عنوان الفتوى : الأمر بكتابة الدين بين الوجوب والاستحباب
عند ما أردت شراء قطعة من محل سألني عن دفعة مقدمة من المال كضمان له ليقوم بدفع الضريبة حتى إذا ما جهزت الضريبة رجعت و دفعت كامل المبلغ، أنا وافقت على ذلك و طلبت منه إيصالا بقيمة الدفعة المقدمة مقابل المال الذي دفعته، و لكنه رفض و قال إن هذا المبلغ قليل والثقة أهم شيء وأنا عندي كلمة و يمكنك طلب استرداد أي مبلغ من حقك من أي شخص في المحل بمجرد ما تقول أني أعطيت فلان-يقصد نفسه- المبلغ و كأنه شعر بالإهانة من طلبي الايصال، من جهتي أستطيع القول بأن الرجل صادق في كلامه، و أثناء الحديث قلت له إن الثقة موجودة و لكن هذا الإيصال للزمن فيمكن أن لا أجدك في الأيام القادمة، فقال لي ستجد زميلي الذي كان حاضرا، فقلت له قد لا أجد زميلك أيضا وزدت على ذلك فقلت له أني قد لا أجد المحل أصلا. فقال لي إني متشائم، أنا أصررت على طلبي للإيصال وأخذته ولكني أحسست أني جرحت شخصا له اعتبار كبير لكلمته.سؤالي: ما هو التصرف أو الطريقة المناسبة لإقناعه؟ علما أني أصررت على طلب الإيصال وأنا في بالي آية الدين في آخر سورة البقرة، ولذلك أسأل ما الدليل على أن طلبي للإيصال صحيح؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فتوثيق العقود والمعاملات وما يتعلق بها أمر مشروع لاحتياج الناس إليه في معاملاتهم خشية جحد الحقوق أو ضياعها. وقد اختلف الفقهاء في حكم الأمر بالكتابة والإشهاد على قولين:
الأول: أن الأمر للندب، وذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد في المبايعات والمداينات لم يرد إلا مقرونا بقوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته. ومعلوم أن الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم لا على وجه الحقيقة، وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع، فإنها لو كانت لحق الشرع ما قال: فإن أمن بعضكم بعضا. ولا ثقة بأمن العباد، إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة، فالشهادة متى شرعت في النكاح لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضا، فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد مندوب غير واجب، وأن ذلك شرع للطمأنينة. فآية المداينات الأمر فيها إنما هو للإرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم كما أمر بالرهن والكتابة، وليس بواجب، وهذا ظاهر، صرح بذلك فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وذهب إليه أيضا أبو سعيد الخدري وأبو أيوب الأنصاري والشعبي والحسن وإسحاق وجمهور الأمة من السلف والخلف.
الثاني: أن الأمر للوجوب فالإشهاد فرض لازم يعصي بتركه لظاهر الأمر، وقال ابن عباس: إن آية الدين محكمة وما فيها نسخ. وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا باع بنقد أشهد ولم يكتب، وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد.
قال بذلك الضحاك وعطاء وجابر بن زيد والنخعي وابن جرير الطبري. اهـ من الموسوعة الفقهية.
والراجح هو قول الجمهور كما سبق بيانه في الفتويين: 18198، 14532.
وإذا علم هذا علم أن ما فعله السائل الكريم من طلب هذا الإيصال أمر مستحب على الأقل، وفي توثيق العقود والديون ونحو ذلك منفعة بصفة عامة، من أوجه:
أحدها: صيانة الأموال وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها.
والثاني : قطع المنازعة فإن الوثيقة تصير حكما بين المتعاملين ويرجعان إليها عند المنازعة فتكون سببا لتسكين الفتنة ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن تخرج الوثيقة وتشهد الشهود عليه بذلك فينفضح أمره بين الناس.
والثالث: التحرز عن العقود الفاسدة لأن المتعاملين ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب.
والرابع: رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الوثيقة لا يبقى لواحد منهما ريبة. راجع الموسوعة الفقهية.
وقد ذكر الشيخ السعدي في آية الدين خمسين فائدة، منها: الأمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها، لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم.
والله أعلم.