أرشيف المقالات

الحلم

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
من صفات عباد الرحمن (3)
الحلم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
يقول ربنا سبحانه: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].
 
قال الحسن البصري: حُلَمَاء: إن جُهِل عليهم لم يجهلوا.
 
وقال ابن كثير رحمه الله: أي: إذا سفه عليهم الجهال بالسيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، وكما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55].
 
هذا هو حال عباد الرحمن إذا أساء إليهم السفهاء لا يردون عليهم بمثل إساءتهم لأن دينهم يمنعهم من الوقوع في السفه.
 
قال الشافعي - رحمه الله -:

يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما
كعود زاده الإحراق طيبا

الحلم أيها الأحبة في الله هو:ضبط النَّفس، وترك الانتقام عند شدّة الغضب مع القدرة على ذلك.
 
ويكفي هذه الصفة شرفًا أنها من صفات الرحمن وهي في حق الله تعالى صفة كمال تليق بجلاله وعظمته سبحانه، لا تشبه صفة المخلوقين، ومن أسمائه تعالى الحليم، ولولا حلم الله تعالى لأهلك الناس بما يقترفون من ذنوب وآثام.
 
قال سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: 45].
 
ما أحوجنا إلى الاتصاف بهذه الصفة الطيبة في جميع أحوالنا، أن نكون حلماء مع من نتعامل معهم، فيكون الأب حليما مع أبنائه، لا يعاجلهم بالعقوبة، ولا يؤاخذهم على كل خطأ، فقد يكون الخطأ يسيرًا غير مقصود، والأم كذلك مع أبنائها، والزوج ينبغي أن يكون حليمًا مع زوجته، لا يقف عند كل صغيرة وكبيرة من الأخطاء، بل يعالج المشكلة بحكمة وتروي، وينصح ويوجه قبل أن يعاقب، ويقبل العذر، وكذلك الزوجة مع زوجها أيضا بحاجة إلى التحلي بالحلم في التعامل معه، والإنسان عموما من طبيعته الخطأ، لذلك يحتاج إلى من يتغاضى عن بعض هفواته اليسيرة.
من ذا الذي ما أساء قط*** ومن ذا له الحسنى فقط
 
وكما قيل:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها*** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
أخي الكريم:
ستجد في هذه الحياة من لا يقدرك ومن يقابل الإحسان بالإساءة ويجهل عليك فاصبر وكن حليمًا من غير ضعف ولا مهانة، ولا تستفزك المواقف، وحافظ على صحتك فإن كثرة الغضب يضر بصحة الإنسان، ويسبب الأمراض وهذا معلوم لدى الناس، والغضب كثيرًا ما يدفع الإنسان إلى تصرفات يندم عليها بعد ذلك، وكم من الحوادث التي وقعت وتقع بسبب الغضب والتعجل وعدم الحلم، فيقع قتل، وطلاق، وتعدٍ على الآخرين، وظلم، وقطيعة أرحام، وزوال صداقة، وغيرها من الأحداث.
وانظر إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل لما قال له يا رسول الله أوصني قال: (لا تغضب) فردد مرارًا قال: لا تغضب).
 
الحلم أيها الأحبة يحول من أساء إليك إلى ولي حميم كما قال سبحانه: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].
 
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه).
 
أيها الأخوة الكرام:
الحلم من أخلاق الأنبياء والمرسلين، قال سبحانه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114].
 
وقال سبحانه: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 101].
يعني بشر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بإسماعيل عليه السلام.
 
ولنا في رسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد كان أحلم الناس، فقد أوذي وعودي، وأخرج، وسُب، واتُهم، وتجرأ عليه السفهاء والصبيان، قيل عنه كذاب ومجنون، وساحر، ولما ناداه ملك الجبال وقال يا محمد! إن الله قد سمِعَ قولَ قومِك لك، وأنا ملَكُ الجِبال، وقد بعَثَني ربُّك إليك لتأمُرَني بأمرِك، فما شِئتَ، فإن شِئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَين - وهما جبَلان بمكة -».
فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «بل أرجُو أن يُخرِجَ الله من أصلابِهم من يعبُدُ الله وحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا).
رواه الشيخان.
 
والأمثلة من حياته كثيرة، منها على سبيل المثال ما جاء في الحديث: (أنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأغْلَظَ له فَهَمَّ به أصْحَابُهُ، فَقالَ: دَعُوهُ، فإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، واشْتَرُوا له بَعِيرًا فأعْطُوهُ إيَّاهُ وقالوا: لا نَجِدُ إلَّا أفْضَلَ مِن سِنِّهِ، قالَ: اشْتَرُوهُ، فأعْطُوهُ إيَّاهُ، فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً)؛ رواه البخاري.
 
وقد حث الله تعالى نبيه على الحلم فقال سبحانه: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].
 
أيها الأحبة في الله:
قد يقول قائل كيف لي أن أتصف بهذه الصفة؟
فنقول له: اعلم أن من الناس منهم من يكون مجبولًا على هذه الصفة، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك خلتين يحبهما الله الحلم والأناة .
قال : يا رسول اللهِ ! أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما ؟ قال : بل الله جبلك عليهما، قال : الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله)رواه أبو داوود وصححه الألباني.
 
وقد لا يكون الإنسان مجبولًا على الحلم فيحتاج إلى التخلق به بمجاهدة نفسه وكتم غيضه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كتم غيضًا وهو قادر على إنفاذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء)؛ رواه أحمد وصححه الألباني.
 
والشديد حقيقة: هو الذي يملك نفسه، عند الغضب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة - يعني الذي يصرع الناس - إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
 
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم؛ والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يُعْطَه؛ ومن يتوق الشر يُوقَه).
 
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال:
ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك.
 
وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: (لا يبلغ العبد مبلغ الرَّأي حتى يغلب حِلْمُه جهله، وصبرُه شهوته، ولا يبلغ ذلك إلَّا بقوَّة الحِلْم).
 
فاحرص يا عبدالله على مجاهدة نفسك لتتصف بهذه الصفة الطيبة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الحلماء الحكماء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١