عنوان الفتوى : التوبة وعدم الاغترار بالعمل والرضا عن النفس
الحمد لله على نعمه علي عباده رغم تقصيرهم، فمنذ صغري وأنا أحفظ القرآن ومختلفة عن من هم حولي، ليس لي هم مثلهم، أذهب للمحاضرات مع أبي حتي وإن لم أفهم شيئا، أحب أصدقاء والدي الذين يأتون لحلقة القرآن، أجلس معهم أحب أهل الدين وتمنيت أن يرزقني الله زوجاً ذا خلق ودين حتي وإن لم يكن يملك شيئا كل هذه الأفكار من صغري، وبعد أن كبرت قليلاً وفهمت الحياة انجرفت قليلاً، وكنت أعود مرة أخرى، وقد مر علي وقت ارتكبت معصية وأقلعت بحمد الله، ولله الحمد ثبت الآن على الالتزام والحفظ وشارفت علي النهاية، ولكني أحس أن عملي كله رياء، وأن الناس يحبونني رغم تقصيري وعلمي بحقيقة نفسي.. وأفعل كثيراً من أمور الخير وأتمني أن أصل إلي مرحلة الرضا عن النفس وعدم الإحساس بالتقصير، فإلى الآن أصاحب الخيرين من الناس وأصحح أخطاء الآخرين، وأريد الخير للجميع وأساعدهم، وكلما أجد شيئاً من الوصايا أو الكتب التي تنفع الناس أوزعها وأطبع أوراق أجدها في مواقع إسلامية وأوزعها أيضاً... فكيف أقنع نفسي بأنني قد قبلت توبتي ورضي الله عني، وكيف أنزع الرياء من قلبي وأعيش سعيدة بالإيمان وحلاوته في قلبي.. فادعو لي بالزوج الصالح حتي يعينني علي العبادة وحب الخير للناس وإصلاح بينهم، أجيبوني بشيء من التفصيل لأنني أعيش نزاعا داخليا والحياة لا طعم لها عندي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله تعالى أن يرزقك الهدى والتقوى والعفاف والغنى... ثم اعلمي حفظك الله أن باب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان ما لم تطلع الشمس من مغربها أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}، وقال سبحانه: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110}، فالمؤمن ليس بالمعصوم من الذنب ولكنه لا يصر عليه، بل يبادر بالتوبة والإنابة إلى الله ويتبع سيئاته بحسنات ماحية، فلا تيأسي من روح الله، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وقد وصف الله المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135}، وقال أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ {الأعراف:201}، وراجعي لزاماً لتمام هذا المعنى الفتوى رقم: 111852.
فعليك أختي الكريمة أن تنشغلي بتحصيل شروط التوبة النصوح، وأن تجددي إيمانك دائماً، وتستقيمي على طاعة الله، وقد سبق لنا بيان وسائل الثبات على الدين وتقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة وذكر نصائح لاجتناب المعاصي وبيان شروط التوبة ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 1208، 5450، 29785، 76210، 12744، كما سبق بيان الأسباب المعينة على التخلص من غواية الشيطان في الفتوى رقم: 33860.
وكذلك سبق لنا بيان حقيقة الإخلاص وبواعثه وثمراته وحقيقة الرياء وآثاره وكيفية علاجه وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10396، 8523، 7515، 10992، 57643.
ثم ننبه السائلة على أن تمنيها الوصول إلى مرحلة الرضا عن النفس وعدم الإحساس بالتقصير هو أمر لا يحصل للعارف بالله العارف بنفسه وما يخيله الشيطان للإنسان من ذلك فهو وهم، قال ابن القيم في مدارج السالكين: العارف لا يرضى بشيء من عمله لربه، ولا يرضى نفسه لله طرفة عين ويستحيي من مقابلة الله بعمله... وكان بعض السلف يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ثم يقبض على لحيته ويهزها ويقول لنفسه: يا مأوى كل سوء وهل رضيتك لله طرفة عين. وقال بعضهم: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور. انتهى.
فلا أحد يضمن حصول رضا الله عنه، ولا يأمن سخطه ومكره، أو يتأكد من قبوله له، وقد وصف الله تعالى السابقين بالخيرات فقال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {المؤمنون:60-61}، قالت عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم. رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
فعلامة صدق النية أن لا يعجب المرء بعمله ولا يغتر به ولا يُدِلَّ به على ربه، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 31449، فالمسلم يرجو رحمة الله ويخشى عذابه ويحسن الظن به ولا يأمن من مكره، وقد سبق تفصيل هذا المعنى في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 22445، 47200، 75359، 30385.
والله أعلم.