أرشيف المقالات

الصقالبة في الرواية العربية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 1 - الصقالبة في الرواية العربية وفي الدولة الأندلسية للأستاذ محمد عبد الله عنان لم يعن العرب في فتوحاتهم الأولى بتعيين الأمم والأجناس الأجنبية تعيينا واضحا، وإذا استثنينا الفرس والروم والقبط والبربر والقوط، فإن هذا التصنيف للأمم والأجناس الأجنبية يتخذ في الرواية الإسلامية صفة التعميم الغامض، فنجد كلمات (الأعاجم) و (النصارى) و (الفرنج) تطلق على أمم وأجناس متباينة لا يمكن تحديدها وتعيينها إلا على ضوء الحوادث والظروف؛ بل نجد كلمة (الروم) ذاتها تطلق في الرواية الإسلامية الأولى على الرومان وعلى سكان الدولة الشرقية (الدولة البيزنطية) اليونانيين أحياناً على سكان المستعمرات الرومانية مثل الشام وطرابلس؛ وتطلق كلمة الفرنج لا على أمة الفرنج (الفرنكيين) وحدها، بل على معظم الأمم والممالك النصرانية التي كانت تعيش يومئذ في غرب أوربا وفي وسطها؛ ولم تعن الرواية الإسلامية بالتصنيف والتحديد في هذا الميدان إلا منذ القرن الثالث الهجري، وفي القرن الرابع نجد هذا التصنيف القومي أكثر وضوحا سواء من حيث اللفظ أو المعنى، فنجد الرواية الإسلامية تحدثنا عن الفرنج والألمان (الألمان) والبلغار والروس والصقالبة، وعن انكبردية (بلاد اللومبارد) والفرنسة وبريطانية؛ وهذا التقدم في تصنيف الأجناس والأمم يرجع إلى تقدم مماثل في الجغرافية الاسلامية، وإلى تقدم العلائق والصلات الدبلوماسية والتجارية بين الأمم الإسلامية والأمم النصرانية وقد كانت كلمة (الصقالبة) من أغمض الكلمات التي أطلقت في الروايات الإسلامية على الأجناس الأجنبية الدخيلة؛ ولم يبق اليوم ثمة غموض في تعريف البلدان والأمم الصقلبية، فهي تشمل قسما من بلاد البلقان وتشمل صربيا ورومانيا وروسيا حتى الشرق الأقصى وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وشرق ألمانيا؛ وبعبارة أخرى هي الأمم التي تعرف اليوم بالأمم (السلافية) أو السلافونية ; ولكن كلمة (الصقالبة) في الرواية الإسلامية كانت بعيدة جداً عن أن تشمل مثل هذا التصنيف الواسع، ومع أننا نراها مستعملة في الرواية الإسلامية منذ القرن الثاني للهجرة، فأنها لبثت دائما لفظا غامضا متباين المعنى.
فمثلا يستعملها البلاذري، وهو من أقدم رواة الفتوح الإسلامية في أكثر من مناسبة؛ فيقول لنا إن المنصور (ن الخصوص وهم فرس وصقالبة وأنباط ونصارى من المصيصة وكان مروان أسكنهم إياها)؛ ومن الصعب أن نضبط المعنى الذي ينصرف إليه لفظ (الصقالبة) في هذا العصر المتقدم.
بيد أنه يلوح لنا أن الكلمة كانت تطلق حتى القرن الثالث على سكان بلاد الخزر (قزوين) والقوقاز وما إليها، ثم اتسع معناها نوعا وأطلقت على سكان البلقان المتاخمين للدولة البزنطية مثل البلغار؛ وقد كان الصقالبة في الواقع يستعمرون هذه الأنحاء في تلك العصور، وكانت لهم في بلغاريا مملكة (صقلبية) حقيقية.
وكان معنى الكلمة أوضح وأدق في الغرب الإسلامي في الأندلس وصقلية والمغرب، حيث كانت تطلق على الأجناس الصقلبية الحقيقية التي تسكن حوض الدانوب الشرقي والأوسط وألمانيا وضفاف الادرياتيك، ويؤتى منها إلى الأندلس والمغرب بالخصيان والأسرى؛ ويعرف الشريف الإدريسي بلاد الصقالبة بأنها هي شبه جزيرة البلقان، وهو في الواقع معنى أقدم من عصر الإدريسي، بيد أن الإدريسي يشير على ما يظهر إلى التحديد السياسي حيث كانت مملكة الصقالبة (بلغاريا) تسود يومئذ بلاد البلقان وعرف الصقالبة وعرفتهم القصور الإسلامية في عصر مبكر جدا، فمنذ الدولة الأموية نجدهم في بلاط الخليفة وفي الجيش؛ ولكن نفوذهم الحقيقي في القصور الإسلامية يبدأ منذ القرن الرابع الهجري، فنراهم عندئذ يتقلبون في الوظائف والمهام العليا بعد أن كانوا يقتصرون على تقلد الوظائف والمهام الصغرى في البلاط وداخل القصر، مثل وظائف الخدمة السلطانية والنظر على الشؤون المنزلية المحضة كشؤون المائدة والثياب والرياش، ونراهم يسيطرون على شؤون الدولة العليا، فيتولون الوزارة والقيادة والوصاية أحيانا ويسود نفوذهم في القصر وفي الحكومة.
وقد كان هذا النفوذ يرجع في الغالب إلى سياسة الدول والأسر، تعمل لرعايته وإيثاره لبواعث سياسية واجتماعية؛ وسنقتصر هنا على معالجة مركز الصقالبة ونفوذهم في الأندلس حيث كانت لهم دولة وكان لهم أيما نفوذ - 2 - كانت سياسة الدولة الأموية بالأندلس تقوم منذ البداية على اصطناع الموالي والصقالبة واتخاذهم أداة وبطانة؛ وكانت الظروف العصيبة التي أحاطت بقيام الدولة الأموية في الأندلس، والخطوب والثورات الجمة التي تفجرت حول عبد الرحمن الداخل والتي أثارها خصومه ومنافسوه من زعماء القبائل العربية، هي التي حملته على الاسترابة بالعرب وعلى اصطفاء البربر والموالي الذين آزروه وقت المحنة ومكنوه من توطيد زعامته وإمارته؛ وقد حافظ خلفاء الداخل على هذه السياسة في جوهرها منذ البداية لشعورهم بأهميتها وضرورتها لمقاومة نفوذ القبائل الخصيمة التي كانت تتقاسم السلطان والنفوذ قبل قيام الدولة الأموية؛ وظهر الصقالبة بكثرة لأول مرة في البلاط الأندلسي في عهد الحكم المنتصر حفيد عبد الرحمن الداخل (188 - 206هـ)؛ وكان الحكم يعشق مظاهر الفخامة والملك فغص البلاط الأموي في عصره بالخدم والحشم من المماليك والصقالبة حتى بلغ عددهم زهاء خمسة آلاف وأخذ نفوذ أولئك الصقالبة يقوى شيئا فشيئا داخل القصر والبطانة.
بيد أنه لبث مدى حين بعيدا عن الشؤون الدولة العليا قاصرا على شؤون القصر والخاص وفي عهد الناصر قوى نفوذ الصقالبة وازدهر؛ وكان الناصر يجري على سنة سلفة عبد الرحمن الداخل في الاسترابة بالقبائل العربية ذات العصبية والبأس وفي إقصاء زعمائها عن مناصب النفوذ والثقة؛ وكان يمعن في الاستئثار حتى لقد ألغى وظيفة الحاجب، وجمع مقاليد الحكم كلها في يده؛ وعهد بالمناصب الكبيرة إلى رجال وضيعي المنبت من الصقالبة والموالي المعتقين أو الأرقاء؛ وهم رجال لا إرادة لهم يوجههم كيفما شاء؛ وكان يثق بالصقالبة بنوع خاص ويوليهم من النفوذ مالا يوليه سواهم ومنذ أواسط عهد الناصر يبدأ نفوذ الصقالبة الحقيقي في بلاط قرطبة.
وقد كانت كلمة الصقالبة تطلق في الأندلس كما قدمنا على الأسرى والخصيان من الأجناس الصقلبية الحقيقة؛ ولكنها غدت تطلق بمضي الزمن على جميع الأجانب الذين يخدمون في البطانة وفي الجيش؛ ولما استحكم نفوذ الصقالبة واستأثروا بحماية الخليفة والقصر، أضحت الكلمة تطلق منذ عهد الحكم المستنصر على الحرس الخلافي وقد انتهت إلينا عن صقالبة الأندلس في العصر رواية شاهد عيان هو الرحالة البغدادي أبن حوقل الذي زار قرطبة والزهراء في أواخر عهد الناصر أو أوائل عهد أبنه الحكم المستنصر وبحث أحوال الصقالبة وكتب عنهم في رحلته ما يأتي: (وبالأندلس سلاح كثيرة ترد إلى مصر والمغرب، وأكثر جهازهم الرقيق من الجواري والغلمان من سبي فرنجة وجليقية.
والخدم الصقالبة وجميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان من جلب الأندلس، لأنهم بها يخصون، ويفعل ذلك بهم تجار اليهود عند قرب البلد؛ وجميع ما يسبى إلى خراسان من الصقالبة فباقي على حالته، ومقر على صورته.
وذلك أن بلد الصقالبة طويل فسيح، والخليج الآخذ من بحر الروم ممتد على القسطنطينية واطرابذنده يشق بلدهم بالعرض، فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون ويصلون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقية وأفرنجة وانكبرده وقلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير الباقي على حاله)
، ومعنى ذلك أن الصقالبة الأندلسين كانوا مزيجا من الجليقيين (النصارى الأسبان) والألمان والفرنسيين (أهل افرنجة) واللومبارديين (أهل انكبردة) والايطاليين من (قلورية) وكذلك الروس وهم أهل القسم الأول من بلاد الصقالبة.
وكان معظم هؤلاء الصقالبة يؤتى بهم أطفالا من الجنسين بواسطة خوارج البحر (القرصان) وتجار الرقيق، وتحملهم سفن القرصان أو سفن البنادقة إلى مختلف ثغور البحر الأبيض؛ وكانت الكنيسة تقاوم هذه التجارة المثيرة وتحرمها؛ بيد أنها كانت تجري في روما عاصمة النصرانية ذاتها؛ وفي معظم الثغور الإيطالية.
وكانت الحرب مصدرا آخر لجلب هؤلاء الصقالبة، ففي كثير من الغزوات الإسلامية المنظمة لأمم النصرانية؛ وفي الحملات والغزوات البحرية الناهبة كان المسلمون يغنمون كثيرا من السبي والأسرى صغارا وكبارا، ومنهم الصقالبة الذين يخدمون جندا مرتزقة في معظم الجيوش النصرانية؛ هذا عدا الرقيق والأسرى من مختلف الجنسيات والأمم يتدفقون على الثغور والعواصم الإسلامية عقب كل فتح أو غزوة ناجحة وكان الصقالبة يختارون في الغالب أطفالا من الجنسين، ويربون منذ الحداثة تربية عربية حسنة، ويلقنون مبادئ الإسلام؛ وقد بلغ بعضهم في النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد، وبلغوا في عهد الناصر قسطا وافرا من السلطان والنفوذ، واحتلوا الوظائف الكبرى في القصر وفي الإدارة والجيش، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة؛ وفاق عددهم في عهد الناصر أي عهد آخر حتى قدر بعض المؤرخين عددهم يومئذ في القصر والبطانة بثلاثة عشر ألفا وسبعمائة وخمسين، وبلغوا في رواية أخرى ستة آلاف وثمانين، وفي رواية ثالثة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين؛ وعلى أي حال فقد كان منهم الحرس الخلافي، ورجال الخاص والحشم، وكان الناصر يمد لهم في السلطان والنفوذ ويرغم أشراف العرب وزعماء القبائل على الخضوع لهم ليذل بذلك أنوفهم ويسحق هيبتهم بل كان كل منهم في الناصر قائد الجيش الأعلى نجدة، ومعظم أكابر القادة والضباط، وكان منهم أفلح صاحب الخيل ودرى صاحب الشرطة؛ ومنهم ياسر وتمام صاحبا النظر على الخاص وكان لهذه السياسة غير بعيد أسوأ الأثر في انحلال الجيش وفتور قواه المعنوية لما جاشت به صدور الضباط والجند العرب من الحفيظة والسخط على هذه السياسة المهينة؛ وكانت هزيمة الناصر في موقعة الخندق الشهيرة (الانديجا) أمام نصارى الشمال (327هـ - 939م) ترجع من وجوه كثيرة إلى هذا الانحلال المعنوي الذي سرى إلى الجيش من جراء الأحقاد القومية والطائفية للبحث بقية (النقل ممنوع) محمد عبد الله عنان

شارك الخبر

المرئيات-١