عنوان الفتوى : رجعت لها وساوس الصلاة ، فلا تخشع فيها
كنت أعاني من وساوس الشيطان ، لكن الحمد لله تخلصت منها ، لكن الآن أصبحت مختلفة , أصبحت الوساوس في الصلاة , يعني أنني لا أخشع , وأستعيذ بالله ، وأحاول أبعدها , لكن بدون فائدة ، والمشكلة أن إيماني يقل لدرجة كبيرة , وإذا قلَّ الإيمان تقل الأعمال الصالحة .
الحمد لله
من علامات صلاح العبد وحياة القلب أن لا يزال في مراجعة تامة لأحواله ، وأعماله ،
وخطراته ، فالحساب يوم القيامة عسير ، والناقد سبحانه وتعالى بصير ، يعلم خائنة
الأعين وما تخفي الصدور .
غير أننا نخطئ حين نظن أن حياة القلب أمر يسير ، يمكن استجلابه في أي حين ، أو يمكن
تحصيله بأي سبب ، ولو كان الأمر كذلك لما وجدت درجات الجنة ولا دركات النار ، ولما
تفاضل الناس في الإيمان ، بل لصافحتنا الملائكة بالطرقات .
كلنا يعلم – أختي الكريمة – مكامن الضعف في نفسه ، ومواضع الزلل في قلبه ، ومتى
يزداد الإيمان في قلوبنا ، ومتى يهن اليقين في عزائمنا ، نَجِدُّ ونكبو ، ونسعى
ونتعثر ، ونحن في ذلك كله متعلقون برحمة الله وعطفه وإحسانه ، لا لفضلنا ومنزلتنا ،
وإنما لكرمه وجوده وواسع فضله سبحانه ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، يعلم ضعفنا
وعجزنا ، وخطأنا وجهلنا ، وكل ذلك عندنا ، بل جعل جميع تلك الخواطر والأحوال من
آياته التي يقسم بها ، فقال عز وجل : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) القيامة/1-2 .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله : " أما النفس اللوامة : فقال قرة بن خالد ، عن
الحسن البصري في هذه الآية : إن المؤمن - والله - ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت
بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قُدُما ما يعاتب
نفسه " انتهى باختصار .
"تفسير القرآن العظيم" (8/275) .
تأكدي أختي الكريمة أن الذي يظن أنه يجد الطمأنينة التامة في الدنيا ، والخشوع
الكامل ، أو أنه لا يتعرض لوساوس الشيطان ونفثات النفس الأمارة بالسوء ، فقد أخطأ
ظنه ، ولم يفلح في تجاوز ما يواجه من ذلك ، فالخطوة الأولى في العلاج هي تقبل الأمر
، واحتساب الأجر عند الله عز وجل ، وبهذا تتخلص النفس من أرق كبير يسببه شعورها
بالتفرد بالمعاناة ، والشذوذ عن جميع الناس .
ولا يعني ذلك القعود والتكاسل عن تحصيل معالي الأمور ، بل طلب الخشوع من الواجبات
باتفاق العلماء ، لكن الذي نعنيه من ذلك الحث على المصابرة والمجاهدة في استجلاب
اليقين التام ، والتذلل الكامل لله عز وجل ، في الصلاة وخارجها ، والله سبحانه
وتعالى سيكتب لكل من جاهد في سبيل ذلك الأجر العظيم عنده ، قال تعالى : (
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت/69 ، وقال سبحانه : ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران/200 .
والمسلم الذي يؤمن بهذه الآيات الكريمات ، لا يصيبه اليأس من تحصيل ما وعده الله
تعالى من النجاح والفلاح ، فالمهم هو سلوك الطريق الصحيح إلى الله عز وجل ، وطلب
أسباب الخشوع والطمأنينة ، وتحمل العناء في سبيل ذلك ، فإذا أصاب بعد ذلك المطلوب
فهنيئا له جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ، وإلا فثوابه في الآخرة عند الله تعالى ثواب
الصابرين ، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .
ونرجو من الأخت السائلة أن تستعين بما سبق نشره في موقعنا من نصائح مفيدة في أمر
الخشوع ودرء الوساوس وعلاجها ، لم نشأ أن نكررها هنا خشية الإطالة أو الإملال ، وهي
تحمل الأرقام الآتية : (25778)
، (39684) ، (106426)
.
كما ننصح بمراجعة قسم " الكتب " في موقعنا ، وقراءة رسالة بعنوان ( 33 سببا للخشوع
في الصلاة ) ، ففيها أمور مفيدة إن شاء الله تعالى .
ومع ذلك فلا نخلي جوابنا هنا من فائدة جديدة ، ننقلها عن واحد من أكثر العلماء
عناية بهذه الأبواب ، وهو الإمام الغزالي رحمه الله ، فنرجو قراءة هذا النص الذي
ننقله عنه بمزيد عناية وتأمل .
يقول رحمه الله :
" لا يلهي عن الصلاة إلا الخواطر الواردة الشاغلة ، فالدواء في إحضار القلب هو دفع
تلك الخواطر ، ولا يدفع الشيء إلا بدفع سببه .... فمن تشعبت به الهموم في أودية
الدنيا لا ينحصر فكره في فن واحد ، بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب .
فهذا طريقه أن يرد النفس قهرا إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ، ويشغلها به عن غيره ،
ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم ، بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة ، وموقف
المناجاة ، وخطر المقام بين يدي الله سبحانه ، وهو المطلع ، ويفرغ قلبه قبل التحريم
بالصلاة عما يهمه ، فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره .
فإن كان لا يسكن هوائج أفكاره بهذا الدواء المسكن ، فلا ينجيه إلا المسهل الذي يقمع
مادة الداء من أعماق العروق ، وهو أن ينظر في الأمور الصارفة الشاغلة عن إحضار
القلب فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات ، وقطع تلك العلائق ، فكل ما يشغله عن
صلاته فهو ضد دينه ، وجند إبليس عدوه ، فإمساكه أضر عليه من إخراجه ، فيتخلص منه
بإخراجه ، كما أنه صلى الله عليه و سلم لما لبس الخميصة التي أتاه بها أبو جهم
وعليها علم وصلى بها نزعها بعد صلاته ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( اذهبوا بها
إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي ، وائتوني بأنبجانية أبي جهم ) ، وكان صلى
الله عليه و سلم في يده خاتم ، وكان على المنبر ، فرماه وقال : ( شغلني هذا ، نظرة
إليه ، ونظرة إليكم ) ...... ، ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها
، لا ليتزود منها ، ولا ليستعين بها على الآخرة ، فلا يطمعن في أن تصفو له لذة
المناجاة في الصلاة ، فإن من فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته .
وهمة الرجل مع قرة عينه ، فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه ،
ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ، ورد القلب إلى الصلاة ، وتقليل الأسباب
الشاغلة ، فهذا هو الدواء المر ، ولمرارته استبشعته الطباع ، وبقيت العلة مزمنة ،
وصار الداء عضالا .. وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوسواس لنكون ممن
خلط عملا صالحا وآخر سيئا .
وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء
بخلٍّ ، فبقدر ما ندخل فيه من الماء يخرج منه من الخلِّ لا محالة ، ولا يجتمعان "
انتهىباختصار .
"إحياء علوم الدين" (1/161-165) .
والله أعلم .