أرشيف المقالات

من عجائب الخلوة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
صدِّقوا أو جرِّبوا..
من عجائب الخلوة

شعرت بظُلمة نفس، وقسوة قلب، وانقباض صدر، وردَّدتُ قولَه تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
 
فألهمني الله - جل شأنه - أن خير وسيلة لجلاء الصدأ، وذَهابِ القسوة، إنما هي الخلوة، فاعتزلت الناس إلا في عطلة قصيرة، أو في إصلاح ذات البين، وثَقُلَ عليَّ كلامُهم، حتى كنت أحتمل النزر اليسير منه على مضض.
 
فكرت في خلوتي، وأطلت التفكير في أنجع دواء لأمراض القلوب، وأدواء النفوس، حتى هداني الله تعالى إلى أن حبَّه الصادق هو الشفاءُ الذي لا يغادر سقمًا، أحببتُ اللهَ تعالى حبًّا صادقًا - أو قل: زعمت أني أحبه حبًّا صادقًا - وما هي إلا لحظات حتى أحببتُ من أجله كلَّ شيء، أحببت السموات والأرض، وفكرت في خلقهما العجيب، وصنعهما المتقن الحكيم، أحببت الناس جميعَهم مسيئهم قبلَ محسنِهم، كلاًّ منهم في الحب على قدر ما يُرجَى فيه من خير، وما يُؤمَّلُ فيه من صلة بالله تعالى أو نفع لعباده، فحب جلالة مولانا الملك أعظم الحب؛ لأنه خليفة الله في أرضه وغيث الله لعباده، والله يحيي به الأرض بعد موتها والله على كل شيء قدير، وحب ولاة الأمور؛ لأنهم أسلحة الحق، وموازين العدل، والله يَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وحبُّ العلماء؛ لأنهم أعلام الهدى، ومنار الرشاد، وإذا صلَحوا صلَحَ الناسُ، وإذا فسَدوا فسَدَ الناس، وحب الخاصة؛ لأنهم الأطباء الحُذَّاقِ، ترياق السموم، ورقيةُ اللدغات، وحبُّ العامة؛ لأنهم شركائي في العلة، وزملائي في المرض، والرفيقُ أَولى بعطف رفيقِه، والحدب عليه، والنصح له بما جرَّب من دواء، وعلامة المحب أن يحتمل من حبيبه كلَّ أذًى، ولا سيما المريضُ؛ فإنه أولى بالرعاية.
 
رسختْ هذه العقيدة في نفسي، وخالطت لحمي ودمي، وفاضتْ بها مشاعري وجوانحي، حتى لم أجد سبيلاً إلى كتمانها، وهل يكتم الحبيبُ حبيبَه سرًّا، أو يدخر دونه نصحًا؟ أليس من كمال الإيمان - بل من أصوله - أن يحب المرءُ أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يحبَّ له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، وأن يستعذِبَ العذاب في سبيل علاجه، ويطير فرحًا بشفائه وخلاصه؟
 
وصدقوني أحبابي القراء - أو لا تصدقوا - إني ما فهمتُ قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ربِّ، اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون)) بعد أن آذَوْه وعاكسوه وسعوا بكل حيلة في الإضرار به، إلا حينما ذقتُ حلاوةَ الحب لله، وما تصورت وقوف الأنبياء في أحرج المواقف يدْعُون الله تعالى برفقٍ ولين، ويقابلُهم الأعداء بالغلظة والشدة، إلا حينما أحببتُكم جميعًا حبًّا لله خالصًا.
 
وانظروا كيف جاهد نوح عليه السلام ولبث في قومه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا، ولم يؤمن معه إلا القليل، بل انظروا كيف أُلقي إبراهيم عليه السلام في النار، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم انظروا كيف كانت العاقبة!
 
وصدقوني أحبابي - قراء الإسلام - أو جربوا - إني ما فسرت قوله تعالى: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما وهو خلفه: ((يا غلام، إني أعلِّمك كلمات: احفظِ الله يحفَظْك، احفَظِ الله تجدْه تُجاهكَ، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك)) الحديث؛ رواه الترمذي.
 
أقول: ما فسرتُ الآية والحديث تفسيرًا عمليًّا إلا في أثناء هذه الخلوة.
 
ولا أدعُ القلمَ حتى أَقِفَ إخواني جميعًا على آثار خلوتي، وما فيها من محاسن ومثالب؛ حتى ينتفعوا بالخير، ويتجنبوا الشر، وما عرَف الشرَّ مثلُ من وقع فيه ﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14].
 
في الخلوة صفاء الروح وأنسُها بالله جل شأنه، وحبُّ كل شيء من أجله عز وجل، والحب في الله من أعلى درجات الإيمان، ويَتْبَعُ الحب في الله ألا تغتاب أحدًا، أو لا تشترك في غيبة، ولا تؤذي أحدًا ولا تشترك في إيذائه قلبًا أو لسانًا أو فعلاً، وكيف تؤذي من تحبُّ، وقد زعمت أنك تحبُّ الناس جميعًا لله؟ نعم إذا كان الإيذاء لله وكنت على يقين من ذلك، فالبغضُ لله من الإيمان، ولكن آخر الدواءِ الكيُّ.
 
ويتبعه أنك لا تخاف في الله لومةَ لائم، وأنك تحبُّ الحقَّ، وتسعى له، وتفرحُ بظهوره على يد غيرك أكثر من فرحِك بظهوره على يدك؛ بُعدًا بالنفس عن شهواتها وغرورها.
 
ويَتْبعُه أنك تشتغل بعيوبك عن عيوب الناس، ولا تأمن مكرَ الله؛ فإن الذي فضَّلك - إن كنت ذا فضل - هو القادر على أن يُردَّك أسفل سافلين، وأنك تُخلِصُ لله جميعَ أعمالِك، وأن تعلم علم اليقين أن ترك العمل من أجل الناس رياءٌ، والعمل من أجل الناس شرك، وأن تحسن الظن بعباد الله تعالى - إلا فيما لا بد من سوء الظن فيه - ويروى عن الجُنيد رحمه الله: أن الله تعالى لا يسأل الناس يوم القيامة: لم حسَّنتم الظن بعبادي؟
 
ومن مثالب الخلوة أن المختلي قد يشتط في خطابه؛ لأنه يرى أن العالم كلَّه خيالٌ فلا يبالي بأحد، وضرر هذا أكبر من نفعه، وقد يكون فيه الغرور والعياذ بالله، والغرور - حفظكم الله - هو أول مصيبة وقعتْ في الأرض، ومنها أن المختلي قد تَرِدُ عليه وارداتٌ يلعب الشيطان فيها، فتكون أصل الهلاك، ومنبع الفساد؛ لأنه لا عصمةَ لأحدٍ بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن هذا القبيل كلمات لبعض المدَّعين هي أقربُ إلى الكفر منها إلى الإيمان، مهما أوَّلَ الناس وحسَّنوا في أصحابها الظنونَ، وقد حكموا على بعضهم بالقتل لما قال: "ما في الجبة إلا الله".
 
والحذرَ كلَّ الحذرِ من الخلوة على جهل، أو عزلة من التسلح، وأكبر السلاح: هو البكاء، والاستغفار، وتلاوة القرآن الكريم، والنظر في عاقبة المفترين والمتكبرين، وشيخهم إبليس اللعين.
 
وليحذر المختلي وعظَ الناس أو إرشادَهم؛ لأن حاله وحالهم مختلفان، وأمره وأمرهم متباعدان لا يلتقيان، ومن هنا نعلم الحكمة البالغة في عدم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد فترة طويلة من تعبُّدِه في غار حراء، مع أنه معصوم من الهوى، ومؤيد بالعلي الأعلى.
 
إخواني، عاهدت الله تعالى على أني أحبكم جميعًا للهِ، وأحب لكم ما أحب لنفسي، وأكره لكم ما أكره لنفسي، ولكنْ للمحبة شرط عليكم، وهو: أن تتناصحوا وتتحابوا، وتتعاونوا على البر والتقوى، ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان، والسلام عليكم ورحمة الله.
 
الإسلام، السنة 7، العدد 42 - 1 من ذي القعدة 1357هـ

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن