أرشيف المقالات

انتبه إلى نيتك

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2انتبه إلى نيتك
الحمد لله مُفقِّه المؤمنين، بكتابه المبين، وسُنة خير المرسلين، عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، يوم العدل والحق المبين، والفصل بين العالمين.   أما بعد: فالنية في اللغة: "نوعٌ من القصد والإرادة، وإن كان قد فُرِّق بينَ هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره"[1]؛ فهي بمعنين في كلام أهل العلم: أولهما: "بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلاً، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات عن العادات؛ كتمييز الغسل من الجنابة من غُسل التَّبَرُّد والتنظُّف، ونحو ذلك..."[2].
وثانيهما: "بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؟ وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كُتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي تُوجَد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين"[3].   والتفريق بين "النية والإرادة والقصد ونحوهما؛ لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ينوي ذلك"[4].   ودون أن نخوض في المعاني الأخرى التي يُعبَّر عنها في القرآن أو السنة، ودون أن ندرس كذلك محل النية: هل هي في القلب أو الدماغ أو هما معًا؟ فسنبين إن شاء الله أهميتها وعظيم أمرها عند كل عمل، دينيًّا كان أو دنيويًّا؛ "إذ جميع الأعمال تتكيَّف بها، وتكون بحسبها؛ فتقوى وتضعُف، وتصِحُّ وتَفسُد تبعًا لها، وإيمان المسلم هذا بضرورة النية لكل الأعمال ووجوب إصلاحها - مستمَدٌّ أولاً: من قول الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 11]، وثانيًا: من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ متفق عليه"[5].   فالعمل أيًّا كان متوقفٌ على نية صاحبه؛ فإن ابتغى به الإخلاص والقبول عند الله، فقد أحسن ونأى بنفسه عن ضياع الأجر، وإن أقدم عليه لغاية أخرى كالرياء والسمعة ونحوهما أو وقع في الشرك الأكبر بكل أنواعه، فقد سلك طريقًا خطيرًا وعرَّض نفسه للهلاك، خصوصًا إذا كان عالمًا بجزاء فعله، فكم من مسلمٍ يُقْدِم على كثير من الأعمال يتراءى للناس أنَّها حسنة وهي كذلك في نظرهم، لكن صاحبها قد يكون قاصدًا هدفًا من وراء ذلك لا يكون لأجل الله تعالى، وبالتالي فالأمر خطير وجب الوقوف عنده، فالله عز وجل يعلم خائنة الأنفس وما تُخفي الصدور، والله عز وجل ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، لا إلى صورنا وأموالنا، كما في الحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))؛ متفقٌ عليه.   فالأمر ليس فيه تهاون، ولنعلم أنَّ العمل مهما كان زهيدًا في نظر العبد فالله يُثيبه بالأجر والثواب إن كانت النية صافية، وحتى إنْ همَّ المسلم بالعمل وكان عازمًا على فعله ولم يفعله، فإنه يُكتب له جزاء لنيته، ففي الحديث القدسي، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّهِ تبارك وتعالى أنَّه قال: ((إنَّ الله كتب الحسناتِ والسَّيئاتِ، ثمَّ بيَّن ذلك: فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها، كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن همَّ بسيِّئةٍ فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها، كتبها الله سيِّئةً واحدةً))؛ رواه الشيخان، وعن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أُجِرتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك))[6].   فيجب علينا إذًا أن ننتبه إلى نياتنا، فمن أراد التوبة من فعل خاطئ فليجعله خالصًا لله تعالى، ولا يعتقد من أقلع عن مُحَرَّم اضطرارًا كالتدخين أنَّه حقَّق المَقصَد في ذلك، فالله عالم بخفايانا، يقول الله عز وجل: ﴿ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7]، ومن أراد كذلك فعل خير، فليحرص على موافقته للشرع؛ لأن من نوى في نفسه فعل خير من حرام مثلاً، فلا حظ له من الأجر، ومن أقدم على عبادة لا توافق هدي شرعنا، فهو مخطئ واقع في البدعة، "ولو كانت نيته صالحة كما يراها؛ إذ لا ينقلب بالنية الصالحة طاعة إلا ما كان مباحًا مأذونًا في فعله فقط، أما المحرَّم فلا ينقلب طاعة بحال من الأحوال"[7].   ومن جانب آخر: "يعتقد المسلم أنَّ النيَّة ركن الأعمال وشرطها"[8]، ويكفيه قصد العمل بقلبه دون التلفظ بما نوى؛ تجنبًا للوقوع في البدعة على رأي بعض أهل العلم، والله جل وعلا يقول: ﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحجرات: 16].   والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] جامع العلوم والحِكم؛ لابن رجب الحنبلي، دار الوفاء، ص: 21. [2] جامع العلوم والحِكم، ص: 21. [3] جامع العلوم والحِكم، ص: 22. [4] جامع العلوم والحِكم، ص: 22. [5] انظر: منهاج المسلم؛ لأبي بكر الجزائري، مكتبة العلوم والحكم، ص: 59. [6] رواه البخاري (56)، ومسلم (1628). [7] منهاج المسلم، ص: 61. [8] منهاج المسلم، ص: 60.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