أرشيف المقالات

حكمة الصيام (1)

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2حكمة الصيام (1)   إدراك حكمة الصوم أمرٌ يساعد على الامتثال والالتزام والسعي في طلب مقصد الشرع الشريف من الصوم. والحديث عن الحكمة هو مُتفرِّع عن الإيمان بوجود تلك الحكمة في أحكام الشريعة الغرَّاء، وهذه الحكمة آيلة في نهاية المطاف إلى تحقيق مصلحة الإنسان في عاجله وآجله، وهذه الحكمة راجعةٌ إلى معنى شامل؛ وهو استصلاح نفس الإنسان وصلاحها، وتهيئتها للمسؤولية الملقاة على الإنسان، والصوم تحديدًا له حكم كثيرة، ولا يمكن إدراكها إلا بالرجوع إلى النصِّ المؤسس لفرضية الصوم، وذلك قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فالهدف والغاية من الصيام هو تحقيق هذا المطلب، وهو تحصيل التقوى.   والتقوى مُعبَّر عنها في الشريعة بتعابير متعددة، لعل من أجودها تعبيرًا ما جاء[1]: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك، قال: بلى، قال: فما عملت، قال: شمَّرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى، وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز، فقال: خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى وَاصْنَعْ كماشٍ فوق أر ض الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى   فالتقوى هي حالة من المراقبة الذاتية للسلوك، وللفعل، وللخواطر، ولكل ما يصدر عن الإنسان، فهي حالة نفسية وشعورية وسلوكية يجب أن يكون عليها الإنسان وهو يعيش حياته ساعيًا إلى الانضباط مع أحكام الشريعة الإسلامية.   وهذه الحالة التي ينتهي إليها الصائم هي حالة مطلوبة وهي الغاية والمقصد، ومما يؤكد أن استصلاح نفس الإنسان هو هدف ومقصد الصيام أن الإسلام استعمل تلك الشعيرة حينما يصدر من الإنسان خطأ، فالصيام وارد في الكفَّارات؛ كفارة الإفطار في رمضان، كفارة في الحنث في اليمين، كفارة في قتل الخطأ، وهذا الأسلوب المتفرد هو منهج في استعمال العبادة في تقويم خطأ النفس واعوجاجها.   ويحقق الصيام هدفه بارتباطه بمنظومة متكاملة لا تنفكُّ عنه، فالصيام مرتبطٌ بالقرآن الكريم، حتى حينما عرَّفَ الله شهر الصيام رمضان، عرَّفه بأنه الذي أُنزل فيه القرآن: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]؛ ولذلك وجب توثيق الصلة بهذا القرآن خاصة في حالة الصيام، وفي شهر الصيام.   كذلك هذا الشهر يتناسب مع أمر آخر وهو الصلاة والإكثار منها، خصوصًا صلاة التراويح، والتراويح هي حالة تكثَّف فيها قراءة القرآن الكريم وأداء الصلوات بكيفية غير اعتيادية في الأيام الأخرى، وكل ذلك من أجل الترقِّي بالإنسان للوصول إلى درجة التقوى.   ثم يرافق ذلك أمرٌ ثالثٌ وهو الاستزادة من المعارف الشرعية، كما جاء في الحديث الشريف: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ"[2]؛ أي: لا يكتفي الإنسان فيه بقراءة القرآن فقط؛ بل أيضًا مُدارسة الوحي، فعلى الأمة في هذا الشهر أن تتعلم معاني الكتاب الكريم، وأسراره، وأن تستبطن تلك المعاني.   ثم يرافق هذا أيضًا أمرٌ رابعٌ، وهو البذل والعطاء، كما سبق في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان.   فحينما تحتف بالصيام تلك الشروط، وهي شروط مهمة جدًّا، لكل منها غاية وقصد وهدف، فالصلاة تقوية للروح، فهي مناجاة لله رب العالمين، والعلم تقوية لجانب الفكر، والكرم هو إزالة لنزوع الشح والبخل في الإنسان، فكأن الإنسان يهذب في هذه الجوانب كلها من خلال صوم صحيح.   أما إن كان الصوم مجرد كفٍّ عن الطعام والشراب فقط، فلا شك أن النتائج المتوخاة لا تتحقَّق؛ بل ربما تظهر نتائج أخرى سلبية مثل رؤية البعض يتبرَّم من الصيام.   كذلك يُعلِّم الصيام المسلمين معنى تحمُّل المشاقِّ، فالتكليف هو تحمُّل المشقَّة، ونعني بها المشقة المعتادة التي في مقدور الإنسان، فالشرع لا يُكلِّف بالمستحيل؛ بل يرفع من هِمَم الناس وقدراتهم بالتكاليف الشرعية، فنرى الناس يتحمَّلون الصيام في الصيف مع شدة الحرارة والعطش، والشرع لا يقصد من ذلك إعناتهم؛ بل رفع مستواهم إلى درجة تحدِّي المشاقِّ، وهذا هو سِرُّ بناء الحضارات، فالحضارات لا تُبنى إلا بتحدِّي المشاقِّ والصعاب.   وكل هذا يرجع إلى الوعي بحكمة الصيام، وأسوأ ما تُصاب به الأُمَم هو أن تتحوَّل العبادات إلى عادات، وحينئذٍ تفقد معناها ومغزاها، وحينئذٍ لا يستطيع الإنسان أن يستفيد منها إلَّا مظهريًّا.   ومعنى هذا أيضًا أن الأُمَّة المسلمة هي أُمَّة مُتحضِّرة، أمة وعي، لا تعيش بالتقليد؛ وإنما هي أُمَّة تعرف حكمة عبادتها وأسرارها، فالصوم مشروع تربوي تهذيبي تأسيسي لنفس الإنسان، والإنسان هو الذي يُؤسِّس الحضارة في نهاية المطاف، وهو الذي بإمكانه أن يحدث كل الخير فيما حوله.


[1] ابن كثير؛ تفسير القرآن العظيم، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، 1 /75. [2] مسند الإمام أحمد، مسند عبدالله بن عباس، حديث رقم: 3539.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن