إياكم والجلوس على الطرقات (1)
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
إياكم والجلوس على الطرقات (1)عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إيَّاكم والجلوسَ في الطُّرقات))، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بدٌّ، إنَّما هي مجالسنا نتحدَّث فيها؟ قال: ((فإذا أَبَيْتم إلاَّ المجالس، فأعطوا الطريقَ حقَّها))، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: ((غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف والنَّهي عن المنكر))؛ رواه الشيخان.
لمَّا كان الجلوس في الطرقات ذريعةً إلى ارتكاب المحرَّمات، وكان من أصول الإسلام الحكيمة حِياطةُ المؤمن من كلِّ ما عساه أن يفتَح عليه بابًا من الشرِّ، لا جرم نهى أَحكمُ الخَلق صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطُّرقات العامَّة؛ سدًّا لباب الفسَاد؛ فإنَّ دَرْءَ المفاسِد مقدَّم في الدِّين على جَلْب المصالِح، وما من شك في أنَّ الجلوس على رؤوس الطُّرق، وفي الميادين والأماكن العامَّة مَدعاةٌ إلى الكسلِ وتضيِيع الأوقات والأَعمار فيما لا جدوى فيه، وكثيرًا ما يَفتح على صاحبه أبوابًا من الشرِّ كانت موصَدَة لولا هذا التعرُّض لها بالقعود للنَّاس كلَّ مرصَد، كهؤلاء الذين يَبغونها عِوجًا ويصدُّون عن سبيل الله، من كلِّ عاطلٍ وماجن ومستهتِر تَعِجُّ بهم الأسواقُ العامَّة والمقاهي والطُّرقات كما هو مشاهَد، فحسمًا للمادَّة، وبُعدًا عن الفِتنة ومواطن الرِّيبة، نهى النبيُّ صلوات الله وسلامه عليه أصحابَه أولاً عن الجلوس في الطُّرقات، فقال الصَّحابة: يا رسولَ الله، وإذا لم يكن لنا مَناص من الجلوس في الطرقات وغيرها لنتحدَّث حديثًا مفيدًا أو بريئًا، ونتذاكر في شؤون دنيانا وآخرتنا ممَّا يعود علينا وعلى قومنا بالنَّفع، ونسرِّي عن نفوسنا بعضَ آلام الحياة ونَكباتها، فهل ذلك منهيٌّ عنه أيضًا؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم مجيبًا لهم: ((فإذا أبيتُم إلاَّ المجالس، فأعطوا الطريقَ حقَّها))؛ يعني: لستُ أنهاكم عن المجالس لِذَاتِها؛ وإنَّما أنهاكم عن الجلوس في الطرق لأنَّها ذَريعة إلى الشرِّ، فإذا كان ولا بدَّ لكم من الجلوس في الأماكن العامَّة أيضًا، فأعطوا الطريق حقَّها وواجباتها التي تَكْفل لكم البعدَ عن مواقف التُّهَم، ولا تقذف بكم في الشرِّ الذي أخافُه عليكم، فسألوا: وما حقُّ الطريق؟
فذكر لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أهمَّ تلك الحقوق، وهي:
أولا: غضُّ البصَر عمَّا لا يحلُّ النظر إليه؛ ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [النور: 30، 31]، فحرام على المؤمنين والمؤمنات سواء كانوا جالسين على المصاطب أو الأرائك، أو سائرين في الطَّريق العامَّة أو في أسواقهم - أن ينظر بعضهم إلى بعضٍ بشهوة من شأنها أن تُثير دواعِي الفحشاء والمنكَر، ويترتَّب عليها انتهاك حرمات الله، ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1]، وفي الحديث: ((لتغضُّنَّ أبصارَكم أو ليكسفنَّ الله وجوهكم))، وكم من نظرة زرعَت في القلب شهوة، وشهوة ساعة أورثَت حزنًا طويلاً!
أرأيتَ إبليسَ اللعين وهو يقول: إنَّ النظرة هي قَوسي القديمة وسهمِي الذي لا أُخطئ به، فما من مرَّة لعب إبليسُ دورَه من طريق النَّظرة إلاَّ وأصاب الهدفَ في القديم والحديث، فهي أمضى سلاح عنده، وما من شك في أنَّ دواعي الهوى والشَّهوة تكون كامِنة في النَّفس، حتى تصوب نظرة إلى امرأة فاتِنة مثلاً فتتنبَّه هذه الدَّواعي وتتيقَّظ كأنَّما كانت نائمة، وبتتابُع النَّظرات يندلع لهيبُها، فما تنطفئ إلاَّ بعد أن تأخذ حظَّها من الاشتعال والإحراق، ومن هنا نهى الشارِعُ الحكيمُ عن قربان الزِّنا فقال جلَّت حكمتُه: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ﴾ [الإسراء: 32]؛ أي: لا تفعلوا الأسبابَ التي تقرِّبكم من الزِّنا؛ مثل: النَّظر إلى الأجنبيَّة أو الخلوة بها، أو تعاطي المسكِرات والمخدِّرات ممَّا شأنه أن يُثير كوامِن الشَّهوة ويحرِّكها بعد أن كانت ساكِنة، ويكون النَّهي عن نفس الزِّنا من باب أولى وبطريقٍ أحكم وأَبْلغ، فقد وَصف لنا الحكيمُ العليم العلاجَ الناجع الذي به نَعتصم من زَلَل هذه الفاحشة بالبعدِ عن أسبابها؛ فإنَّ الباب الذي من شأنه أن يلِج منه ثائرُ الرِّيح، إذا ما أُحكم إِغلاقُه، فإنَّ صاحبه يَأمن ويستريح، ((ومن حام حولَ الحِمى يوشك أن يقعَ فيه))، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنَّ مواقف التُّهم، ولقد ترى للشعراء في هذا الباب فنونًا، منها قول شوقي رحمه الله:
نظرةٌ فابتسامة فسلام ♦♦♦ فكلامٌ فموعد فلِقاءُ
فقد كانت حلقة الاتصال الأولى هذه النَّظرة، وليت شِعري ماذا بعد اللقاء سوى إِشباع الشَّهوات الفاسِدة، وانتهاك الأعراض، والخروج على الآداب، والافتنان في الحِيَل والجرائم، ممَّا يهدِّد المجتمعَ بالانحلال والدَّمار.
قد يقول الماجِنون عبَّاد الشهوات: ومن أين حكمتَ بهذه النتيجة؟ ألم تعرف أنَّه الحبُّ الذي يصفِّي النُّفوس ويسمو بها إلى مثَلِها الأعلى؟ هو الحبُّ البريء الطَّاهر، والهوى العَذب الجميل، وكأنَّك حفظت شيئًا وغابَت عنك أشياء، ها هو شوقي الذي تُخرج كلامَه هذا التخريج وتَستشهد ببيته المتقدِّم، يقول في القصيدة بعده:
يوم كنَّا ولا تَسل كيف كنا
نتهادَى من الهوى ما نشاءُ
وعلينا مِن العفاف رقيبٌ
تعبَت من مراسه الأهواءُ
إلخ ما يتغنَّى به المولعون بالحبِّ الهائمون به، وما عَلِموا أنَّه الشعر، وأنَّ أروع الشِّعر أَكْذبُه، وأنَّ من فنونه هذا التصوير الذين يمرَح فيه الخياليُّون، ويتَّخذه الغاوون مطمحًا لغاياتهم الدَّنيئة، وبخاصَّة الشباب الذي لم يجرِّب الحياةَ ولم يَمرُن على شؤونها وألاعيبِها، وكأنِّي بالشيطان وقد اعترف بأنَّ النظرة هي قوسه القديمة وسَهمه الذي لا يُخطئ به، عرف جانب الخَلَل في طَيش هذا الشباب، فزيَّن له سبيل التردِّي في الهاوية، وغشاه بألوان ممتعة من بهرجِ الخيال، فوَسْوس بالحبِّ، ودعا إلى اللقاء والخلوة البريئة، تحت ظِلال العفَّة والنزاهة، وأَحكَمَ دَوره مرَّة بعد أخرى، حتى أصاب الهدفَ وأسدلَ الستار على الغاية المحتومة، فهتك السِّترَ، وأظهر المكنون، وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [الجاثية: 23]، قال ابنُ عباس: الهوى إلهٌ يُعبَد مِن دون الله، وقال عِكرمة في قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحديد: 14]؛ يعني: بالشهوات، ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾؛ يعني: بالتَّوبة، ﴿ وَارْتَبْتُمْ ﴾؛ يعني: في أمر الله، ﴿ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾؛ يعني: الشيطان، وقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اقدعوا هذه النُّفوس عن شهواتها؛ فإنَّها طلعة، تَنزِع إلى شرِّ غاية".
فيا عبيد الشهوات، أأنتم أصدق أم الله؟ إنَّ هذا الحبَّ الذي تغشُّون به خبائث نيَّاتكم مصنوعٌ، وكلُّ مصنوع كاذب، فأنتم أَدعياء كذَّابون، ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 224 - 226].
