منهج الإسلام في تربية العبد الرباني
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
منهج الإسلام في تربية العبد الرباني وأساس هذا المنهج هو قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]، ومثله: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، ونجد أن الترتيب جاء متدرجًا كما يلي: يتلو عليهم - يزكيهم - يُعلِّمهم الكتاب والحكمة.
فالتلاوة لا بد منها لحصول التزكية، ولا تتم التزكية بغير التلاوة، والتزكية لا بد منها لتحصيل علم الكتاب، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، وعِلم الكتاب لا بد منه لتحصيل الحكمة وتعلُّمها.
وإذا كان هذا هو طريقَ تحصيل الحكمة، وأنها لا تأتي دفعةً واحدة، فإنها في المقام الأول هبةٌ وتفضُّل ومِنَّة من الله تعالى، وهو فضل الله يؤتيه مَن يشاء من عباده، قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، والحكمة هي الأسلوب الأمثل والمؤهِّل الأساس للدعوة إلى الله تعالى، كما قال - عز وجل -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125].
ومنهج الإسلام في تربية العبد الرباني يقوم على ثلاث دعائم، وهي:
1- العلم؛ يقول - عز وجل -: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19].
2- الإيمان.
3- العمل الصالح.
فالعلم لا بد منه قبل العمل؛ كي يكون العمل صوابًا، ولكي يكون مقبولاً عند الله تعالى، كما قال - عز وجل -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
أما الإيمان والعمل الصالح، فإن العمل الصالح هو دليل الإيمان، والإيمان هو الباعث والمحرِّك للعمل الصالح، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -:
(أقسم سبحانه أن كل أحدٍ خاسر إلا مَن (كمَّل) "قوته العلمية" بالإيمان، وقوته "العملية" بالعمل الصالح، و(كمَّل) غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه، فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمَّانِ إلا بالصبر عليهما، والتواصي بهما، وكان حقيقًا بالإنسان أن يُنفِق ساعات عمره - بل أنفاسه - فيما ينال به المطالب العالية، ويخلص من الخسران المبين)[1].
مراحل التربية:
وللوصول إلى الهدف الأسمى، وهو بناء العبد الرباني، فإن ذلك لا بد أن يكون على مراحل وبتدرج، وتلك المراحل هي:
1- الإسلام.
2- الإيمان.
3- الإحسان.
والتربية لا بد أن تكون على أساس الدين، وهذه المراتب الثلاث هي الدين، كما جاء في صحيح مسلم [عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما] قال: حدَّثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
"بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفُه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتَيْه إلى ركبتَيْه، ووضع كفَّيْه على فَخِذَيْه، وقال: يا محمد، أخبِرْني عن الإسلام، فقال: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: صدقتَ، فعجِبْنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تُؤمِن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتُؤمِن بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل))، قال: فأخبرني عن أَمَاراتِها، قال: ((أن تَلِدَ الأَمَةُ ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان))، قال: ثم انطلق فلبثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدرى مَن السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل؛ أتاكم يُعلِّمكم دينكم))[2].
فيكون البَدْء بالمرتبة الأولى، وهي الإسلام، ثم الترقي إلى المرتبة الأعلى، وهي الإيمان، ثم التدرج إلى أعلى المراتب، وهي مرتبة الإحسان.
المرتبة الأولى: الإسلام:
والإسلام لغةً: الانقياد والإذعان.
وفي الشريعة حالتان:
الأولى: أن يُطلَق على الإفراد غير مقترن بالإيمان، فحينئذٍ يُراد به الدينُ كله أصوله وفروعه من اعتقادات وأقوال وأفعال.
الثانية: أن يطلق مقترنًا بالاعتقاد، فحينئذٍ يُراد به الأعمال والأقوال الظاهرة.
المرتبة الثانية: الإيمان:
والإيمان لغة: التصديق: قال - عز وجل -: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17][3].
وفي الشريعة، فإن إطلاقه له حالتان:
الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بالإسلام؛ فحينئذٍ يراد به الدين كله.
الثانية: أن يطلق مقرونًا بالإسلام، فحينئذٍ يفسر بالاعتقادات الباطنة، كما في حديث جبريل وما في معناه.
المرتبة الثالثة: الإحسان:
والإحسان لغة: إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه.
وفي الشريعة: هو ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم فسَّر الإسلام هنا بالأقوال والأعمال الظاهرة، وفسَّر الإيمان بالأقوال والأعمال الباطنة، والإحسان هو تحسينُ الظاهر والباطن، ومجموع ذلك هو الدين، والكل من هذه المراتب مبني على أركان[4].
إذاً فالبَدْء إنما يكون بأركان الإسلام، وأولها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وبهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وظل القرآن الكريم يَنْزل بمكة ليُعرِّف الناس بربهم، ويدعوَهم إلى توحيد الله عز وجل، ثم كان التشريعُ بالمدينة بعد أن استقرَّ الإيمان في القلوب، وتهيَّأت النفوس لقبول التكاليف.
والالتزام بأركان الإسلام الظاهرة، والمواظبة عليها، إنما يؤدي إلى المرتبة الثانية، وهي حصول الإيمان، ويزداد الإيمان قوةً كلما تقرَّب العبد إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل، حتى يصل إلى أعلى الدرجات، وهي الإحسان، وهو على درجتين كما جاء في الحديث السابق.
الدرجة الأولى: أن تعبد الله كأنك تراه، وهو مقام المشاهدة.
الدرجة الثانية: استحضار المشاهدة، ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، وهو مقام الإخلاص، وهذا المقام هو الوسيلة الموصلة إلى المقام الأول والدرجة الأولى[5].
إذًا فالهدف من التربية هو الوصول إلى أعلى درجتي الإحسان، وكما رأينا، فإن الوصول إلى هذه الدرجة يحتاج إلى جهد وصبر، ومجاهدة وتدرج.
أعود فأقول:
إن التربية تقوم على منهج، وهذا المنهج يقوم على التدرُّج لتحديد الأولويات ليكون البَدْء بالأهم ثم المهم؛ وذلك للوصول إلى الهدف المنشود من منطلق تصور واضح، وقاعدة شرعية.
يقول الأستاذ رفاعي سرور:
"وإذا كان منهج التربيةُ يهدفُ بالاعتبار العقيدي إلى تكوين (العبد الرباني) لتحقيق التجرد، ويهدف بالاعتبار الأخلاقي إلى تكوين (المثال الإنساني) لتحقيق القدوة، ويهدف بالاعتبار المادي إلى تكوين (الإمكانية البشرية) لاستخلاص الطاقة، فإن المنهج بالاعتبار القدري يهدف إلى تكوين أداة الخير لتحقيق الهداية؛ أي: الداعي المثالي، وبهذا الاعتبار يكون منهج التربية هو أسلوبَ تكوين تلك الأداة؛ ليكون المسلم صاحبَ دعوةٍ ورسالة، وذلك من خلال سنن النفس البشرية كما أوجدها الله تعالى، مرتكزًا على الخصائص التي أودعها الله تعالى في تلك النفس، مستفيدًا بالفاعلية القدرية للنفس البشرية في الواقع الكوني بالصفة العامة والفردية، مستحدثًا بهذا المنهج أثرًا هائلاً في النفس، وبهذه النفس أثرًا هائلاً في الدعوة، وبهذه الدعوة أثرًا هائلاً في الوجود"[6].
من كتاب: "خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله ( فقه التدرج )"
[1] مدارج السالكين؛ ابن القيم، المكتب الثقافي للنشر والتوزيع، جزء 1 ص20.
[2] صحيح مسلم بشرح النووي، طبعة دار الشعب، تحقيق عبدالله أحمد أبو زينة، جزء 1 كتاب الإيمان ص133.
[3] سورة يوسف 17.
[4] انظر: معارج القبول؛ تأليف الشيخ العلامة حافظ بن أحمد الحكمي، المطبعة السلفية، طبعة 3 198م، جزء 2 ص 18 - 22.
[5] المرجع السابق جزء 2 ص 274.
[6] كتاب قدر الدعوة؛ للمؤلف أ.
رفاعي سرور، مكتبة الحرمين للعلوم النافعة، 1992، ص 291، 292.