الثبات عند الممات ... عشرون موقفا من حياة السلف
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
الثَّبَاتِ عِنْدَ الْمَمَاتعشرون موقفًا من حياة السلف
الخشيةُ من الزَّيغ شأن أُولِي الألباب، وقد ذكرَ الله سبحانه تضرُّعهم وسُؤالهم إياه التثبيتَ على الهداية والحق، والسلامةَ من الزَّيغ، وذلك في قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وعن أُمِّ سلمة - رضي الله عنها - قالت: كان أَكثَرُ دُعَاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلْبي على دينك؛ (رواه الترمذي).
وهذ المسألة - أعني: الثَّبَاتِ عِنْدَ الْمَمَاتِ - شغلت العلماء منذ زمن بعيد، فألَّفَ فيها أبو بكر ابن أبي الدنيا (ت: 281هـ) كتابه المحتضرين، كما ألَّفَ فيها محمد بن يزيد الثمالى الأزدي (ت: 285هـ) كتابه التعازي والمراثي والمواعظ والوصايا، وللإمام جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي (ت: 597هـ) كتاب: الثَّبَاتِ عِنْدَ الْمَمَاتِ، وخصص أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين بابًا في كلام المحتضرين من الخلفاء والأمراء والصالحين، ختمه بقوله:
فهذه أقاويلهم، وإنما اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم، فَغَلَب على بعضهم الخوف، وعلى بعضهم الرجاء، وعلى بعضهم الشوق والحب، فتكلم كل واحد منهم على مقتضى حاله، والكل صحيح بالإضافة إلى أحوالهم؛ ا.هـ.
والمسلم في هذا العصر - الذي انبعَثَ فيه سيلٌ من المُغرِيات المُغوِيات - أحوج ما يكون الى الثبات على الهداية والعصمة من الضلال.
وفي هذه المقال ذِكْر لبعض ما أُثِرَ عن السلف الصالح، ومعلوم أن ما أُثِرَ عنهم في ذلك كثير، لكني رأيتُ - تجنبًا للإطالة والتكرار - أن اقتصر على اثنين وعشرين موقفًا فقط من حياة التابعين ومَنْ بَعْدهم، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، انتقيتها من المراجع المُشار إليها، بالإضافة إلى موسوعتي صِفَة الصفوة وسِيَر أعلام النبلاء.
وقد اقتضى الأمر التعليق على بعض المواقف بما يزيل الغموض ويمنع اللبس، عَدَد هذه التعليقات ثلاثة، صَدَّرْتُها بكلمة (قُلْتُ).
نسأل الله السداد والتوفيق وأن يجعلنا من عباده الصالحين.
1- الرَّبِيع بْنِ خُثَيْمٍ (ت: 63 هـ):
لَمَّا احْتُضِرَ الرَّبِيعُ بَكَتِ ابْنَتُهُ فقال: يَا بُنَيَّةُ لا تَبْكِي، ولَكِنْ قُولِي: يا بُشْرَى، اليَوْمَ لَقِيَ أَبِي الْخَيْرَ.
2- إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ (ت: 96 هـ):
دَخَل عليه جماعة من أصحابه حِينَ ثَقُلَ به المرض، فَجَعَلَ يقول: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وهو على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَلَمَّا زَادَ ثِقَلًا جَعَلَ يَنْقُصُ حَتَّى قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَضَى.
3- عبدالرحمن بن الأسود (ت: 99 هـ):
لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قال: أَسَفًا عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَمْ يَزَلْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ حَتَّى مَاتَ.
4- الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (ت: 110 هـ):
• لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَخَلَ عليه رجال من أصحابه، فقالوا زَوِّدْنَا مِنْكَ كلمات ينفعنا الله عز وجل بِهِنَّ، قال إِنِّي مُزَوِّدُكُمْ ثلاث كلمات ثم قوموا ودعوني لِمَا تَوَجَّهْتُ له:
ما نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنْ أَمْرٍ فكونوا من أترك الناس له، وما أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أَنَّ خُطَاكُمْ خُطْوَةٌ لَكُمْ وَخُطْوَةٌ عليكم فَانْظُرُوا أَيْنَ تَغْدُونَ وَأَيْنَ تَرُوحُونَ.
• و كان يُغْمَى عليه ثُمِّ يَفِيقُ ويقول: صَبْرًا وَاحْتِسَابًا وَتَسْلِيمًا لأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى قُبِضَ.
5- طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ (ت: 112 هـ):
قَالَ جلساؤه: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فيه أَن طاووسا كان يَكْرَهُ الأَنِينَ، فَمَا سُمِعَ طَلْحَةُ يَئِنُّ حَتَّى مَاتَ.
