أرشيف المقالات

العدل في الإسلام

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
العدل في الإسلام

ما عهدَت البشرية شعباً أرحم ولا أمة أعدل من الشعب العربي والأمة الإسلامية.
كم يرى المرء في هاته الحياة من جمال ساحر، ويتعشق من نظام بديع فاتن، ولكن لم يبصر يوماً أجمل من العدل، ولم يتعشق كتعشقه للوفاء والرحمة والصدق.
وكم ينتاب الشعوب مر الألم، وينـزل بها عظيم الخطوب، فلم تتوجع لذلك النفوس، وتتألم الأفئدة كتألمها من الغدر.
 
العدل منبع الحرية الصافي ونور المدنية الوهاج، على أساسه يبنى الملك، ويقوى السلطان، فهو سر نظام الأمم، ورمز نجاحها وتقدمها، فما سطعت شمسه على شعب إلا هام في سماء الطمأنينة، ورتع في بحبوحة الرخاء، وما غربت شمسه عن أمة إلا اندك صرح مجدها وتقوض بنيان عزها، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 6 - 14].
 
فأية أمة تجردت من العدل، وتسربلت برداء الظلم والغدر، تلك هي الأمة الهمجية والشعب المتوحش، تلك هي الأمة الساقطة والشعب السافل، تلك هي الأمة التي محت اسمها من تعداد البشرية، وقيدته في سجل العجماوات، قدر لها عاراً في الحياة، وويلاً في الممات، فهي عدوة الإنسان، ملعونة في نظر الديان، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ - أي الظالمون -  فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾.
﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]!
 
ولو نقبنا في تاريخ العالم أجمع، وتتبعنا أديان الأمم، وطباع البشرية قاطبة، لا نجد ديناً أسمى وشرعاً أقوم، وقانوناً أعدل وأحكم من دين الإسلام، لا نجد شعباً تأصلت في نفوسهم الرحمة، وتشبعوا بروح العدالة والمساواة كالشعب العربي والأمة الإسلامية، فسلوا الأمم الماضية، واستوحوا الشعوب الغابرة، أولم تكن في عهد الفرس ترسف في قيود الاستبداد المطلق ويتخبطها شيطان الاستعباد، أوَلم تكن في عهد الرومان تئن تحت كابوس العسف والخسف، من حرر تلك البشرية من العبودية ورفع فوق الأمم أعلام الحرية وراية العدل والمساواة؟
 
أليس الإسلام وأبناء الإسلام من زرع في النفوس الصدق وحبب إليها الرحمة والإنصاف والوفاء؟ أليس الإسلام وأبناء الإسلام! قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13] ، فأي شيء أدل على الحرية السامية والمساواة الحقة من هذا؟ وأي شيء أدعى إلى الصدق والعدل من قوله سبحانه: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47]، ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58] وأي نهي أشد وترغيب في العدل أحسن من قوله سبحانه: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8] وأي زجر أكبر ووعيد أرهب وأصرم من قوله سبحانه: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3].
 
هذا هو دين الإسلام وعدله وهذا وفاؤه وصدقه، انظروا إلى ذلك، ثم ارجعوا بالطرف إلى أعصر المسلمين الزاهرة، أيام كانت تخفق أعلامهم فوق أربعة أقطار المسكونة، أيام دانت لهم ملوك الأرض وانقادت لهم كافة الشعوب، أولم يأخذوا إذ ذاك بيد الضعيف حتى أخذوا له الحق من القوي؟ أولم يبددوا الفوضى ويحطموا عروش الأرستقراطية والاستبداد؟ أولم تستظل تحت رايتهم المذاهب المختلفة، والعناصر المتباينة، فعاش الشرقي والغربي، الأبيض والأسود.
عاش المسلم، والنصراني، واليهودي في كنف الإسلام عيشة الهناء والرخاء؟ فنظرة بسيطة في سيرة المهذب الأكبر والمنقذ الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، ونظرة في سيرة خلفائه وأتباعه، يتضح بهما لكم صدق ذلك، يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام.
كان عليه السلام يرتب الجيش يوماً في غزوة بدر فضرب أعرابياً ضرباً خفيفاً لتخلفه عن الصف فقال له الأعرابي - وهو سواد -: أوجعتني يا رسول الله أريد القصاص، فكشف له الرسول عن بطنه الشريف، وقال له: "اقتص يا سواد" فهجم الأعرابي على الرسول ولثم بطنه الشريف، فقال له النبي ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: أردت أن يمس جلدي جلدك قبل أن يدركني الموت.
 
