عنوان الفتوى : مرضت ورفضت زوجة ابنها أن تخدمها وطلبت أن تسكن بعيداً عن أهله

مدة قراءة السؤال : 4 دقائق

أنا أم لولدين ، تزوَّج الأول ، وسكن في شقة ، وبقيتُ مع زوجي وولدي الثاني في الشقة المجاورة ، وتزوج ولدي الثاني في نفس الشقة التي نسكن فيها ، بابنة عمته - شقيقة زوجي - ، وكانت علاقتي بالبنت ، وبأمها ، علاقة قويَّة جدّاً ، وبعد الزواج بفترة قصيرة : أُصبت بانزلاق غضروفي في العمود الفقري ، الأمر الذي منعني من القيام بأي عمل مهما كان بسيطاً ، وبعد مكوثنا مع ولدي وزوجته بسنتين تقريباً : فوجئت بأن زوجة ولدي تركت البيت ، وذهبت إلى بيت أهلها ، وتطالب ببيت مستقل لها ولزوجها ، بدون أي سبب يستدعي ذلك ، خاصة وأنه لا يوجد لدي سوى ولديّ المذكوريْن ، وليس لديَّ بنات ، وأنا غير قادرة على رعاية نفسي وزوجي ، ولم يصدر منِّي تجاهها أي شيْ يستدعي غضبها ، بل كنت أعاملها كابنتي ، كما أني غير قادرة على فراق أولادي ، ولا أتحمل غيابهم عني ولو ليوم واحد ، وحاولنا معها ومع أهلها لإصلاح الأمر والعودة إلى ما كنَّا عليه ، لكننا قوبلنا بالإصرار الشديد من الجميع على أن تخرج هي وولدي في بيت آخر ، وأنها لا تستطيع البقاء معنا ، ورعايتنا ، وبالإمكان - كوضع مؤقت - أن نظل معها شهراً أنا وزوجي ، ثم نعيش مع ولدي الأكبر شهراً ، وهكذا بالتناوب ، مع العلم أن زوجة ولدي الأكبر موظفة ، وعندها ثلاثة أبناء ، بينما الأخرى ليست موظفة ، وليس لديها أبناء ، وكانت تقضي معظم وقتها - صباحاً مساءً - في بيت أهلها ؛ لقربه من منزلنا ، وكنا نتحمل تقصيرها في رعايتها لنا ، وإهمالها لنا ، ولم نُظهر شيئاً سوى الرضى ، والحب ، وكنَّا نُخفي ذلك عن ولدي ؛ خشية المشاكل ، وقد شكّل هذا التصرف منها ومن أهلها صدمة عنيفة لنا ؛ لأنه غير مبرر ، ولأن العلاقة بيننا كانت قويَّة جدّاً ، ولأنني غير قادرة على فراق ابني : تركتُ لها البيت أنا وزوجي ، وسكنَّا مع ولدي الأكبر في الشقة الأخرى ، وخرجتُ من بيتي وأنا منهارة ، وأبكي بكاءً شديداً ، وبأعلى صوتي ؛ لأني لم أكن متوقعة أنني سأتعرض في حياتي لمثل هذا الموقف ، وبعدها وافق أبوها على إعادتها إلى البيت بعد خروجنا منه ، بشرط : أن لا يدخل منَّا أحدٌ عند ابنته ، وبعد فترة : أظهرت هي وأهلها استياءهم لعدم دخولنا عندهم - وذلك حرجاً من الناس فقط - ولكنني بعد ما حدث لم أستطع الدخول ، لا عندها ، ولا عند أهلها ، وتحوَّل حبِّي لها ولأمها إلى كرهٍ ، وأدعو عليهما ، ولي على هذا الحال حوالي عشرة أشهر ، وفي المقابل : هناك قطيعة من قبَلهم ، والتواصل بيننا عدمٌ ، وأنا في حالة قلق ، وخوف من الحرام ؛ بسبب هذه القطيعة ، ومما أجده في نفسي ، من كرهٍ لم أستطع التغلب عليه . لذا أفيدونا - جزاكم الله عنا خير الجزاء - بما يتوجب علينا عمله ؛ وقاية من الوقوع في الحرام ، واتقاءً لغضب الله تعالى .

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله

أولاً :

اعلمي – أختنا السائلة – أنه من حق زوجة ابنك أن يكون لها مسكن مستقل ، يحتوي على ضرورات المسكن ، ويختلف الأمر سعة وضيقاً باختلاف قدرة الزوج ، وحال الزوجة ، وهذا من حقوق الزوجة التي يصح لها التنازل عنه لتسكن مع أهله ؛ فإن تنازلت عن ذلك ، أو شرط عليها أن يسكنها مع أبويه ، أو علمت ذلك من حال زوجها ، وقبلته : لم يكن لها أن تعود فتكلفه أن يستقل لها بسكناها .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" ومَنْ شرط لها : أن يسكنها منزل أبيه ، فسكنت ، ثم طلبت سكنى منفردة ، وهو عاجز : لم يلزمه ما عجز عنه ، بل لو كان قادراً فليس لها عند مالك ، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وغيره ، غير ما شرط لها " . "الاختيارات الفقهية" (541) .

ثانياً :

مما يجب عليك علمه – أختنا السائلة – أن زوجات أبنائك لا يجب عليهن خدمتكِ أنتِ وزوجكِ ، إلا أن يكون ذلك بطيب نفسٍ منهنَّ ، وليس من حق الزوج على زوجته خدمة أمِّه وأبيه ، ولا على مثل هذا تمَّ العقد الشرعي بينهما ، بل الواجب عليها خدمة زوجها ، والعناية بأولادها ، وأما تكليف الزوجات بالعناية بأهل الزوج ، والرعاية لهم : فهذا مما لا توجبه الشريعة على إحداهنَّ ، إلا أن تتبرع واحدة منهنَّ عن طيب نفسٍ منها ؛ احتساباً للأجر الأخروي ، وإرضاء لزوجها ، فالبحث عما يُرضي الزوج من الأعمال المباحة وفعله من قبَل الزوجة : مما يدل على رجاحة عقلها ، ومتانة دينها ، ومن لا تفعل : فلا حرج عليها .

وانظري في ذلك : جواب السؤال رقم : (120282) .

ثالثاً :

إذا كانت خدمتك ليست واجبة على زوجات أبنائك بأصل الشرع ، فقد قال الله تعالى : ( وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) البقرة/237 ، وقال تعالى : ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) البقرة /195 . وقد جرت عادة أهل المروءات بمثل ذلك ، لا سيما مع وجود القرابة والرحم بينكم ، وفراغها من الشغل بأولادها ، أو العمل خارج البيت .

لكن يجب على ولديك أن يساعدا زوجتيهما على ذلك ، فإن تثاقلت إحداهما ساعدتها الأخرى ، وليحاول الأبناء المساعدة في ذلك ، فإن كان عندهما قدرة على استئجار خادمة لكما ، وكان ذلك متاحا عندكم : فعليهما أن يعيناكم بتلك الخادمة ، وإلا فبإمكانهما أن يعينا زوجتيهما على تلك الخدمة بما يقدران عليه ، والكلمة الطيبة صدقة .

رابعاً :

ما حصل منك من تغير ناحية هذه المرأة وأهلها أمر طبيعي ؛ فقد جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها . لكن أهل الفضل لا يسترسلون وراء ذلك ، بل يجاهدون أنفسهم على التخلص من تلك الآثار ، والعفو والصفح عمن أساء . قال الله تعالى : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) الشورى/40. فإن ارتقى المرء إلى منزلة الإحسان إلى من أساء إليه ، فذلك الفضل العظيم من الله جل جلاله . قال تعالى :

( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فصلت /34-36 .

قال الشيخ السعدي رحمه الله :

" أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك ، فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، أي : فإذا أساء إليك مسيء من الخلق ، خصوصًا من له حق كبير عليك ، كالأقارب والأصحاب ، ونحوهم ، إساءة بالقول أو بالفعل ، فقابله بالإحسان إليه ، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك ، فاعف عنه ، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين . وإن هجرك وترك خطابك ، فَطيِّبْ له الكلام ، وابذل له السلام ، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة.

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي: كأنه قريب شفيق.

وَمَا يُلَقَّاهَا أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله ، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته ، وعدم العفو عنه ، فكيف بالإحسان ؟!

فإذا صبر الإنسان نفسَه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا يفيده شيئًا ، ولا يزيد العداوة إلا شدة ، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره ، بل من تواضع للّه رفعه ، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذًا مستحليًا له.

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ لكونها من خصال خواص الخلق ، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة ، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق . " انتهى .

"تفسير السعدي" (749) .

وفي صحيح مسلم (2588) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ) .

نسأل الله أن يصلح ذات بينكم ، وأن يهدينا سواء السبيل .

والله أعلم