عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة إلى الإسلام وغيره ، ثم لا يؤمن ، ولا يطلب الحق من أهله : فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصر على الكفر " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (2 /148)
وقالوا أيضا : " من بلغته الدعوة من سائر الكفرة على وجه يفهم به ما بلغه لو أراد الفهم ، فقد قامت عليه الحجة ، فلا يعذر بالجهل " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (1/427)
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" من بلغه القرآن وبلغه الإسلام , ثم لم يدخل فيه فله حكم الكفرة "انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (1 / 50)
وسئل الشيخ ابن باز :
ما مصير من لا يعلم بأن دين الإسلام هو الدين الصحيح ، والمقبول عند الله ، ويعتقد دينا خيرا [ من ] الإسلام ؟
فأجاب الشيخ :
" إذا كان المسئول عنه عاش بين المسلمين ، وقد بلغه القرآن والسنة ، ومع ذلك يعتقد دينا غير دين الإسلام فحكمه حكم أهل الدين الذي اعتقده وهو الكفر " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" - (28 /202- 203)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" من بلغته رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يؤمن به ويتبعه لم يكن مؤمنا ولا مسلما بل هو كافر من أهل النار " انتهى .
"مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (4 / 219) .
فيتبين مما سبق أن هذا المذكور في السؤال : مرتد ، وأن المرتد ليس له أن يمهل أكثر من ثلاثة أيام ؛ فإن عاد إلى الإسلام ، وإلا قتل .
فإن مات قبل ذلك ، ولم يستتب ، ولم يقم عليه الحد : فهو كافر ، له أحكام الكفار ، فلا يغسل , ولا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يورث ماله.
فإن قدر أنه لم يدر شيئا عن الإسلام ، ولم يبلغه على وجه صحيح ، أو أن له عذرا عند الله ، فذاك أمره إلى الله ، يحكم فيه بحكمه وعدله في الدار الآخرة ، وهو أحكم الحاكمين .