عنوان الفتوى : ما هو التنطع المذموم ؟
ما معنى التنطع في الإسلام ؟ وهل تغطية الوجه وإعفاء اللحى والالتزام بجميع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ورفض كل ما هو مستحدث فى الدين يعد تشددا ؟ وما معنى أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ؟
الحمد لله
أولا :
الحديث الذي ورد في ذم التنطع جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلَكَ
الْمُتَنَطِّعُونَ . قَالَهَا ثَلَاثًا )
رواه مسلم (2670)
وللعلماء في تفسير " التنطع " و " المتنطعين " عبارات كثيرة ، تتوافق ولا تتعارض ،
وكلها تجتمع في معنى واحد ، يرجع إلى التكلف والتشدد فيما لا ينبغي وفي غير موضعه
الصحيح. ومن هذه المعاني :
1- الغلو في العبادة والمعاملة ، بحيث يؤدي إلى المشقة الزائدة ، والشريعة لم تأمر
إلا بما فيه يسر وسماحة ، ونهت عن التشدد في الدين ، وصور الغلو التي أحدثها الناس
في الدين وعدها العلماء من التنطع لا تكاد تحصى بعدد .
يقول النووي في "شرح مسلم" (16/220) :
" أي : المتعمقون ، الغالون ، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم "
انتهى
.
2- الابتداع في الدين ، بتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله ، واستحداث صور من العبادات
والإلزامات لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (10/620) - :
" الرهبانيات والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات
المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى
الله عليه وسلم حيث قال : ( هلك المتنطعون ) ، وقال : ( لو مد لي الشهر لواصلت
وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ) مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ،
ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والعري والمشي الذي يضر
الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ، وأن يقوم قائما ولا
يجلس ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس ،
وليستظل ، وليتكلم ، وليتم صومه ) رواه البخاري . وهذا باب واسع "
انتهى
.
3- التقعر في الكلام ، والتشدق باللسان ، بتكلف الكلمات التي تميل قلوب الناس إليه
، حيث لا معنى ولا مضمون ، ولا فائدة ترجى من تشدقه وتقعره .
فقد أورد ابن أبي الدنيا هذا الحديث في رسالة " الغيبة والنميمة " في باب " ما جاء
في ذم التقعر في الكلام " (ص/15) وروى فيه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (
إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ )
رواه أيضا أحمد في "المسند" (1/22) وحسنه
محققو المسند .
وروى فيه أيضا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( إن شقاشق الكلام من شقاشق
الشيطان )
قال ابن الأثير في "النهاية" (5/164) :
" المُتَنَطِّعون : هم المُتعَمِّقون المُغالون في الكلام ، المتكلِّمون بأقْصَى
حُلوقهم . مأخوذ من النِّطَع ، وهو الغارُ الأعْلى من الفَم ، ثم استُعْمِل في كل
تَعَمُّق قولاً وفعلا " انتهى
.
4- الخوض فيما لا يعني ، والسؤال عما لا ينبغي ، وتكلف البحث فيما لا يغني .
قال الخطابي :
" المتنطع : المتعمق في الشيء ، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين
فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم "
انتهى . نقلا عن " عون المعبود " (12/235)
ويقول ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص/285) :
" المتنطع : هو المتعمق ، البحاث عما لا يعنيه ؛ فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما
لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات ، قد يوجب اعتقاد تحريمه ، أو إيجابه لمشابهته
لبعض الواجبات أو المحرمات ، فقبول العافية فيه ، وترك البحث عنه والسؤال خير "
انتهى بتصرف. ثم ذكر ابن رجب رحمه الله أمثلة لما ينبغي تجنب البحث فيه من تفاصيل
أمور الغيب المجهولة والفروق الفقهية المتكلفة ، والتفريع على المسائل التي يندر
وقوعها، ونحوها.
قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين" (1/416-418) :
" كذلك أيضاً من التشديد في العبادة ، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في
الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه ، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله
فهو هالك .
ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى - ولا سيما في رمضان - حين يكون الله قد أباح له الفطر
وهو مريض ، ويحتاج إلي الأكل والشرب ، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً ، فهذا
أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث : هلك المتنطعون .
ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد ؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم
الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها ، ويسألون أسئلة ما كلفوا
بها ، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم ، فتجد
الواحد ينقب عن أشياء ليست من الأمور التي كلف بها تنطعاً وتشدقاً ، فنحن نقول
لهؤلاء : إن كان يسعكم ما وسع الصحابة رضي الله عنهم فأمسكوا ، وإن لم يسعكم فلا
وسع الله عليكم ، وثقوا بأنكم ستقعون في شدة وفي حرج وفي قلق ...
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية
؛ فتجده يقول : يحتمل كذا ويحتمل كذا ، حتى تضيع فائدة النص ، وحتى يبقى النص كله
مرجوجاً لا يستفاد منه . هذا غلط . خذ بظاهر النصوص ودع عنك هذه الاحتمالات العقلية
، فإننا لو سلطنا الاحتمالات العقلية على الأدلة اللفظية في كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ما بقى لنا حديث واحد أو آية واحدة يستدل بها الإنسان ، ولأورد
عليها كل شيء ، وقد تكون هذه الأمور العقلية وهميات وخيالات من الشيطان ، يلقيها في
قلب الإنسان حتى يزعزع عقيدته وإيمانه والعياذ بالله .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء ، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو
أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر ، وهو في عافية من ذلك . أيضاً في الاغتسال من
الجنابة ، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال ، في إدخال الماء في أذنيه ، وفي
إدخال الماء في منخريه .
وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون
. هلك المتنطعون )
فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث "
انتهى باختصار .
ثانيا :
أما الالتزام بشعائر الدين الظاهرة ، والمحافظة على حدود الله ، وامتثال أوامره ،
فهذا من واجبات الدين ، وسبيل دخول جنة رب العالمين ، ولا يعدها مِن التنطع إلا مَن
يريد التحلل من الشريعة ، والطعن في الأحكام الثابتة ؛ فإن التنطع المذموم هو خروج
عن قانون الشريعة وآدابها ، فكيف يكون التزامها ، والتمسك بها ، والعض عليها
بالنواجذ تنطعا ؟!!
والحَكَمُ الفصل في ذلك هو الأدلة من الكتاب والسنة ، فما جاءت به الأدلة الصحيحة
الظاهرة بإيجاب شيء – كغطاء الوجه وإعفاء اللحية – ، أو تحريم شيء – كتحريم المعازف
والاختلاط بالنساء ونحوه – فهذا لا يجوز وصفه بالتنطع والتشدد ، إذ يلزم منه اتهام
النبي صلى الله عليه وسلم - الذي أمرنا بها - بأنه متنطع !! وحاشاه صلى الله عليه
وسلم من ذلك.
أما ما لم تأت به النصوص ، وكان من أحد الأوجه الأربعة السابقة في تفسير التنطع ،
فهذا هو ما ينبغي ذمه واجتنابه ، ولا يخلط بينه وبين أحكام الشريعة الظاهرة الثابتة
.
ثالثا :
أما حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ
مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ
كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ )
رواه البخاري (3367) ومسلم (2327)
فلا يعني بوجه من الوجوه التخلي عن الشريعة ، والتقصير في الواجبات ، بل كان النبي
صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على تحقيق العبودية لله بجميع لوازمها ، ولكن المراد
بقوله ( بين أمرين ) أي من أمور الدنيا التي ليس للشرع فيها أمر أو نهي ، أو من
الأمور التي يسع فيها الاختيار من السنن والمستحبات ، أما إذا جاء التكليف بالوجوب
أو التحريم فيجب الوقوف عنده من غير تعد ولا تقصير .
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/575) :
" قوله : ( بين أمرين ) أي : من أمور الدنيا ، يدل عليه قوله : ( ما لم يكن إثما )
؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها ، وقوله : ( ما لم يكن إثما ) أي : ما لم يكن الأسهل
مقتضيا للإثم ، فإنه حينئذ يختار الأشد . وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط : (
إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ) "
انتهى
.
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |