أرشيف المقالات

فرصة

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
فرصة

في كرة القدم - اللعبة الأولى جماهيريًّا - يعتبر (بيليه) من أفضل هدَّافي العالَم، وفي آسيا والخليج لم نَعرف مهاجمًا يستغل أنصافَ الفرص مثل المهاجم الأسمر (ماجد عبدالله)! لكن الأسطورة العالمية (دييجو مارادونا) عرف كيف يَصنع الفرصَ، وكيف يَقتنص من نَفس الفرص تلك أهدافًا ما زالَت عالقةً بالأذهان!
 
الفُرصة في اللغة: النَّوبة تكون بين القوم يتناوبونها على الماء، وجمعها: فُرَص، يقال: جاءت فرصتك من البِئر؛ أي: نَوبتك، وجاءَت فرصتك من السَّقي؛ أي: ساعتك ووقتك الذي تَستقي فيه، ويقال: انتهز فلانٌ الفُرصة؛ أي: اغتنمَها وفاز بها[1].
 
الفرَص تأتي مرةً واحدة لا مرَّتين، وهي لا تَعرف الكسالى ولا المتردِّدين، لكنَّها أبرمَت عقدًا مع الباحثين الجاهدين، وأسلمَت قِيادها للذين عرفوا المقادير والأدوات التي تتكوَّن منها، فاحترفوا صناعتَها واستغلالها.
 
في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمسًا قبل خمس))؛ خَمس فرَص باقية بين يديك، تستطيع انتهازَها في كلِّ وقت؛ الرُّوحُ التي تنبض بالحيويَّة هي شابَّة وإن تجاوزَت الستين، أمَّا الأخرى فهي هرمَة وإن كان حاملها في عقده الثَّاني.
 
واللسانُ اللاهِج بالذِّكر، والعقل العابِد بالفِكر: يرفع ذلك المُصابَ بشلَل الأطراف منازلَ الراحة والسرور، والبهجة والحبور، في الدنيا قبل الآخرة، فكيف بمن يَرفل في ثوب الصحَّة والعافية؟!
 
أمَّا الفراغ، فلا أظن أنَّ أحدًا غادَر دنيانا وهو غير مشغول، ولن تَنتهي من أشغالك الدنيويَّة، فما دمتَ كذلك، فلتَنشغل بالخير عن الشرِّ، وإياك أن تَنشغل بالشرِّ عن الخير.
 
أمَّا الغنى، فهو حال غير ثابتة ولا تدوم، والمال الذي تَملكه هو عارِية، وما ينفعك منه: ما أنفقتَ، لا ما أتلفتَ.

قدِّم لنفسك خيرًا
وأنت مالِكُ مالِكْ

من قبلِ تُصبحُ فردًا
ولون حالِك حالِكْ

ولستَ والله تَدري
أي المسالِك سالِكْ

إمَّا لجنَّة عَدنٍ
أو في المهالِك هالِكْ

 
أمَّا الحياة، فهذه اللَّحظة التي أنت فيها الآن هي من أَجمل وأَثمن فرَص الحياة، فقط استجمِع كاملَ قواك، وأطلِق في الخير لها العنان؛ لترقى بك غدًا درجات الجنان.
 
الحديث مع الحبيب، سواءٌ كان أمًّا أو أبًا، أو زوجًا أو ولدًا، أو أخًا أو أختًا أو صديقًا، لا تَتركه يمر دون أن تَلعَق كلَّ ما فيه من لذَّة، هذه الوجبة التي يَنبغي لك أن تشبع منها، بل ألاَّ تشبع!
 
السباق يجب أن يستمرَّ ولا يَنتهي على الفرص التي تكون مَظِنَّةً لمغفرةٍ وجنة!
 
امرأة أتَتها فرصة عظيمة إلى عُقر دارها، فانتهزَت (أمُّ حرام) تلك الفرصة خيرَ انتهاز، تقول رضي الله عنها: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ من قَيلولته نهارًا وهو يَضحك، قالت: يا رسول الله، ما يُضحكك؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((‏عَجبتُ من قوم من أمَّتي يركبون البحر الأخضر، كالمُلُوك على الأسرَّة‏))، فقُلتُ: يا رسُول الله، ادعُ الله أن يَجعلني منهم،‏ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنتِ معهم))، ثمَّ نام، فاستيقظ وهو يَضحك، فقال مثل ذلك مرَّتين أو ثلاثًا،‏ قلتُ: يا رسُول الله، ادعُ الله أن يَجعلني منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنتِ من الأولين))، سقطَت هذه الصحابيَّة الجليلة عن دابَّتها فخرَّت شهيدة، وما زال قبرها في قبرص شاهدًا على انتهازها لأعظم فرصة سنحَت لها، لم تَختلق الأعذارَ وتقُلْ: إنَّها امرأة، ما لها وما لغزوةٍ في عرض البحر، ولم تتردَّد أن تسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فدعا لها، ثمَّ بقيَت هذه المرأة فترة بقائها تَنتظر، حتى حانت الفرصة.
 
الفرصة المواتية لك الآن، قبل أن تَختم هذا المقال، هي التوبة:

تُبْ إلى الرحمنِ واستغفر وقمْ
وانطلق للعيش فيما حلَّ لكْ

يا لها من فرصةٍ غاليةٍ
لم تزل تملكُها..
والوقتُ لكْ

[1] المعجم الوسيط.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير