أرشيف المقالات

تفسير: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد}

مدة قراءة المادة : 33 دقائق .
تفسير قوله تعالى
﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾


بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى ذكره: ﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 8-11].
 
"تغيض" تمتص من ماء الذكر وتتشربه وتحتويه وتنضم عليهم فيستقر في مكانه الذي أعده الله فيها لتخليق الأجنة وتكوينها، يقال "غاض الماء" أي تشربته الأرض وامتصته وابتلعته فذهب في جوفها واحتوت عليه في باطنها، و "تزداد" تنمو وتربو وتزيد عن حالها المعتادة، "والأرحام" جمع "رحم" وهو العضو الذي جعله الله في الأنثى مستقراً لماء الذكر ومستودعاً لتخليق الجنين وتكوينه فيه وتصويره بإذن الله كيف يشاء ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 6]، وإنما سمي "الرحم" رحماً" لأنه أجلى مظاهر رحمة الله إذ جعله الله برحمته بحيث يمتص ماء الذكر، ثم ينكمش عليه، ويشتمل أتم اشتمال وانكماش، حتى لا تفسد النطفة باختلاط، واد أجنبية عنها ثم أخذ يمتصه ويطبخه، بما أودعه الله فيه من القوى والمواد حتى أخذ أطواره: من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى عظم ثم كسا الله العظام لحماً، ثم أنشاه خلقاً آخر ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، فإذا نفخ فيه الروح دبر غذاءه في هذا لمكان الذي لا تناله به ولا بصر ولا حيلة لوالد ولا والدة، ولا أحد في التماس الغذاء ولا دفع الضرر عن ذلك الجنين بل دبر الله ذلك بلطفه ورحمته ألطف تدبير، فأجرى إليه من دم الأم الذي هو خلاصة غذائها بواسطة الحبل السري المتصل ببطنه من طرف، وطرفه الآخر متصل بالأم بواسطة المشيمة التي تكونت معه بجذور لاصقة بجدار الرحم وأحاطته رحمة الله ولطفه بأغشية ومواد لزجة ومياه مختلفة التركيب والقوام، بحيث يصير كأنه يعوم في بحر متلاطم، حتى لا يصدم ولا يصطدم بجدار الرحم، فيؤذي الأم، ويتأذى هو بصلابة تلك الجدران، وما زال ذلك البحر يتسع كلما زاد حجم الجنين حتى يبلغ غايته بقدرة الله ورحمته، فإذا كمل تخليق أعضاء الجنين واستحكم وبلغ نموه الذي هو على قدر الحرم وفي حدود وظيفته وطاقته بمقتضى الرحمة، وقوي أديمه على مباشرة الهواء، وبصره على ملاقاة الضياء، وصلبت عظامه على مباشرة الأيدي والتقلب على الأرض، وصار بحيث يضره البقاء في هذا المكان ويضر بقاؤه هو العضو هاج الطلق بالأم فأزعج الجنين إلى الخروج أيما إزعاج، وركضه الرحم من مكانه بعنف وقوة، وفت الله به برحمته ذلك الباب الضيق ووسعه بحيث يمرق منه مروق السهم، لا يخنقه ولا يضايقه، فإذا تأملت كيف دخلت من هذا الموضع نطفة، ثم خرجت إنساناً خلقاً سوياً تبين لك من آثار رحمة الله بك ولطفه ما يتضح لك منه لِم سمي هذا الموضع "رحماً" ثم هو كذلك أقوى سبب في تراحم وتعاطف الذين حواهم وضمهم وخلقهم الله فيه من الأخوة والأخوات، ثم هو سبب للصهر الذي هو من أقوى أسباب التعارف والتراحم، من أجل هذا سمي "رحماً" وجعل الله بسببه من حقوق الصلة والبر بذوي الأرحام ما هو معروف في الكتاب والسنة.
 
وقوله ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ فالمقدار في اللغة: "القدر" "والمقدار" أيضاً: الهنداز الذي يقدر به الشيء ويقاس به القماش ونحوه، يعني أن الأشياء كلها علويها وسفليها، ناطقها وصامتها؛ عند الله خالقهاً ومدبرها ومقدرها؛ وبمقتضى سننه الكونية وأحكامه وتدبيره: بمقدار معلوم عنده سبحانه مفصلة ومهيأة على صورة معينة وزمان معين سبق في علمه قبل كونها في الوجود الحسي أن تكون بحسبه وعلى قدره وهيئته، وفي الشكل والحجم والطول والعرض، واللون وبقية الصفات، لكل شيء بحسبه.
ومادة "التقدير" استعملت في القرآن الكريم في عدة مواضع، ولعدة معان ترجع كلها إلى معنى التحديد؛ والتفصيل المنظم المحكم.
 
وقوله ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91]، أي ما أعطوا الله سبحانه حقه المحدد المفصل المعين م أسمائه وصفات حمده ومده وتنزيهه عما لا يليق به؛ بل خلطوا حقه بحق أوليائهم العاجزين الضعفاء، وأعطوهم من حق الله في العبادة ما ينبغي أن يكون خالصاً له، وأعطوا الله من اتخاذ الوسطاء والشفعاء في قضاء حاجات الدنيا واستجابة دعائهم ما هو من خواص المخلوق الذي لا يقدر ولا يعلم ﴿ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]، فهي أيضاً راجعة إلى معنى التحديد والتعيين والتفصيل وتجنب التخليط والعبث والفوضى والقول بغير الحق والعدل، قال تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ﴾ [يونس: 5]، وقال ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ﴾ [يس: 39]، وقال ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ [الفرقان: 2]، وقال ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]، وقال ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ﴾ [المؤمنون: 18]، وقال ﴿ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [المزمل: 20]، وقال ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ﴾ [الشورى: 27]، وقال ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [المرسلات: 20-23]، وقال ﴿ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾ [الطلاق: 3].
 
وقوله ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ "الغيب" كل ما غاب عن الحواس الخمس التي هي سبيل العلم في الإنسان فلا سبيل لها إلى أدراكه وأصله من غابت الشمس إذا استترت وراء الأفق عن العين، قال تعال على لسان سليمان ﴿ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20]، و"الشهادة" أصل معناها: الحضور مع المشاهدة، ثم أطلقت على الأمر الواقع تحت إدراك الحواس أو أحدها، فطبعت صورته في كحافظة الإنسان قال تعالى ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الكهف: 51]، وقال ﴿ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ ﴾ [الزخرف: 19]، فالمعنى: أنه سبحانه أحاط علمه بكل شيء: ما يغيب عن حواس الناس وبصائرهم وما يشهدونه ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 3]، ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
 
وقوله ﴿ الْكَبِيرُ ﴾ بمعنى العظيم والجليل، ومعناه يعود إلى كبر قدره سبحانه واستحقاقه صفات العلو، وهو أكبر من كل كبير، لأن كل كبير يصغر بالإضافة إليه.
﴿ الْمُتَعَالِ ﴾: العلو: الارتفاع "العلي" هو الرفيع، فالمتعال هو الذي يرتفع ويعلوا عن وصف الواصفين، ويعلو ويرتفع عما يتوهمه المشركون الذين وصفوه بما لا ينبغي لعظمته وكبريائه وجلاله من اتخاذ الوسطاء والشفعاء، ومن احتياجه إلى من يتمم له دينه ويكمل له شرائعه بما تهوى العقول وتستحسن الآراء.
وقد قرأ ابن كثير "المتعالي" بإثبات الياء وقفاً ووصلاً.
وهو القياس، وليس ما فيه الألف واللام من هذا كما لا ألف ولا لام فيه من هذا النحو، مثل "قاضٍ وغازٍ" وقال سيبويه: إذا لم يكن في موضع تنوين فإن البيان أجود في الوقف، نحو قولك: هذا القاضي.
لأنها ثابتة في الوصل.
يريد أن اللام مع الألف تثبت ولا تحذف كما تحذف في الوصل، فإذا حذفت في الوصل كان القياس أن تحذف في الوقف وهي اللغة التي أشيع وأفشى، فأما إذا دخلت الألف واللام فلا تحذف اللام التي أثر عند سيبويه! فأما من حذف في الوقف والوصل فإن سيبويه زعم أن من العرب من يحذف هذا في الوقف يشبهه بما فيه ألف ولام إذا كانت تذهب الياء في الوصل في التنوين لم يكن فيه ألف ولام، هذا في الوقف، وأما في الوصل فكان القياس ألا تحذف، لأنه لا يوجب حذفه شيء غير أن الفواصل تشبه بالقوافي...
ا هـ.
 
قوله ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ "سواء" اسم بمعنى استواء مصدر استوى، ووصف به، بمعنى مستوٍ، وهو يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو، وإذا كانت مصدراً فالمعنى: ذو سواء، كما تقول: عدل زيد وعمرو؛ أي ذو عدل، وهي هنا مصدر، بمعنى: مستوٍ.
أي كلا الأمرين عند الله متساويين: الإسرار بالقول، والجهر به، لا يزيد أحدهما في الوضوح وإحاطة الله بعلمه عن الآخر و "أسر القول" كتمه وأخفاه في سريرته وصدره، و "جهر به" أظهره وأعلنه وأصل "الجهر" ظهور الشيء بإفراط، يقال: جهر البئر واجتهرها، إذا أظهر ماءها.
 
﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ﴾ أي مستتر بظلام الليل، سواء كان ساعياً تحت جنح الظلام في فساد ومعصية، أو كان ساعياً في خير وطاعة لله وإصلاح.
﴿ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ قال الفراء وأبو إسحاق الزجاج: ظاهر بالنهار في سربه، أي طريقه، يقال خلِّ له سربه، أي طريقه.
قال الأزهري: والعرب تقول: سربت الإبل تسرب، أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت.
قال الزجاج والفراء: معنى الآية: الجاهر في نطقه والمضمر في نفسه؛ والظاهر في الطرقات ولمستخفي في الظلمات علم الله فيهم سواء؛ وقال الأخفش وقطرب "السارب" المتواري الداخل سرباً وانسرب الوحش، إذا دخل في كناسه.
اهـ ومادة "سرب" تدل بمختلف متصرفاتها على أن الشيء المتصف بها ليست حقيقته على ما يظهر لرائيه، فالسراب: ما يتوهمه السائر الظمآن وقت الحر ماءً وليس هو بماء.
و"السرب" الطريق الضيق؛ الذي هو لضيقه كأنه ليس بطريق ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾ [الكهف: 61]، أي حوت موسى عليه السلام.
معناه: شق الماء على قدر جسمه، وأوغل في البحر وترك وراءه أثراً خفيفاً في الماء يعلم به موضعه، وإن كان في الحقيقة ليس طريقاً.
فيكون معنى "السارب" على هذا – والله أعلم- الذي يحاول الاختفاء في وضح النهار، فهو في ظنه ووهمه مختف، وفي حقيقة الأمر ونفس الواقع ليس بمختف؛ وإن الذين يمشون في الأرض فساداً إما أن يمشوا بالليل مستترين بظلمته، وإما أن يمشوا بالنهار محاولين الاختفاء بما يظنونه ساتراً لهم عن أعين الناس.
والله أعلم؛ وقوله ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ [الرعد: 11]، أي للإنسان المعلوم من قوله ﴿ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ﴾ [الرعد: 10]، وقيل: الضمير يعود على اسم الله في عالم الغيب والشهادة و "المعقبات" المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلاً منه؛ وهم الملائكة الحفظة.
قال الفراء: "المعقبات" ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار؛ قال الأزهري: جعل الفراء "عقب" بمعنى "عاقب" كما يقال: ضعف بمعنى ضاعف، وعقد بمعنى عاقد؛ وقال أبو الهيثم: كل من عمل عملاً ثم عاد إليه فقد عقب؛ ويقال للذي يغزو غزواً بعد غزو، والذي يتقاضى الدين فيعود إلى غريمه في تقاضيه: "معقب" أهـ والمعنى: أن الله سبحانه قد وكل بالإنسان ملائكة يتعاقبون الليل والنهار في حفظه وحراسته من بين يديه ومن خلفه في يقظته ونومه من والهوام والحشرات والسباع والوحوش.
ولولا ذلك لم يستطع الإنسان لضعفه أن يعيش في أمن وسلام، من تلك العوادي والضواري وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم – وهو أعلم بكم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» وعلى هذا فسر قوله سبحانه ﴿ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾ [الاسراء: 78]، أي تشهده ملائكة الليل والنهار.
 
وقوله ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ ذكر الفراء فيه قولين.
أحدهما: أنه على التقديم والتأخير.
تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه.
وعلى هذا لا تعلق ليحفظونه بمن.
وهو معنى قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير في هذه الآية.
قال: هم الملائكة، وهم من أمر الله، والثاني أن هذا على إضمار، أي ذلك الحفظ من أمر الله أي من أمر الله به، قال ابن الأنباري، فحذف الاسم وأبقى خبره.
كما تكتب على الكيس: الفان.
أي في الكيس الفان.
ونحو هذا قال الزجاج، لأنه قال: حفظهم إياه من أمر الله، وأي مما أمرهم الله به؛ لأن أنه يقدرون أن يدفعوا أمر الله، وهذا معنى قول سعيد بن جبير: حفظهم له من أمر الله؛ وهناك قول آخر؛ هون أن (من) مؤدية عن معنى الباء، إذا الصفات يقوم بعضها مقام بعض، كما تقول: أجبتك من دعائك إياي أي بدعائك، والتأويل: يحفظونه بأمر الله.
وهذا قول مجاهد وعطاء وابن عباس والحسن وقتادة.
والمراد من أمر الله هنا أمره الكوني المبين في قوله سبحانه ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، ونحوها من الآيات، وأولئك الملائكة الحرس القائمون بأمر الله على حفظ الإنسان من المدبرات أمراً، الذين أقامهم الله في حفظ الكائنات الأرضية، من النبات والحيوان والجبال والهواء والماء وغيرها مما يتعلق بهذه الأرض وأهلها من عاقبة ومرض وصحة واعتلال، ونحو ذلك وكذلك للسموات وما فيها نحو ذلك.
والله أعلم.
 
قال أبو طاهر -عفا الله عنهما-: دبر الله سبحانه وتعالى على المشركين الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتعنتوا في طلب الآيات والمعجزات التي يريدون أن يغير الله بها سننه الكونية: دليلاً على صدق رسوله، وزعم لهم شيطان الجهل والغرور أن الله لا يفعل ذلك، لأنه عاجز عنه، وكان جحدهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم جحداً لكل نبوة، واستبعاداً أن يكون هناك ما يدعو إلى دين يأخذ الناس بالأمر والنهي والحظر والإباحة فليس بالناس حاجة إليه، لأنهم في غنى عنه بما في أيديهم من أهواء رؤسائهم وعادات آبائهم، أو لأن الحياة الدنيا استغرقت كل تفكيرهم فنسوا أن بعدها حياة آخرة سيجزون فيها بما كسبوه في هذه الدنيا من خير وشر، وأنها هي الحياة الدائمة الباقية.
فكان غرورهم بالدنيا وإغفالهم للآخرة، وفتنتهم بالدنيا وزينتها، ونسيانهم للآخرة ونارها ونعيمها – كان ذلك أكبر سبب يدعوهم إلى تكذيب رسل الله الذين بعثهم الله مبشرين ومنذرين، وأرسلهم يدعون الناس إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وما يترتب على ذلك من تزكية أنفسهم وتطهيرها من الرجس والإقلاع عن عادات وتقاليد موروثة زينتها النفس الجاهلة، وأوحت بها شياطين الإنس والجن لتصد القلوب وتصرفها عن بارئها وفاطرها الذي سعادتها في عبادته، فتتخذ من دونه آلهة من الخلق ومعبودات لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، وليكون دينهم الظنون الآثمة وما تهوى أنفسهم من الفواحش والمنكرات ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ [لأعراف: 28]، ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ﴾ [لنجم: 23]، وأن لأولئك الأولياء والآلهة من السلطان النافذ، والتصرف المطلق في ملك الله سبحانه في الدنيا والآخرة حتى أنهم ليدخِلون الجنة والنار من يشاءون ويخرجون منهما من يشاءون، فما على أحدهم إلا أن يطلب من الله الجنة لأحد محاسيبه؛ أو النار لمن كان ينكر عليه فيجاب إلى ذلك؛ فما للناس بعد هذا وللرسل يأمرونهم بالعمل والعبادة والطاعة ويكلفونهم خلاف ما تهوى أنفسهم وما ألفوا من عادات الآباء والأجداد ويخوفونهم عذاب الله وغضبه؟ وهل غضب الله إلا في غضب أولئك الأولياء أو رضاه إلا في رضاهم؟ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً؛ فهذا الذي كان – ولا يزال – مستقراً في نفوس الجاهلين الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله – هو الذي أغراهم بعداوة الأنبياء، وحملهم على محادتهم والعمل بعكس ما يدعونهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات؛ ﴿ اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]، ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [النمل: 14]، ولقد حاول ويحاول حزب الشيطان أن يضعوا على عيونهم أغشية من الجهل محاولين حجب آيات الله وإطفاء نورها؛ ولكن الله سبحانه لم يجعل لهم ولن يجعل لهم إلى ذلك سبيلا، فقد بث في السموات والأرض وفي أنفسهم آيات ناطقة بلسان الحال والمقال.
بأنه أحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين؛ وأنه القادر الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً؛ وأنه الحكيم الخبير الذي ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى؛ وأنه لا يعجزه شيء في السموات والأرض؛ فضلاً أن تعجزه آية يؤيد بها نبيه.
وكم له سبحانه من آية في السماوات و الأرض والأنفس لا يحصيها العد ولا يعجزه أن يعيد الإنسان كما خلقه أول مرة فيجزيه الجزاء الأوفى ففي هذه الآيات يبسط الله الدليل على عظيم قدرته وباهر صنعته وبليغ حكمته وواسع علمه والذي يرتب الأشياء بمقتضاه في الوجود التكويني أحكم ترتيب وأدقه، وقد مزج الله سبحانه في هذه الآيات كشأن كثير غيرها – آيات القدرة الباهرة مع آيات العلم المحيط، مع آيات العظمة والاستعلاء وشدة البطش التي لا يغلبها غالب.
 
وتأمل تلك الآية وما فيها من عجيب صنع الله وعظيم قدرته ولطيف رحمته بالإنسان وغيره من الحيوان إذ جعل نسله من سلالة من ماء مهين؛ ونبهنا إلى دقة الصنعة في تكوين هذا الإنسان جنيناً وخلقة من هذا الماء المهين، وكيف أنه سبحانه جعل الرحم كالأرض الخصبة ينزل عليها الماء فتمتصه وفيه جرثومة الخلق وبذرة الحيوانية، فتحتضنه وتغذوه مدة معلومة مقدرة بتقدير الحكيم الخبير الذي أتقن كل شيء صنعه، وأسن تقدير كل شيء خلقه وصوره، ثم يزداد كما تزداد الأرض وتهتز وتربو حتى يكمل نمو ذلك الخلق وتكوينه؛ فيفتق عنه الأغشية والحجب التي ضمته وحضنته ويخرج بشراً سوياً، كما يفلق الحبة والنواة عن الزروع والثمار، وتأمل كيف أن الله سبحانه قدم في أول هذه السورة آيات قدرته في الأرض وما يخرج منها ﴿ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ﴾ [الرعد: 4]، ثم عقبها كذلك بآية في الأرحام وخلق الإنسان والحيوان منها كذلك مختلف الأشكال والألوان والعقول والأمزجة والأخلاق الحلوة والمرة والمالحة و الحامضة والقلوب والنفوس كذلك واختلاف الألسنة، وكلها من رحم واحدة وتسقى بماء واحد، فسبحان الله العليم الحكيم، وتأمل حكمته سبحانه في أنه كذلك جعل من الأرحام عقيماً؛ كما جعل من الأرض سبخة لا تمسك ماء ولا تنبت شيئاً، ومن الأرحام ما يتكون فيه أكثر من جنين، كما أن من الأرض ما تنفلق الحبة والنواة فيها عن عدة أعواد وأشجار، والكل محل واحد يغيض الماء ويبلعه، ثم يزاد على ما يشاء الله ويقدر؛ أو يفسد الماء والبذر على ما يشاء ويقدر سبحانه العلي القدير فالذي هذا بعض آياته في أنفسنا وفيما نعانيه بالعمل كل يوم، ونشهده كل صباح ومساء ويعجزه أن ينزل من عنده آية يؤيد بها رسوله ومصطفاه إذا كانت رسالته بحاجة إلى هذه الآية؟ أو يعجزه أن يعيد الإنسان إلى الحياة مرة ثانية ويجزيه على ما عمل في هذه الدنيا من صالح أو سيء أو خير أو شر؟ كلا ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180-182].
 
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج: 5-7]، ولكن صدق الله ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146].
 
قال الإمام العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله في كتاب مفتاح دار السعادة:
وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى التفكر في القرآن أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله: من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه.
فهذا تعرّف إلى عباده؛ وندبهم إلى التفكر في آياته؛ ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه ليستدل بها على غيرها؛ فمن ذلك خلق الإنسان.
فقد ندب الله سبحانه إلى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه؛ كقوله ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق: 5]، وقوله ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذريات: 21]، وقوله ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [القيامة: 36-40]، وقوله ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [المرسلات: 20-23]، وقوله ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77]، وقوله ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12-14]، وهذا القرآن كثير، يوعد الله العبد إلى النظر والتفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره، إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره وبارئه وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنه، معرضين عن التفكير فيه.
ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره، قال تعالى ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾ [عبس: 17-18]،
فلم يكرر الله سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذه الآيات لنسمع ذكر النطفة والعلقة والمضغة والترائب أو لنتكلم بها فقط؛ ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله، هو المقصود بالخطاب.
وإليه جرى ذكر الحديث.
 
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة؛ وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر لو مرت به ساعة من زمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب؛ منقادة لقدرته؛ مطيعة لمشيئته، مذللة أتم انقياد وتذليل؛ على ضيق طرقها واختلاف مجاريها؛ إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد وجعله لهما قراراً مكيناً، لا يناله هواء يفسده، ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه.
ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد.
ثم جعلها مضغة لحم، مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظاماً مجردة لا كسوة عليها؛ مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها وقدرها وملمسها ولونها.
 
وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين وبين ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده من الانحلال؟ وكيف كساها لحماً ركبه عليهاً وجعله وعاء لها وغشاء وحافظاً وجعلها حاملة له مقيمة له؟ فاللحم قائم بها وهي محفوظة به؟ وكيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ، ومد اليدين والرجلين وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع؛ ثم قسم الأصابع بالأنامل وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد منها له قدرة يخصه ومنفعة تخصه.
 
