عنوان الفتوى : الحكمة من الصلاة جهة الكعبة والطواف وتقبيل الحجر الأسود

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

في إحدى المرات كنت أصلي وكان بجانبي شخص وبعد أن انتهيت من الصلاة سألني سؤالا:لماذا تصلي باتجاه الكعبة؟ وما الحكمة من ذلك؟ ولماذا الطواف حول الكعبة؟ وما الحكمة منه؟ علما أنه تحوي حجارة؟بصراحة تفاجأت ولم أدر ما أجيبه لذلك أرجو من حضرتكم إجابتي عن هذا

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

خلاصة الفتوى:

هنالك أمران لا بد من استحضارهما ليزول هذا الإشكال الذي عندك:

الأمر الأول: لا بد من التسليم لأمر الله تعالى والانقياد له في الفعل والترك سواء علم المرء الحكمة أم لا، وهذا من أعظم مقاصد التكاليف الشرعية لما يقتضيه من تجلِّي معاني العبودية الحقة الخالصة لله تعالى.

الأمر الثاني: وهو متصل بما سبق أن تعظيم هذا المكان عند المسلمين وارتباطه بعبادتهم إنما استمده من تعظيم الله له، وأمرهم بتعظيمه وعبادته فيه.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فان لكل التشريعات الربانية حكما قد تظهر للناس وقد تخفى عليهم، والواجب على المسلم هو  التسليم لأمر الله، وإذا أردنا تلمس بعض الحكم لاستقبال الكعبة.. فان أهم حكمة هي كونه يشتمل على العمل بأمر الله تعالى في قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. {البقرة: 149}

ثم إن كل إنسان في جميع أحواله لا بد له من استقبال شيء ما، وأشرف الجهات هي جهة البيت العتيق فهو قبلة المتعبد؛ ولذا نزه في الشرع عن استقباله وقت البول، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبد الرحمن بن زيد قال: قيل لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال سلمانأجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن يستنجي برجيع أو عظم. رواه مسلم.

وفي حديث أبي أيوب في الصحيحين: لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولا تستدبروها

فالمصلي يستقبل البيت الذي شرفه الله وأضافه لنفسه وأمر بحجه والطواف به، وجعله مباركا ومثابة للناس وحرما آمنا. فقد قال الله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.{ الحـج: 26} وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . {آل عمران: 97-98}  وقال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. {البقرة:125}

وقد ذكر بعض العلماء أن العرب كانوا يعتزون بالبيت فتعبدهم الله باستقبال المسجد الأقصى، فلما أطاعوا الله في ذلك حولهم للمسجد الحرام ليربيهم على الطاعة له والاتباع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله هو مالك جميع الجهات والأماكن فهو يوجه من شاء لما شاء، كما قال الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. {البقرة: 142}

قال ابن كثير في التفسير : إن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً لما له تعالى في ذلك من الحكمة ، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة ، فامتثل أمر الله في ذلك أيضاً ، فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين، وأمته تبع له. اهـ

  

ويقول الأستاذ سيد -رحمه الله - في الظلال : لقد كان تحويل القبلة أولاً عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس: ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) . . فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم ، ويعدونه عنوان مجدهم القومي . . ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله ، وتجريدها من التعلق بغيره ، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة ، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم، فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام ، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى ، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية ، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية ، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر ، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة ، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد . .

 حتى إذا استسلم المسلمون ، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم ، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام ، ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه هي حقيقة الإسلام،  حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله ، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم بالإسلام الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته .....

 لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين، وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده ، كما عهد به يعقوب - وهو إسرائيل - ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين .

 ولقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت الحرام فهو تراث لهما ، يرثه من يرثون عهد الله إليهما . . والأمة المسلمة هي الوارثة لعهد الله مع إبراهيم وإسماعيل، ولفضل الله عليهما فطبيعي إذن ومنطقي أن ترث بيت الله في مكة ، وأن تتخذ منه قبلة .

 فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى ، الذي يتجه إليه اليهود والنصارى، فقد كان هذا التوجه لحكمة خاصة هي التي أشار إليها السياق ، وبيناها فيما سبق . فالآن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة ، وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم - وهو الإسلام - فيشاركوا في هذه الوراثة، الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه، تحويلها إلى بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة حسيها وشعوريها ، وراثة الدين ، ووراثة القبلة ، ووراثة الفضل من الله جميعا . اهـ

  

وأما الطواف فمن حكمه إقامة ذكر الله؛ كما في الحديث: إنما جعل الطواف بالكعبة وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل . رواه أحمد وابن خزيمة والأثرم وابن المنذر. وقال الأعظمي : إسناده صحيح، ورجح الألباني ضعفه.

 

قال المناوي: يعني إنما شرع ذلك لإقامة شعار النسك.

 

وأما الحجر الأسود.. فإن وجوده في البيت وتقبيله ولمسه ليس فيه ما يستغرب، فنحن لا نعبده ولا نعتقد فيه النفع ولا الضر، وإنما نلتمس امتثال أمر الله وحصول الثواب المرتب على لمسه وتقبيله، فقد روى البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

وجاء في فضل استلامه قول النبي صلى الله عليه وسلم: والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق. رواه الترمذي عن ابن عباس، وصححه الألباني

 وفي الحديث:  إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطا. رواه أحمد وصححه الألباني.

والله أعلم.