قُلْتُ: قسم العلماء الشكاية والأنين في المرض إلى قسمين:
• أنين شكوى وتسخط واعتراض على القدر، فهذا منهي عنه.
• أنين استراحة وتنفيس وتخفيف عن النفس، فلا يكره، وقد ترجم البخاري في صحيحه: بَابُ قَوْلِ المَرِيضِ: (إِنِّي وَجِعٌ)، أَوْ (وَا رَأْسَاهْ)، أَوِ (اشْتَدَّ بِي الوَجَعُ).
6- ثَابِتُ الْبُنَانِيُّ (ت: 127 هـ):
قال ابنه مُحَمَّدُ: ذَهَبْتُ أُلَقِّنُ أَبِي وهو فِي المَوْت فَقلت يا أَبَة، قَلْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
فَقَالَ يَا بُنَيَّ خَلِّ عَنِّي، فَإِنِّي فِي وِرْدِيَ السَّابِعِ.
كَأَنَّهُ يَقْرَأُ وَنَفْسُهُ تَخْرُجُ.
7- مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ (ت: 131 هـ):
• لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قال: لَوْلا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَصْنَعَ مَا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ كان قَبْلِي (وفي رواية: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً) لأَوْصَيْت أَهْلِي إِذَا أَنَا مِتُّ أَنْ يُقَيِّدُونِي، وَيَجْمَعُوا يَدِي إِلَى عُنُقِي، فَيَنْطَلِقُوا بِي على تِلْكَ الحَالَةِ حَتَّى أُدْفَنُ، كَمَا يُصْنَعُ بِالْعَبْدِ الآبِقِ، فَإِذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَى اللَّهِ فَسَأَلَنِي - وَهُوَ أَعْلَمُ -: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: يَا رَبِّ لَمْ أُرْضِ لَكَ نَفْسِي قَطُّ.
قُلْتُ: استحب العلماء أن يغلب الرجاء على العبد عند نزول الموت، فهذا هو الأصلح له، لأن الخوف كالسوط الباعث على العمل، وليس هناك وقت للعمل، فلا يستفيد الخائف حيئنذ شيئًا، وقد يجره ذلك إلى اليأس والقنوط، فالرجاء في هذه الحال يقوى قلبه، ويحبب إليه ربه.
8- سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ (ت: 143 هـ):
قَالَ ابنه: حِينَ حَضَرَ أبي الْمَوْتُ، قال لي: يَا بُنَيَّ حَدِّثْنِي بِالرُّخْصِ لَعَلِّي أَلْقَى اللَّهَ تعالى وَأَنَا حَسَنُ الظَّن به.
9- أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج (ت: 144 هـ):
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُطَرِّفٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي حَازِمٍ الأَعْرَجِ لَمَّا حَضرَهُ المَوْتُ، فَقُلْنَا: كَيْفَ تَجِدُكَ؟
قَالَ: أَجِدُنِي بِخَيْرٍ، رَاجِياً للهِ، حَسَنَ الظَنِّ بِهِ، في الموت راحة للمؤمنين.
ثم قرأ: ﴿ ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198].
10- عون بن عبدالله (ت: 151 هـ):
قال أحد جلسائه: كان ابن عون في مرضه أصبر مَنْ أنت راء، ما رأيته يشكو شيئًا من عِلَّته حتى مات.
11- الإمام مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ (ت: 179 هـ):
قال إسماعيل بن أبي أويس: مَرِضَ مالك، فَسَأَلْتُ بَعْضَ أَهْلِنَا عَمَّا قال عند الموت.
قالوا: تَشَهَّدَ، ثُمَّ قال: ﴿ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ [الرُّوْمُ: 4].
12- حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانَ (ت: 180 هـ):
لَمَّا حَضَرَه الموت، قال له بعض إخوانه: كيف تجدك؟ قال: أَجِدُنِي بِحَالِ الْمَوْتِ، قالوا: أَفَتَجِدُ لَهُ كَرْبًا شَدِيدًا؟ فبكى ثم قال: إن ذاك.
ثم قال: ينبغي للمؤمن أَنْ يُسْلِيهِ عَنْ كَرْبِ الموت وَأَلَمِهِ ما يرجو من السرور في لقاء الله.
13- أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ (ت: 193 هـ):
لَمَّا حَضَرَتْ أبا بكر الوفاة، بَكَتْ أُخْتُهُ، فقال لها: مَا يُبْكِيْكِ؟ انْظُرِي إلى تلك الزاوية، فقد خَتَمَ أَخُوْكِ فيها ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ خَتْمَةٍ.
14- آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلانِيُّ (ت: 221هـ):
لَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الوَفَاةُ، خَتَمَ القُرْآنَ وَهُوَ مُسَجَّىً، ثُمَّ قال:
بِحُبِّي لَكَ إِلاَّ مَا رَفَقْتَ لِهَذَا المَصْرَعِ، كُنْتُ أُؤَمِّلُكَ لِهَذَا اليَوْمِ، كُنْتُ أَرْجُوْكَ، ثُمَّ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ قَضَى - رَحِمَهُ اللهُ.
15- إبراهيم بن هانئ (ت: 265 هـ):
كَانَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ يَغْشَاهُ، ويَحْتَرِمُهُ وَيُجِلُّهُ ويقول عنه: مَا أُطِيْقُ مَا يُطِيْقُ إبراهيم مِنَ العِبَادَةِ.
لَمَّا حَضَرَتْه الوفاة، قال: أَنَا عَطْشَانُ.
فَجَاءهُ ابْنُهُ بِمَاءٍ.
فقال ابراهيم: هل غربت الشمس؟ قال لا.
ثم قال يا أبت: قد رخص لك في الإفطار في الفرض وأنت متطوع.
قال: أمهل.
ثم قال: ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَاملُوْنَ ﴾ [الصَّافَاتُ: 61]، ثُمَّ مَاتَ.
16- أبو الوفاء بن عقيل (ت: 513 هـ):
لَمَّا احْتُضِرَ بَكَى أَهْلُهُ، فقال لهم: لي خمسون سَنَةً أُوَقِّعُ عَنْهُ فَدَعُونِي أَتَهَنَّى لِمُقَابَلَتِهِ.
17- أبو حامد الغزالي (ت: 505 هـ):
قال أخوه أحمد: لما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وَصَلَّى، وقال عَلَيَّ بِالْكَفَنِ، فَأَخَذَهُ وَقَبَّلَهُ، وَتَرَكَهُ على عَيْنَيْهِ، وقال: سَمْعًا و طَاعَةً، الدخول على الْمَلِكِ، ثُمَّ مَدَّ رِجْلَيْهِ، واستقبل القبلة، ومات قَبْلَ الإِسْفَارِ(أي قبل طلوع النهار).
18- أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ (ت: 527 هـ):
حَكَى عَنْهُ أحد رفقائه أَنَّهُ كان عِنْدَ مَوْتِهِ يُوصِي ويقول: افْعَلُوا كذا وكذا، وَصِيَّةَ مَنْ لا يَكْتَرِبُ بِالمَوْتِ، ولا يَغْتَمُّ به، وكَأَنَّهُ تَنَقَّلَ مِنْ دَارٍ إِلى دَارٍ.
19- أَبُو بَكْرٍ بْنُ حَبِيبٍ (ت: 530هـ):
لَمَّا احْتُضِرَ قال له أَصْحَابُهُ أَوْصِنَا فقال أُوصِيكُمْ بِثَلاثٍ:
بتقوى الله عز وجل، ومراقبته في الخلوة، واحذروا مصرعي هذا، فقد عِشْتُ إحدى وستين سنة وما كَأَنِّي رَأَيْتُ الدُّنْيَا.
ثم قال لبعض إخوانه: انظر هل ترى جَبِينِي يَعْرَقُ؟ فقال نعم.
فقال: الحمد لله، هذه علامة المؤمن.
يريد بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ) ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ عند الموت وقال:
هَا قدْ مَدَدْتُ يَدِي إلَيْكَ فَرُدَّهَا...
بِالْفَضْلِ لا بِشَمَاتةٍ الأَعْدَاءِ
قُلْتُ: الحديث المذكور رواه الترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم.
ومعناه كما قال العلماء: أي: عرق جبينه حال موته علامة إيمانه، لأنه إذا جاءته البشرى مع قبيح ما جاء به، فعند ذلك يستحيي من ربه تعالى ويخجل ويفرح، فيعرق جبينه، وقيل: معناه أن المؤمن يهون عليه شدة كرب الموت، فلا يجد من شدته إلا قدر ما يعرق من جبينه.
20- عبد الوهاب الأَنْمَاطِيُّ (ت: 538 هـ):
قال عنه تلميذه أبو الفرج ابن الجوزي: دَخَلْتُ عليه في مرضه وقد ضَنِيَ جِسْمُهُ، وهو ساكن صابر، فقال لي: إِنَّ اللَّهَ لَا يُتَّهَمُ فِي قَضَائِهِ.
21- أَبُو الْوَقْت عبد الأول (ت: 553 هـ):
كان صالحا كثير الذكر و لما احتضر كان آخر كلمة قالها: ﴿ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعلمُوْنَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلنِي مِنَ المُكْرَمِينَ ﴾ [يس: 27]، ومَاتَ.
22- أبو محمد ابْن الْخَشَّابِ (ت: 567 هـ):
قال ابو الفرج ابن الجوزي: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وهو فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَهُوَ سَاكِنٌ غَيْرُ مُنْزَعِجٍ، فَقال لِي: عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ نَفْسِي.