ثم أخذ الإمام الجليل القوي الإيمان الذي رزقه الله فقهاً عظيماً وبصيرة نافذة في دينه وكتابه - يتكلم على تكوين الإنسان وعظامه وأعضائه ووظائفها ومنافعها وحكمتها وبديع صنعة الله فيها عضواً عضواً في كلام ممتع جداً، وعلم غزير جم لا تجد له عند غيره نظيراً، مما يستوجب على كل مسلم أن يستوعبه قراءة وفهماً ليزداد به إيماناً ويقيناً وهدى ونوراً.
ثم قال: والمقصود: التنبيه على أقل القليل من وجوه الحكمة التي في خلق الإنسان.
والأمر أضعاف أضعاف ما يخطر بالبال، أو يجري فيه المقال.
وإنما فائدة ذكر هذه الشذرة التي هي كل شيء بالنسبة إلى ما وراءها - التنبيه، وإذا نظر العبد إلى غذائه فقط في مدخله ومستقره ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب، وكيف جعلت له آلة يتناول بها، ثم باب يدخل منه، ثم آلة تقطعه صغاراً؛ ثم طاحون يطحنه، ثم أعين بماء – ينبع من غدد في الشدقين - يعجنه ثم يجعل له مجرى وطريقاً إلى جانب النفس، ينزل هذا ويصعد هذا فلا يلتقيان مع غاية القرب، ثم جعل له حوايا وطرقاً توصله إلى المعدة فهي خزانته وموضع اجتماعه ولها بابان، باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه ثفلة، والباب الأعلى أوسع من الأسفل، إذ الأعلى مدخل الطعام للحاصل، والأسفل مصرف للضار منه، والأسفل منطبق دائماً ليستقر الطعام في موضعه، فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح إلى انقضاء الدفع.
ويسمى البواب، والأعلى يسمى فم المعدة والطعام ينزل إلى المعدة متكيساً، فإذا استقر فيها انماع وذاب، ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية، بل ربما تزيد على حرارة النار ينضج بها الطعام فيها كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به، ولذلك يذيب ما هو مستحجر كالحصى وغيره حتى يتركه مائعاً، فإذا أذابته علا صفوه إلى فوق ورسا كدره إلى أسفل، ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن يبعث فيها معلومات كل عضو وقوامه بحسب استعداده وقبوله.
فيبعث أشرف ما في ذلك وألطفه وأخفه إلى الأرواح.
فيبعث إلى البصر بصراً، وإلى السمع سمعا، إلى الشم شما وإلى كل حاسة بحسبها.
فهذا ألطف ما يتولد عن الغذاء.
ثم ينبعث منه إلى الدماغ ما يناسبه في اللطافة والاعتدال، ثم ينبعث من الباقي إلى الأعضاء في تلك المجاري بحسبها، وينبعث منه إلى العظام والشعر والأظفار ما يغذيها ويحفظها.
فيكون الغذاء داخلاً إلى المعدة من طرق ومجار، وخارجاً نمها إلى الأعضاء من طرق ومجار.
هذا وارد إليها، وهذا صادر عنها.
حكمة بالغة ونعمة سابغة.
 
ولما كان الغذاء إذا استحال في المعدة استحال إلى مرة سوداء، ومرة صفراء وبلغما، اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل واحد من هذه الأخلاط مصرفاً ينصب إليه ويجتمع فيه، ولا ينبعث إلى الأعضاء الشريفة إلا أكمله، فوضع المرارة مصباً للمرة الصفراء، ووضع الطحال مقراً للمرة السوداء، وجعل الكبد تمتص أشرف ما في ذلك، وهو الدم، ثم تبعثه إلى جميع البدن من عرق واحد ينقسم على مجار كثيرة؛ يوصل إلى كل واحد من الشعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكون به قوامه.
 
ثم إذا نظرت إلى ما فيه من القوى الباطنة والظاهرة المختلفة في أنفسها ومنافعها رأيت العجب العجاب؛ كقوة سمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه وحبه وبغضه، ورضاه وغضبه.
وغير ذلك من القوى المتعلقة بالإدراك والإدارة؛ وكذلك القوى المنصرفة في غذائه كالقوة المنضجة له وكالقوة الماسكة له والدافعة له إلى الأعضاء والقوة الهاضمة له بعد أخذ الأعضاء حاجتها منه إلى غير ذلك من عجائب خلقته الظاهرة والباطنة – في حوالي المائة صفحة من هذا الكتاب لجليل.
 
وذهب ابن القيم رحمه الله يشرح الإنسان تشريحاً علمياً حكيماً من أول كونه نطفة إلى جميع أطواره وأدواره، ويبرز حكم الحكيم العليم في هذا الخلق البديع ويظهر الإنسان على ما لله سبحانه من الرحمة والفضل على الإنسان في كل هذه الأدوار وأنه بكل هذا حري أن يعرفه حق معرفته ويخلص له العبادة وحده ويعظم شكره على ما أسبغ عليه من هذه النعم التي مصدرها العدل والحكمة وأن ينزه الله ربه عما يصفه به المعطلون والزنادقة الملحدون.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180-182].
 
مجلة الهدي النبوي - المجلد السادس - العدد (13-14) - رجب سنة 1361هـ

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن