أرشيف المقالات

رحمة أهل السنة بالناس

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
رَحْمَةُ أهلِ السُّنة بالناس


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
فأصل الرحمة في اللغة: من رحم، وهذه المادة تدور على معنى الرِّقَّة والعطف والرَّأفة، قال ابن فارس رحمه الله: (الراء والحاء والميم أصلٌ واحدٌ يدلُّ على الرِّقَّة والعَطْفِ والرَّأفةِ.
يُقال من ذلك: رَحِمَه يَرْحَمُه، إذا رَقَّ له، وتَعَطَّفَ عليه)[1].
 
وممَّا جاء في تعريف الرحمة اصطلاحًا ما يلي:
1- ما قاله الجرجاني رحمه الله - في تعريف الرحمة أنها: (إرادة إيصال الخير)[2].
 
2- وقال أبو البقاء الكفوي رحمه الله: (الرحمة: هي حالةٌ وجدانية تعرض غالبًا لمَنْ به رقَّة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النَّفساني الذي هو مبدأ الإحسان)[3].
 
وقد وصَفَ اللهُ تعالى أصحابَ نبيِّه الكريم بالرحمة فيما بينهم والمحبَّة والتعاطف، وهم الذين أمَرَنا الله تعالى بأنْ نقتدي بهم، ونقتفي أثرهم، ونهتدي بهديهم؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
 
فقوله سبحانه: ﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي: مُتحابون مُتراحمون مُتعاطفون، كالجسد الواحد، وكالوالد مع الولد، يُحِبُّ أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق[4].
قال ابن عاشور رحمه الله: (وأما كونُهم رحماء بينهم؛ فذلك من رسوخِ أُخُوَّةِ الإيمان بينهم في نفوسهم...
 
وفي الجَمْعِ لهم بين هاتين الخُلَّتين المُتَضادَّتين؛ الشِّدَّةِ والرَّحمة: إيماءٌ إلى أصالة آرائهم، وحِكْمَة عقولهم، وأنهم يتصرَّفون في أخلاقهم وأعمالِهم تَصَرُّفَ الحكمةِ والرُّشد، فلا تغلبْ على نفوسهم مَحْمَدَةٌ دون أُخرى، ولا يندفعون إلى العمل بالجِبِلَّة وعدم الرُّؤية)[5].
 
وقال ابن القيم رحمه الله: (الرَّحمة صِفَةٌ تقتضي إيصالَ المنافع والمصالح إلى العبد؛ وإنْ كَرِهَتْها نَفْسُه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك مَنْ شَقَّ عليك في إيصال مصالحك، ودفْعِ المَضَارِّ عنك)[6].
 

رحمة أهل السُّنة بالناس:
من الصور المضيئة في رحمة أهل السنة والجماعة بالناس، ما يلي[7]:
1- ما جاء عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِلَى السُّوقِ، فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا، وَاللَّهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا[8]، وَلاَ لَهُمْ زَرْعٌ وَلاَ ضَرْعٌ، وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمُ الضَّبُعُ[9]، وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءَ الْغِفَارِيِّ، وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ رضي الله عنه، وَلَمْ يَمْضِ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ[10] كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلأَهُمَا طَعَامًا، وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا، ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ.
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَكْثَرْتَ لَهَا.
قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا، فَافْتَتَحَاهُ، ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا[11] فِيهِ)[12].
 
2- عن جسر بن أبي جعفر، قال: شهدتُ كتابَ عمرَ بنِ عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة، قُرِئَ علينا بالبصرة: أمَّا بعد: فإنَّ الله سبحانه، إنما أمر أن تؤخذ الجزية[13] مِمَّنْ رغب عن الإسلام، واختار الكفر عتوًا وخسرانًا مبينًا، فضع الجزية على مَنْ أطاقَ حَمْلَها.
وخلِّ بينهم وبين عمارة الأرض؛ فإنَّ في ذلك صلاحًا لمعاش المسلمين، وقوةً على عدوِّهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجْرِ عليه من بيتِ مال المسلمين ما يصلحه.
فلو أنَّ رجلًا من المسلمين، كان له مملوك كبرت سِنُّه، وضَعُفَتْ قُوَّتُه، وولَّت عنه المكاسب، كان من الحقِّ عليه أنْ يقوته أو يُقوِّيه، حتى يُفَرِّق بينهما موت أو عتق؛ وذلك أنه بلغني أنَّ أمير المؤمنين عمرَ رضي الله عنه مرَّ بشيخٍ من أهل الذمة، يسأل على أبواب الناس، فقال: (ما أنصفناك إنْ كُنَّا أخذنا مِنْكَ الجِزْيةَ في شبيبتك، ثم ضَيَّعناك في كِبِرِك.
قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصْلِحُه)[14].
 