وأذن عليه السلام للناس قبل موته بأن من له حقاً عنده فليطلبه، وإذا كان نحو ضرب فليقتص منه؛ وقد قال عليه السلام: "لقد شقيت إن لم أعدل"، "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
 
وروي أنه اجتمع في مجلس النبي يوماً عبدالرحمن بن عوف، وهو من أعز أصحاب الرسول وأكرمهم عنده؛ وحضر عبد من العامة يخاصم عبدالرحمن في شيء، فغضب منه وقال له: يا ابن السوداء! فما كاد النبي يسمع ذلك حتى احمر وجهه غضباً، ورفع يده معنفاً عبدالرحمن أي تعنيف، وقال له تلك الكلمة الخالدة التي يحق لأمم الأرض أن تستقي منها شرعة العدل والمساواة:"ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان إلا بالحق" فاستخذى عبدالرحمن رضي الله عنه، ورأى أن يعتذر للعبد أوضع اعتذار وآلمه، فقام ووضع خده على الأرض وأهاب بالعبد: "أَنْ طأ عليه حتى ترضى"!
 
فلينظر دعاة العدل، محمد أشرف من طلعت عليه الشمس وأظلته السماء، يقف أمام أعرابي من جنده ليقتص الأعرابي منه، مع أنه يحق له ضربه لتعليمه وتأديبه، ولكن هي الرحمة والأخلاق، ثم يأبى وهو المهذب الأكبر أن يجامل في حد من حدود الله، ولم يجعل أمام الحق ميزة لأحد في الوجود على أحد، حتى ولا لأصحابه ولا لبنته بل ولا لنفسه، فتلكم هي الديموقراطية التي تنشدها الأمم، وهذه هي المساواة التي يتغنى بها الغرب، وتلكم هي الرحمة، وهذا هو العدل الذي جاء به محمد بن عبدالله زرعها في نفوس أصحابه حتى أصبح طبعاً من طباع المسلمين، وواجباً من واجبات الإسلام.
 
وها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب لنا مثلاً أعلى في العدل أيضاً، قد رأى يوماً شيخاً نصرانياً يسأل عن باب المسجد، فرق له عمر وقال: (ما أنصفناك يا هذا أخذنا منك الجزية فتى وأضعناك شيخاً)، ثم فرض له مالاً من بيت مال المسلمين وبقي يتقاضاه طيلة حياته.
 
وقد ادعى يوماً يهودي على علي بن أبي طالب بحضرة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقال عمر: قم يا أبا الحسن ساو خصمك، فظهر على وجهه أثر الغيظ ثم قام وجلس بجانب اليهودي.
وبعد انتهاء المحاكمة قال الخليفة عمر لعلي كرم الله وجهه: لعلك اغتظت من قولي لك: (قم يا أبا الحسن ساو خصمك) قال: لا، وإنما اغتظت لأنك كنيتني أمام خصمي، فكان ينبغي أن تقول: قم يا علي ساو خصمك.
يعني لم يرد علي رضي الله عنه التعظيم بجانب خصمه.
 
أين دعاة الحرية والمساواة، أين الغربيون دعاة العدل والمدنية، هل عندهم شيء من ذاك الإنصاف؟ هل عرفوا العدل والمساواة كما عرفها المسلمون، فجلس للحكم عندهم أكبر شخصية عهدها التاريخ كعلي بجانب مثل ذاك اليهودي؟ هل جبروا يوماً كسر شرقي؟ هل عطفوا على مسلم ضعيف عاجز كما عطف خليفة المسلمين على ذاك الشيخ المسيحي فخصص له ما يقوم بحوائجه من بيت المال؟ اللهم لا! إنا نراهم عكس ذلك نرى الحرية عندهم ذلاً، والمدنية استعباداً، نرى الرحمة عندهم قسوة، والعهد خداعاً وغدراً، نرى الحق عندهم بجانب القوة، والشرف وليد الثروة والجاه، وإذا ثارت فيهم ثورة الجشع والطمع تقلص في صدورهم العدل، وزعزع العهد، ونـزعت من عواطفهم الرحمة وخفر الذمام، حتى يلتهموا حق الضعيف، ويدوسوا ابن الإنسان العاجز.
 
تعالوا نتتبع أكبر دول الغرب واحدة واحدة ولنقارن بين معاملتهم للمسلمين وبين معاملة المسلمين للأمم نجد برهاناً على ما قلنا، ودليلاً على رحمة العرب وعدل الإسلام.
فها هي بريطانيا العظمى اليوم تدعي أنها أسمى دول العالم مدنية وحرية وعدلاً، سلوا عنها الدماء البريئة لم تريقها في فلسطين؟ سلوا عن مدنيتها الشيوخ الركع كيف تذبحهم بسيف الظلم الجائر، سلوا الأطفال الرضع كيف تختطفهم برصاصها الغاشم، الله أكبر! سلوا المؤمنات الغافلات كيف رحلت! سلوا عنها دور العرب ومساجدهم وكنائسهم كيف دكت! سلوا الشباب المسلم لم يأوون إلى سفوح الجبال يبيتون في كنف الصخور وأوكرة الطيور! سلوا كل أولئك تعلموا مبلغ مدنية بريطانيا وعدلها، وقارنوا بين ذاك العمل الوحشي الذي تعامله للمسلمين وبين قواد المسلمين للمسيحيين وأهل الكتاب، يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام، انظروا إلى عطف ووفاء الإسلام للنصارى عندما فتح العرب فلسطين، جاء عمر بنَ الخطاب وفدٌ من النصارى وطلبوا منه الأمان فبالرغم عما لاقى المسلمون منهم من حرب وقتال فإن خليفة المسلمين الرءوف العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلبث إلا أن شملهم برحمته وعطفه فكتب لهم هذا الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبدالله عمر أهل [إيلياء] من الأمان أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقص منها، ولا من خيرهم ولا من صلبهم - أي صلبانهم - ولا شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا أحد معهم من اليهود) إلى أن ختم كتابه بعهد الله وذمة رسول الله والخلفاء والمؤمنين.
 
انظروا إلى عطف المسلمين على النصارى كيف منع خليفتهم اليهود من مخالطتهم ومجاورتهم لتكون للمسيحيين حرية تامة، وعيشة راضية، قارنوا بين ذاك العطف والحنان، وبين معاملة بريطانيا للإسلام كيف تخول شذاذ الناس وتأتي بأحط الشعوب سامحة لهم بالهجرة إلى فلسطين العربية المسلمة؛ لتضيق على العرب المعاش وتعكر على الإسلام صفو الحياة.
 
وعندما زار عمر بن الخطاب فلسطين بعد الفتح جبر بخاطر النصارى فزارهم في كنائسهم، وبينما هو في الكنيسة أدركته الصلاة فأحب الرؤساء الروحانيون أن يصلي فيها فأبى ذلك عطفاً عليهم ورحمة بهم، وقال لهم: لو صليت في هذا المكان لاتخذه المسلمون مسجداً من بعدي فينتزعونه من أيديكم، ثم خرج وصلى خارج الكنيسة فاتخذ المسلمون محل صلاته مسجداً، ولا يزال حتى اليوم في فلسطين يدعى بجامع أو مصلى عمر ابن الخطاب، قارنوا بين ذاك العطف والعدل، وبين تلك الرحمة والإنصاف، وبين معاملة بريطانيا للمسلمين كيف تريد اليوم أن تنـزع أملاك العرب ومقدساتهم من أيديهم ظلما وزوراً لترضي بذلك أحط الشعوب، وهم اليهود، قارنوا بين ذلك يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام.
 
ولما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية جاءه وفد من الرهبان فأعطاهم أماناً على أموالهم وكنائسهم كما أعطى عمر بن الخطاب أهل فلسطين، فعاشت أقباط مصر ونصارى فلسطين عيشة رخاء واطمئنان لم يحلموا بها عندما كانوا يئنون تحت نير استعباد الروم واضطهادهم حتى قال بنيامين البطريق الأعظم للقبط بعد أن هرب 13 عاماً من ضغط الروم قال عند عودته عن فتح العرب: (كنت في بلدي [الإسكندرية] فوجدت بها أمناً من الخوف واطمئناناً بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة الروم وبأسهم) وقد فرح القبط كما يفرح المسجونون إذا ما حلت من أرجلهم القيود وخرجوا من ظلمات السجن يتنشقون رحيق الحرية ونسيم الحياة.
 
وقال الأسقف حنا النقيوسي: [لقد نشد عمر في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، ولكنه لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس ولم يرتكب شيئاً من النهب والغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته].
 
تأملوا سياسة الرفق والاعتدال التي كان يتحلى بها قادة المسلمين، ويعاملون بها كل من يستظل تحت رايتهم، ويحتمي بحماهم، حتى لم يسع أقباط مصر وخلافهم من الرؤساء الروحانيين إلا أن يسجلوا شهاداتهم على صفحات التاريخ طروبين فخورين بعدل العرب وحرية المسلمين، قارنوا بين هذا وبين معاملة بريطانيا لعلماء الدين كيف شردتهم شر تشريد وأهانتهم أعظم إهانة في فلسطين، تعتقل خيارهم، وتسجن زعماءهم لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم لم يخضعوا لظلم بريطانيا وعسفها لم يتركوها وشأنها تنـزع أموال العرب وأراضيهم وتهديها لليهود، ليتخذوها وطناً قومياً، وتكون لهم السيادة في فلسطين، قارنوا بين هذا وذاك يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام.
 
لينظر المنصفون إلى عهود الإسلام كيف بقيت يعمل بها على كر العصور ومر الدهور، ثم ليتأملوا في عهود بريطانيا للإسلام عندما استولت على فلسطين، فقد عاهدت العرب أن تحفظهم وأموالهم وأن تحترم مقدساتهم، ولا تتعرض لأحد في دينه أبداً، فما لبثت أن انقلب اليوم عهدها نكثاً، وأمنها خوفاً، وحبها ووفاءه بغضاً وغدراً، تذبح النفوس الموحدة، وتريق الدماء البريئة، لا لذنب ارتكبه العرب؛ ولا لجريمة اقترفوها سوى أنهم يريدون أن يقفوا في وجه الاستعمار الصهيوني، يريدون حفظ الأموال والأعراض والمقدسات من أن تمتد إليها يد الغاشمية، وبراثن الطامعين، يأبون أن يخضعوا للظلم والاستعباد، هذا ذنب العرب لدى بريطانيا، قارنوا بين عهدها الكاذب، وظلمها الجائر، وبين عهود المسلمين للنصارى يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام.

فالعُرْب قوم إذا ما استُغضبوا غضبوا
لكنهم يكرهون الظلم إن ظلموا

فالعدل شيمتهم والبأس عادتهم
والدين مرشدهم والحلم والشمم

 
ولم تكتف بريطانيا بأنها ناقضة للعهود، بل برهنت على نفسها أنها شديدة الظلم، فمن ذلك أنها عندما أرادت أن تضرب نابلس في العام المنصرم أنذر القائد الإنكليزي أهل البلدة أنه إذا سمع صوت رصاص يحق لنا أن نضرب أي بيت أردنا، فأجابته اللجنة العربية العليا إن البيت الذي تسمعون منه صوت رصاص فاهدموه، فأجابها القائد أنه هكذا أمر، ثم تلبث الشمس أن ترسل أشعتها بعد أن سمعوا صوت رصاص حتى نظروا إلى أجمل دور العرب وأبدعها وما مكنوا أهلها إلا بضع دقائق لم تستطع العجزة والحوامل أن تقوم ولا النساء أن تتأزر وتحمل أولادهن حتى أشعلوا النساف "الدوناميت" في أركانها، فانقلبت رأساً على عقب، وارتجت لذاك المنازل وهوت المساجد والكنائس.
 
وقد صنعت بريطانيا بالإسلام ما هو أشد فظاعة وظلماً من ذلك فعندما دخلت فلسطين إبان الحروب الصليبية، التجأ قسم من المسلمين يزيدون عن ستين ألفاً إلى بعض المساجد، فحاصرتهم وقتلتهم عن بكرة أبيهم حتى أمست خيولهم تغوص بالدماء إلى ما فوق الحوافر انظروا إلى ذاك الظلم البين، والوحشية المتناهية، ثم تأملوا بقانون المسلمين الراحم، وشرعهم الشريف العادل، قالت العلماء:(إذا كانت للعدو حصن وفيه واحد من أهل الذمة غير معروف فافتتحه المسلمون عنوة أو قهراً ولم يؤمنوا من فيه، لا يحل لهم قتل واحد منهم، بسبب ذاك الذمي الذي لا يمكن تعيينه، وذلك لقيام المانع بطريقة تعيينه، وهو وجود رجل غير معين، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وله في عنقهم عهد وذمة؛ ولو قال رجل منهم أنا ذاك الذمي لا يقبل قوله في هذا المقام، ويجب الإبقاء عليهم) قارنوا بين هذا القانون الحكيم العادل، وبين قانون بريطانيا الأثيم الظالم، يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام.
 
تلك هي بريطانيا ومدنيتها الكاذبة، وفظاعتها المتناهية، وأما إيطاليا فهي أشد ظلماً وغدراً منها، فلما استتب لها الأمر في طرابلس الغرب أعطى الجنرال "بريكولا" الطلياني عهوداً للعرب هذا بعض منها: "بسم الله إله جميعنا الذي هو حامينا، ومنور عقولنا بأننا لا نعترض أبداً لديانتكم وعوائدكم ونظاماتكم، وأننا نحافظ بكل قوة على مقدساتكم ونسائكم" فما كادت تمر أعوام قصار على هذا العهد المزيف حتى نقضته إيطاليا، ونكلت بالإسلام سنة 930 تنكيلاً لم يعهده التاريخ أبداً؛ ولما ضاقت الأرض بما رحبت على الإسلام جاء وفد من خلص المسلمين إلى القائد يطلبون حلاً لذاك الخطب، فلم يكن من ذلك الوحش الضاري إلا أن أبان عن رداءة أصله وسوء عنصره، فأمر جنوده بوضع الوفد الإسلامي في الطيارات فطارت إلى علو أربعمائة متر وطفقت ترميهم واحداً فواحداً على الأرض، فيغدون جثة هامدة لا حراك بها، والضباط الايطالي واقفون يقولون لهم ادعوا محمداً يخلصكم من ذلك.
 
انظروا إلى ذاك الظلم الجائر والعمل الوحشي، ثم تأملوا بعطف محمد صلى الله عليه وسلم على النصارى، تأملوا بعظم رأفته حيث يقول "من آذى ذمياً فقد آذاني" وقوله "من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة".
 
قارنوا بين عمل ذاك القائد الإيطالي، ومقابلته للوفد الإسلامي، وبين مقابلة عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص لوفد فلسطين وأقباط مصر عندما فتحهما العرب، كيف أجابوا طلبهم وأكرموا مثواهم، ثم قارنوا بين وصاية القائد الإيطالي لجنده كيف أمرهم أن يمثلوا بالوفد رغماً عن أنهم شيوخ ويطلبون الأمان، وبين وصية الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه لجنده إذا أرسل كتيبة لمحاربة العدو ينادي بالجند ويصيح في القادة، موصياً لهم بقوله: [لا تخونوا ولا تغدروا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا بهيمة، وإنكم ستمرون على أقوام في الصوامع مع رهبان ترهبوا فدعوهم وما تفردوا له، فلا تهدموا صوامعهم ولا تقتلوهم] قارنوا بين ذلك يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام.

أين الشهامة أين العدل والشمم
يا أمة غضبت من جورها الأمم

يا للمروءة من قوم زعانفة
لؤم الطباع لهم بين الورى علم

يقتلون شيوخاً ما لها وزر
وجيئةً ونساء ما لها عصم

 
تلكم همجية بريطانيا، وها هي وحشية إيطاليا، وما عهد إسبانيا عنكم ببعيد، تلك الأمة الظالمة فإنها لما استولت على بلاد الأندلس اقتطعت للمسلمين سبعة وستين شرطاً منها "تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإقامة الشريعة على ما كانت عليه، فلا نحكم على أحد بشريعته، ولا يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي، وأن لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، ولا يجبر أحد على ترك دينه، ولا يمنع مؤذن ولا صائم ولا مصل عما هو قائم به" إلى آخر ما هو مدون بها من بقية الشروط التي وضعت باتفاق الطرفين، ووافق كلهم على هذه الشروط حتى صاحب رومة وضع خط يده عليها، ولكن أنى الوفاء لمن فطروا على الخديعة والغدر فالإسبانيون لم يراعوها إلا ريثما تقدموا في الأمر، وتمكنت قدمهم، وعلموا أن لا تأخير للمسلمين هنالك عدلوا عن مراعاة تلك الشروط معهم وأذاقوهم أنواع العذاب والاضطهاد خصوصاً، لما تشكلت المحكمة المعروفة بمحكمة "التفتيش" فكان لها من القسوة والشدة ما يخجل كل من كان في قلبه ذرة من المروءة والإنسانية.
 
أنشئت هذه المحاكم بأمر البابوات (مصدر الرحمة والإحسان)....
خدمة للدين في ظاهر الأمر، ولكنها كانت سياسة بالباطن، فأتى الإسبانيون أعمالاً بربرية همجية لا يقدم عليها إلا كل من سلخت عنه الصفات البشرية ونـزعت من ضميره عاطفة الإنسان؛ فأحرقوا الزرع وهدموا الدور، ومثلوا بالرجال والنساء، ومحوا المساجد، والمعالم الثابتة، والآثار الإسلامية الجميلة، فلم يبق منها إلا ما صح عليه قول القائل:

كاد الليالي وكادته مجالدة
وانكف عاديها من بعد تقتال

ثم انثنت وبها من حره حرق
وإن كسته لكيد ثوب أثمال

 
زد على ذلك أنهم راحوا يكرهون المسلمين في دينهم، قالوا لهم: من تنصر فهو آمن على روحه وماله، ومن أبى فليخرج من هذه البلاد، لا ملك ولا متاع، طفق المسلمون يهاجرون تاركين بلادهم وأملاكهم كي ينجوا بدينهم، ولكن الإسبانيون لم يرهقهم ذلك، عندما علموا أن المسلمين يضحون بكل غال في سبيل الدين، فمنعوهم من الهجرة، وضيقوا عليهم المعاش وأسباب الرزق، فتسللوا إلى رؤوس الجبال، فلم يكن من أولئك إلا أن تتبعوهم وقتلوا كل من أبى الدخول في دين الإسبانيين.
تلك المصيبة أنست ما تقدمها ♦♦♦ وما لها من طوال الدهر نسيان
 
قارنوا بين تلك العهود الكاذبة، والوحشية المتناهية، وبين ما كان عليه المسلمون من عظيم الرأفة، ومنتهى الصدق والوفاء للعهود، يروي لنا التاريخ أن عمر بن سعد الأنصاري قدم على عمر بن الخطاب وقال:"إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها (عربسوس)، وإن أهلها يخبرون علينا بعوراتنا، ولا يظهروننا على عورات عدونا، ولهم علينا عهد" واستشاره في أمرهم، فقال عمر:"إذا قدمت فخيرهم أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين، ومكان كل بقرة بقرتين، ومكان كل شيء شيئين، فإن رضوا فأعطهم إياه وأجلهم - أي أبعدهم عن البلاد - وأخربها، فإن أبوا فانبذ إليهم وأجّلهم سنة، ثم أخربها".
 
قارنوا بين ذاك العدل والإنصاف، بين تلك الرأفة والرحمة، وبين معاملة الإسبانيون للمسلمين، يتضح لكم عدل العرب ورحمة الإسلام.
 
وإني لأورد آخر حكاية هي مثل أعلى في الوفاء في العدل والرحمة في التسامح والمساهلة التي كان عليها المسلمون، فلما صبت الفتن على بغداد وخربتها سنة 369 أصدر عضد الدولة الأمر ببناء المساجد والأسواق وإطلاق قسم من الأموال على الفقراء والعلماء، ولكيلا تجرح عواطف النصارى، ولتكون المساواة سائدة، والعدل شاملاً، أمر وزيره (نصر الله هارون) ببناء الكنائس والأديرة بعد إعطاء الأموال الطائلة لأهل دينه وملته.
 
فلينظر المنصفون هل عند الغربيين، دعاة الحرية الكاذبة والمدنية المزيفة، هل عندهم شيء من ذاك التساهل والوفاء كما عند الإسلام؟ هل عرفوا العدل كما عرفه المسلمون؟ هل خفف الغربيون عن المسلمين يوماً مصائب الدهر ونقمة الحياة كما خفف المسلمون عن الأمم والشعوب؟ هل رأفوا بالإنسانية يوماً كما رأف الإسلام؟ فسجل أيها التاريخ بحروف من نور أن أرحم شعب عهدته الإنسانية هم العرب، وأعدل أمة شاهدتها البشرية هي أمة الإسلام.
ولولا خشية الملل لأثبت ما انطوت عليه بقية أمم الغرب ولكن في ذلك كفاية لذي لب يبغي عبرة وذكرى.
 
أيها المسلمون لقد أحسنتم إلى الأمم فأساءت إليكم، ورحمتم الشعوب فظلمتكم، ووفيتم بالعهود فخانوكم، وكل مجزي بما سلف، اكتبوا ذلك بحروف نافرة على صفحات القلوب، كيلا يمحى ما دام الدهر، وبقيت الحياة، علموا ذاك أبناءكم وبناتكم وأهليكم كيد الخائنين، وغدر المعتدين، لقنوهم حادثة حادثة وخطوا ذاك على جدران البيوت، كيلا يغرب عن الأذهان شيء، ولا يتسرب إلى الأفهام بعد اليوم أن تلك الأمم تعرف وفاء وصدقاً، أو تعرف عدلاً ورحمة.
 
أيها المسلمون علمتم ما كان عليه آباؤكم من العدل والوفاء، بتلك الأخلاق الفاضلة منحتهم البشرية ثقتها، وأولتهم الأمم شغفها، بالعدل بنوا صروح المجد، ورفعوا دعائم الملك، بالعدل والرحمة سموا إلى كنف عز غالب وسلطان قاهر، حتى دانت لهم الأمم وخضعت لهم الشعوب، ألستم أنتم أشبال أولئك الأسود وأحفاد تلك الجدود! فكونوا كما كانوا صادقين أوفياء عدولاً رحماء، تخلقوا بأخلاقهم وأنا الكفيل أن يجلكم الطير في سمائه، ويهابكم الغربي في داره، ويخشاكم وحش الاستعمار في غابه، أنا الكفيل أن يرجع لكم مجد العرب وعز الإسلام ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

شارك الخبر

المرئيات-١