نحن لا نذم الشِّعر كله، ولا نعرض له في هذا البحث، وإنَّما نتحدث عن داءٍ عمَّ، ووباء طَمَّ في زماننا هذا؛ ذلك هو مغازلَة الفتيات المتبرِّجات في الشوارع والأندية، والطُّرقات والمنازِه، والميادين والمراقص، والمماثل والحانات؛ فقد ملَأْنَ الأرضَ وزاحمنَ الرِّجال على الظُّهور على ظهرها في غير حِشمة ولا حياء، وضرَبن بالحجاب عرضَ الحائط، وتمرَّدن على الدِّين، وعَدَدن أمثال هذه الآية من التقاليد العتِيقة التي لم تَعد صالحةَ لمدنيَّة القرن العشرين، وظاهَرَهنَّ على هذا التمرُّد والفسقِ كثيرٌ من الكُتَّاب الملاحِدة، وطفقوا يكتبون ويذيعون في كلِّ مكان بوجوبِ سفور المرأة وتمزيقِ الحجاب، ويتَّهموننا بالرجعيَّة والجمود، وكلَّما رأوا الفتيات يصفِّقن لهم إعجابًا ازدادوا فجورًا وإباحيَّة، فنتج من ذلك هذا التدهور الخُلقي، والانحلال الذَّريع، وأمسَت هذه مشكلة المشاكل، في حين أنَّ علاجها من أَبسط ما بسط الشرع الإسلامي الحكيم في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ الآية [النور: 30]، وقوله: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ الآية [الأحزاب: 33].
فلا سبيل إلاَّ غضُّ البصر عن النَّظر إليهنَّ ما دام تيَّار الفجور قد غلب، وأصبحنا نجد المرأةَ لا تأخذ زينتَها كاملة ولا تمعن في غَوايتها وإظهار جمالها ومحاسنها إلاَّ إذا كانت خارِج المنزل، أمَّا فيه، فهي والعياذُ بالله تلك الشَّوهاء الدَّميمة.
نقول: أما وقد انقلبَت الأوضاعُ، وتبرَّجَت المرأةُ إلى هذا الحدِّ، ولا غِنى لنا عن الجلوس أمام بيوتنا أحيانًا، بل وإن استغنينا عن ذلك فلا بدَّ لنا من المشي في الشوارع والأماكن العامَّة، ولا مناص لنا من رُؤية هذه المناظر - فما علينا إلاَّ أن نتَّخذ دائمًا هذا العلاجَ الحكيم، وهو كفُّ البصَر وعدم التطلُّع إلى هؤلاء المائلات المميلات الكاسيات العاريات، نعم قد تجيء النَّظرة الأولى عفوًا؛ لأنَّ الإنسان لا يمشي مغمض العين وإلاَّ اكتسحَته السياراتُ أو الدرَّاجات أو ما هو أكبر من ذلك وأدهى، فبالضرورة يفتح عينيه ليأخذ حَذره وهو في طريقه، وبالضرورة سيُفجأ بأسرابٍ منهنَّ ووحدان، وستحمل المفاجأة نظرةً أولى غير مقصودة، فهذه لا شيء فيها؛ لأنَّها ليست في مقدور عبدٍ مبصِر أبدًا، ولا يكلِّف الله نفسًا إلاَّ وسعها، فإذا ما أَتبع النَّظرةَ النَّظرة، وكانت هذه الأولى التي لا مُؤاخذة فيها سبيلاً إلى الثَّانية، كان مؤاخذًا على هذه الثانية؛ لأنَّه مختار فيها، وهي مقصودة له؛ إذ كان في مقدوره أن يحوِّل وجهَه إلى جهةٍ أخرى، أو طريقه، أو يقف ويُغمض عينه حتى تمرَّ العاصفة، وما عليه إلاَّ أن يسدَّ على نفسه هذا الباب بأيِّ طريق، ولكنَّه بنظرته الثَّانية قد حرَّك دواعِي الشَّهوة، فإذا توالَت النَّظرات، فقد اشتعلَت مكامنُ الشهوات، وهنا مكان الخطر، ومعظم النَّار من مُستصغر الشَّرَر، فإن جاهد شهوتَه بَعُدَ هذا الاشتعال، وقد قالَت الحكماء: أعزُّ العزِّ الامتناع من تملُّك الهوى، فمَن كبح جماحَ نفسه، وغلب عقلُه شهوتَه، فهو إنسانٌ نبيل مجاهِد، وإن غلبَت شهوتُه عقلَه، فهو حيوان منحطٌّ سافِل:
إذا المرء أعطى نفسَه كلَّ ما اشتهَتْ
ولم ينهها تاقَت إلى كلِّ باطلِ
وساقَت إليه الإثمَ والعارَ بالذي
دعَتْه إليه مِن حلاوةِ عاجلِ
هذه هي الحقيقة المُرَّة، فخُذها بقوَّة، ولا تحفل بكلام هؤلاء المخدوعين في ذات أنفسِهم؛ فقد كان من شرِّ المصائب أن انحلَّت نَخوة الرُّجولة في كثيرٍ من شَبابنا، ورأَينا الكثيرَ منهم يزاحم النساء على النُّعومة والإمعان في الزِّينة والحِلية والأناقة، ولو سألتَه وكان صريحًا: لِم هذا الخروج عن مألوف الرجولة؟ لقال: لِأُعجِب فتاتي، وفي الحقِّ أنَّه ليس له فتاة، وإنَّما طغى عليه شيطانُ الغَواية فأضلَّه عن سواء السبيل، حتى أصبحَت المغازلةُ فنًّا يُدرس في الأندية، ويلقِّنه الصديقُ الصديقَ والخليلُ الخليلَ، وأصبحت الفتاةُ التي لم تغازَل مبتذلَة في نظر أَترابها، وفي نظر نفسها أيضًا (والغواني يَغُرهنَّ الثَّناء)، فطبيعةُ المرأة حبُّ المدحة والإعجاب بجمالِها، وكثيرًا ما تُخدع من هذا السَّبيل، ولا طريق إليه إلاَّ النَّظر، فكان الدَّاء، وكان الحجاب الدَّواء، وصدق الله العظيم، وكذب الفاسقون والفاسقات، وسوف يبدلهم الله بقومٍ غيرهم ثمَّ لا يكونون أمثالَهم.
ودعني أهمِس في أذنك أيُّها القارئ الكريم: بأنَّ هناك بعض الأغرار من أشباه المتأدِّبين يزعمون أنَّهم ينظرون في المرأة جمالَها؛ لأنَّه صنعُ الله الذي أَتقن كلَّ شيء! وأنَّهم يحبُّون الجمالَ لذاته وفي كلِّ شيء يتعشَّقونه، فهم فلاسفة يعرفون عظمةَ الله من طريق خلقِه الجميل تبارك الله! إلخ إلخ، وهؤلاء أيضًا خياليُّون مدلِّسون على أنفسهم، فليسوا مجرَّدين من الشَّهوة حتى لا يتأثَّروا بها، وليسوا ملائكة ولا أَنبياء حتى يَعتصموا من تيارها الجهنَّمي، وإن شذَّ من الناس إنسانٌ كامِل يصدق في نظريَّته هذه على ضوء الدِّين وخشية الله تعالى وحبِّه، فلا يصح أن يكون هذا مقياسًا لعموم الأوامر والنواهي الشرعية لأن النادر لا حكم له.
فقل لي بربك بعد هذا: أليس منتهَى الحِكمة أن يتجنَّب المؤمن أسبابَ الفِتنة ويتحاشاها ما أَمكنه؟ فلا يجلس في الطُّرقات العامَّة، ولا يفتح نافذَة بيته لينظر إلى امرأة جارِه، ولا يتعرَّض للجلوس إلاَّ لضرورةٍ قصوى يعطِي فيها الطريقَ حقَّه من جهة غضِّ البصَر، ولعلَّك أدركتَ بعد هذا البيان أنَّ الجلوس في منزلك أو نادِيك الخاص مع أخصَّائك للسَّمَر والحديث والدُّعابة البريئة - لا شيء فيه، كما أنَّ الجلوس على شاطئ نهرٍ ليس ممرًّا للنَّاس، أو بين المزارع النَّضرة أو المتنزهات الواسعة أو الحدائق الغنَّاء، كلُّ ذلك جائزٌ لا شيء فيه، ما دمتَ تتحاشى الوقوعَ في مهاوي النَّظرة، وتقصر الجلوس على حاجتك ومنفعتِك في الدُّنيا والآخرة.
وبعد:
فلعلَّ هذا الاستطراد دعَت إليه الحاجةُ الملِحَّة أو الأمر الواقع، ولعلَّك أدركتَ سرَّ جعل غضِّ البصر أوَّل حقٍّ من حقوق المجالس والطرقات، أما بقيَّتها فإلى العدَد القادِم إن شاء الله تعالى، إنَّه ولي التوفيق.