أرشيف المقالات

منزلة التوبة

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
منزلة التوبة


الحمد لله رب العالمين، صاحب الفضل المبين، والمن القديم، وهو الهادي إلي صراطه المستقيم، سبحانه، ولي المتقين، وناصر المستضعفين، ومحب التوابين، والصلاة والسلام علي النبي الأكرم، والرسول الأعظم، وعلي آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
 
أما بعد:
فيقول الله تعالي في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم:8].
 
والتوبة: هي الرجوع من معصية الله ومخالفة أمره تعالى إلى طاعته واتباع شرعه.
 
وهي أمر محبوب إلى علام الغيوب، ومحبوب أليه أهلها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وهذا شرف عظيم وعطاء واسع كريم أن يقع الإنسان في المخالفة، ثم يرجع إلى خالقه ورازقه، فيقبله ويحبه؛ لأنه عاد إليه وطلب عفوه ومسامحته.
 
والتوبة واجبة على كل مؤمن ومؤمنة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]؛ يقول الشيخ السعدي في تفسيره: (ثم أمر المؤمنين أن يتوبوا الى الله ويرجعوا إليه بإخلاص، عسى الله أن يمحُوَ عنهم سيئاتِهم ويدخلَهم جناتٍ تجري من تحتِ قصورها وأشجارِها الأنهار)، ويقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات (أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات).
 
والتوبة من أسباب الفلاح والنجاح والسعادة؛ قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
 
والفلاح: أن يحصل للإنسان المطلوب وينجو من المرهوب.
 
يقول الشيخ السعدي في تفسيره لهذه الآية: (لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ودل هذا على أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة؛ لأن الله خاطب المؤمنين جميعًا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة.
 
والتوبة النصوح: يغفر الله بها الذنوب والخطايا مهما عظُمت، ومهما كثرت وكبرت؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، لا تقنط أيها المذنب من رحمة ربك، فباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها.

 
وهي عمل مقبول إن شاء الله ما توافر فيها الصدق وحسن العمل؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [التوبة:104].
 
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر؛ (رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن).
 
وهي سبب من أسباب استجلاب الحسنات ومحو الخطايا والآثام، وهي من أعظم رحمات الله عز وجل علي عباده، قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70].
 
وهي التي تكون سببًا في المغفرة للعبد؛ قال ربنا عز وجل: ﴿ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة:74].
 
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه"؛ رواه مسلم.
 
فباب التوبة مفتوح وهو الباب الذي لا يخيب من طرقه ووقف عليه.
 
وربنا تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدى بي، وأنا معه حيث يذكرني، واللهِ للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إلى يمشى أقبلت إليه أهرول»؛ (رواه مسلم).
 
ويبسط يده بالليل والنهار حتي يتوب على من طلب التوبة، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس مغربها"؛ رواه مسلم.
 
فالله تعالى لطيف رحيم بعباده، عفو سبحانه غفور لهم، إذا رأى إقبال عبده عليه، قبله وتجاوز عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيِس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"؛ رواه مسلم.
 
فتب إلى الله تعالى أيها المقصر والمفرط في جنب الله، فمن السعادة التعلق بالتوبة وتكرارها، وحسن اللجوء إلى الله عز وجل، فهو لا يرد من لاذ إليه وطلب عفوه.
 
أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون، فإنه تعالى يقبل توبتهم؛ حيث قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ (سورة النساء، الآية:17).
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أخطأتم حتى تبلغ السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم؛ (رواه ابن ماجه بإسناد جيد).
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن عبدًا أصاب ذنبًا، فقال: يا رب، إني أذنبت ذنبًا فاغفره، فقال له ربه، علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب
 
ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا آخر، وربما قال: ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال يا رب: إني أذنبت ذنبًا آخر، فاغفره لي، قال ربه علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا آخر، وربما قال: ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: يا رب، إني أذنبت ذنبًا فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فقال ربه: غفرت لعبدي فليعمل ما شاء؛ (رواه البخاري ومسلم).
 
وليس بعد هذا العطاء من عطاء؛ إذ إن المغفرة والعفو والمسامحة كان ذا كله بسبب التوبة وتكرارها، وعدم القنوط من رحمة الله عز وجل.
 
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملت من سوء، فأحدث له توبة، السر بالسر والعلانية بالعلانية؛ (رواه الطبراني).
 
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ (رواه ابن ماجه والطبراني كلاهما من رواية أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود).
 
صَلَاة التَّوْبَة:
أجمع أهل الْعلم على مَشْرُوعِيَّة صَلَاة التَّوْبَة لما ثَبت عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلي بْن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: "كنت إِذا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا نَفَعَنِي الله مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَن يَنْفَعنِي، وَإِذا حَدثنِي أحد من الصَّحَابَة اسْتَحْلَفته فَإِذا حلف لي صدقته، قَالَ: وحَدثني أَبُو بكر وَصدق أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: "سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "مَا من عبد يُذنب ذَنبًا، فيُحسِنُ الطهُور، ثمَّ يقوم فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يسْتَغْفر الله، إِلَّا غفر الله لَهُ"، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة:﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ﴾ (آل عمرَان: من الْآيَة135) إِلَى آخر الْآيَة؛ (رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده)
 
وروي يُوسُف بن عبدالله بن سَلام - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: "أتيت أَبَا الدَّرْدَاء - رَضِي الله عَنهُ - فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: يَا بْن أخي، مَا عناك إِلَى هَذَا الْبَلَد، وَمَا أعملك إِلَيْهِ؟ قلت: مَا عناني وَمَا أعملني إِلَّا مَا كَانَ بَيْنك وَبَين أبي، فَقَالَ: أقعدوني، فَأخذت بِيَدِهِ فأقعدته، وَقَعَدت خلف ظَهره، وتساند إليَّ، ثمَّ قَالَ: بئس سَاعَة الْكَذِب هَذِه، ثمَّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُول: "من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء، ثمَّ قَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ أَو أَرْبعًا، يحسن فِيهَا الرُّكُوع وَالسُّجُود، ثمَّ يسْتَغْفر الله - إِلَّا غفر الله لَهُ"؛ (رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده 6/450 وَاللَّفْظ لَهُ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط).
 
شروط التوبة: أن يقلع الإنسان عن الذنب، وأن يندم على ما مضى، فعن حميد الطويل قال: قلت لأنس بن مالك: أقال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة؟ قال: نعم؛ (رواه ابن حبان في صحيحه).

 
وأن يعزم على ألا يعود، وأن يرد المظالم إذا كانت المعصية في مظلمة بينه وبين الخلق، فإن كان قد سب إنسانًا يعتذر منه، وإن كان قد أخذه ماله يرد إليه هذا المال، وإن كان قد آذاه بأي أذًى يطلب منه المعذرة والسماح.
 
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل؛ (رواه مسلم).
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم؛ (رواه مسلم).
 
يقول الشيخ عبدالله الجلالي في تفسيره لقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾ [النساء:17]، و(إنما) هنا للحصر، والتوبة معناها: قبول التوبة من الله عز وجل، واختلف العلماء بالنسبة لتفسير كلمة (على)؛ لأن (على) تدل على الوجوب، فيقول بعض المفسرين: إن الله تعالى قد أوجب التوبة على نفسه؛ أي: أن يقبل توبة من تاب إليه، بدليل قوله تعالى: (على الله)، ولم يقل: (من الله)، فـ(على) تدل على الوجوب، وليس هناك شيء واجب على الله عز وجل، ولكن لكرمه وإحسانه، وليطمئن ذلك العاصي الذي انغمس في الرذيلة والمعصية إلى ذقنه أن يطمع في الله عز وجل، وألا يقنط من روحه، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ)، فـ(على) وإن كانت للوجوب، لكن وجوبها من الله عز وجل للعبد شيء أوجبه على نفسه سبحانه وتعالى، ولذلك فإن هذه الآية تعتبر أرجى الآيات بالنسبة لقبول التوبة من الله عز وجل على العبد؛ لأن الله تعالى فرضها وأوجبها على نفسه.
 
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) لمن؟ ﴿ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾ [النساء:17]، ولعل أحدًا من الناس حينما يسمع (بجهالة) ويسمع (من قريب)، لربما ييئس بعض من انغمس طوال عمره في معصية الله عز وجل، وهو على علم ويقين من أنه عصى الله سبحانه متعمدًا، لكننا نطمئنك بأن قوله تعالى: (بجهالة) ليس معناه بجهل، فحتى من عصى الله بعلم؛ فإن الله عز وجل يقبل توبته كما وعد.
 
ولا يجوز أن نفسر الجهالة بالجهل؛ لأن الجاهل غير مؤاخذ، فكل من جهل ذنبًا فلا تسجل عليه المعصية، وإنما المراد بالجهالة أي: في أيام الجهل والغفلة، والضياع، والسفه، والشباب والصبوة في أيام مضت غفل فيها عن الله عز وجل، فأصبح كأنه جاهل؛ لأنه يعيش عصرًا جاهليًّا، وعلى هذا فليطمئن الذي أمضى عمره كله أو جله في معصية الله عز وجل، ثم أقبل على ربه سبحانه وتعالى، فليبشر بأن الله تعالى قد أوجب على نفسه سبحانه وتعالى أن يقبل هذه التوبة.
 
أما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾، فقد يظن بعض الناس أنه لا بد إذا فعل الذنب أن يقول في الحال: تبت، ويتوب حقيقة، وإلا فإن التوبة لا تقبل، وهذا فهم خاطئ؛ فإن المراد بالقريب في مثل هذه الآية: ما قبل الموت، فما قبل الموت كله يعتبر قريبًا وإن طال الزمن على المعصية، بشرط: أن يكون هذا الإنسان دائمًا وأبدًا على وجل، وأن يحرص على المبادرة، وألا يهمل ويسوف في التوبة؛ لأن البعيد قد يكون قريبًا، ولأن الناس يعيشون في مثل هذا الزمن الذي نعيشه يفاجئون بالموت مفاجأة وعلى غير استعداد، فقد كان آباؤنا وأجدادنا لا يموتون غالبًا إلا على فراش الموت، بعد أن يمضوا مدة من الزمن تكون لهم معذرة وتنبيهًا، أما وقد أصبح الرجل يخرج من بيته فلا يرجع، ويقوم ولا يقعد، ولا يستطيع أن يرقد، فإن عليه أن يبادر بالتوبة؛ لأن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر يفاجأ فيه الناس بالأجل على غير استعداد في كثير من الأحيان.
 
ولو عملنا إحصائيات للذين يموتون على الفرش، أو الذين يموتون في حوادث السيارات أو السكتات القلبية، أو الموت المفاجئ جملة، لوجدنا أن الأخير أكثر بكثير من النوع الأول، مما يفرض على هذا الإنسان أن يبادر بالتوبة والإنابة، لكن معنى قوله تعالى: (﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾، أي: قبل الموت، بدليل الآية التي بعدها: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ [النساء:18].
 
إذًا: فهمنا من الآية الثانية أن المراد بالقرب هو ما قبل الموت، فلو أمضيت حياتك كلها في معصية الله عز وجل، ثم تبت قبل الموت، فنعتبرك قد من الله عز وجل عليك، فأمهلك فتبت من قريب، ولكن لا تظنن أن استمرارك على المعصية هو خير لك، بل هو مخاطرة في حسن الخاتمة، فلربما يدركك سوء الخاتمة.
 
﴿ فَأُوْلَئِكَ ﴾؛ أي: الذين يعملون السوء بجهالة في فترة جهل وانصراف وإعراض وسفه، ويتوبون من قريب، ﴿ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [النساء:17]، ولذلك جاء التعظيم لهم في قوله تعالى: (أولئك)؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
 
وعلى هذا فإن الله عز وجل قد يمن على العاصي بأن يقلب كل سيئة عملها في أيام جهله - إذا صدقت توبته - إلى حسنة؛ كما قال في سورة الفرقان: ﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان:70]، أما هنا فيقول الله تعالى: ﴿ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [النساء:17]، أي: يقبل توبتهم، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء:17]، يضع الأمور في مواضعها.
 
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ﴾ [النساء:18]، في تلك الساعة لا تقبل التوبة، ولذلك جاء في الحديث: ( إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والمراد بالغرغرة: أن يضع الإنسان في حلقه ماءً يرجه رجًا، لكن المراد بالغرغرة هنا: أن تصل الروح إلى آخر مرحلة من مراحل الجسم، ولا يبقى إلا أن تخرج، كأنه يغرغر بالماء، ويغرغر بروحه؛ لأنها تريد الخروج، أو إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهذا هو الأجل النهائي الذي لا تقبل فيه التوبة؛ لأن الإنسان في ساعة الموت يرى ملائكة الرحمة ويرى ملائكة العذاب، ويرى مقعده من الجنة ويرى مقعده من النار، ولذلك فإنه يكشف عنه الحجاب في تلك الساعة، وحينئذ لا تقبل التوبة.
 
أما التوبة العامة فقد وضع الله عز وجل لها أجلًا أيضًا، وهو: طلوع الشمس من مغربها، وطلوع الشمس من مغربها آخر علامة من علامات الساعة، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك في قوله: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام:158]، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية بأنها طلوع الشمس من مغربها.
 
إذًا: هناك أجل لأي واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهناك أجل لكل الناس: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام:158]، أي: يوم تطلع الشمس من مغربها، ﴿ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام:158].
 
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ﴾ [النساء:18]، الآن لا تقبل التوبة، ولذلك فرعون لما أدركه الغرق قال: ﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ ﴾ [يونس:90] لما قال هذا الكلام قال الله تعالى له: ﴿ الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس:91] الآن تتوب؟! ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علامة النور التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، وقد أخبر الله عز وجل عن قوم أنهم لا يتوبون إلا حينما يحضر الأجل: ﴿ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ﴾ [النساء:18]، ففي مثل هذه الساعة لا تقبل التوبة، والله تعالى يقول: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزمر:56-57]، إلى غير ذلك، والله تعالى يقول: ﴿ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر:59].
 
هذا والله تعالى أعلى وأعلم والحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١