3- عن عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ أنه: كتب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أمَّا بعد: أصلحَ اللهُ أميرَ المؤمنين؛ فإنَّ قِبَلِي أُناسًا من العُمَّال قد اقتطعوا من مَالِ الله عزَّ وجلَّ مالًا عظيمًا، لستُ أرجو استخراجَه من أيديهم إلاَّ أنْ أَمَسَّهم بشيءٍ من العذاب، فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أصلَحَه اللهُ أنْ يأذنَ في ذلك أفعلْ.
 
قال: فأجابه: (أمَّا بعد: فإنَّ العَجَبَ كلَّ العَجَبِ استئذانك إيَّاي في عذاب بَشَرٍ، كأنِّي لك جُنَّةٌ، وكأنَّ رضائي عنك يُنجيك من سَخَطِ اللهِ عز وجل! فانظرْ مَنْ قامت عليه البَيِّنة، ومَنْ أقَرَّ لك بشيءٍ، فخُذْهُ بما أقَرَّ به، ومَنْ أنكر فاسْتَحْلِفْه باللهِ العظيم وخَلِّ سبيلَه، وَايْمُ اللَّهِ لأَنْ يَلْقَوا اللهَ عزَّ وجلَّ بخياناتهم أحبُّ إليَّ من أنْ ألقى اللهَ عزَّ وجلَّ بدمائهم، والسلام)[15].

[1] معجم مقاييس اللغة، (2 /498).

[2] التعريفات، (ص146).

[3] الكليات، (ص742).

[4] انظر: تفسير السعدي، (ص795).

[5] التحرير والتنوير، (26 /204، 205).

[6] إغاثة اللهفان، (2 /174).

[7] انظر: أهل السنة والجماعة، (ص361).

[8] (مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا): أي: لا كُراعَ لهم حتى يُنْضِجونه، أو لا كفايةَ لهم في ترتيب ما يأكلونه، أو لا يقدرون على الإنضاج، يعني: أنهم لو حاولوا نَضْجَ كراعٍ ما قدروا؛ لصغرهم.
والكراع من الدَّواب: ما دون الكعب، ومن الإنسان: ما دون الركبة.
انظر: عمدة القاري، (26 /11)؛ معجم مقاييس اللغة، (5 /171).

[9] (تَأْكُلَهُمُ الضَّبُعُ): الضَّبُعُ: اسم يقع على الحيوان المعروف، وهو اسمٌ للأُنثى منه، والذَّكَر ضبعان، ويقع على السَّنة المُجْدِبة، وهو المراد في هذا الحديث.
انظر: كشف المُشكل، (ص85).

[10] (بَعِيرٍ ظَهِيرٍ): البعير الظَّهير هو القوي الذي يُسْتَظْهَر بِقُوَّتِه على الحَمْل.

[11] (نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا) أي: نسترجِعُها، وهو الفَيءُ، وسُمِّي فَيْئًا؛ لأنه مَالٌ استرجعه المسلمون من أيدي الكفار.
والمعنى: نأخذ سُهْمَانَهُمَا.
انظر: كشف المُشكل، (ص85).

[12] رواه البخاري، (2 /831)، (ح4212).

[13] (الجزية): هي عبارة عن الْمَال الذي يُعْقَد للْكِتَابي عليه الذِّمَّة، وهي فِعْلة، من الجزَاء، كأنها جَزَت عن قَتْلِه، والجزيةُ مقابل إقامتهم في الدولة الإسلامية وحمايتها لهم.

[14] رواه ابن زنجويه في (الأموال)، (1 /165)، (رقم152)؛ والقاسم بن سلام في (الأموال)، (1 /115)، (رقم104).

[15] أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته، تحقيق: د.
عبد الله عبد الرحيم عيلان (1 /78).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