طلب العلم فريضة على كل مسلم
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
طلب العلم فريضة على كل مسلمبسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي علَّم الإنسان ما لم يعلَمْ، والصلاة والسلام على سيد الخلق أشرف من علم، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فلا شك أن العلمَ كنزٌ عظيم، يعلَم قدرَه كلُّ لبيب وعاقل، ويزيد قدرُ هذا العلم وفضله إن كان في تعلم دين الله والتفقه فيه، كيف لا وهو القائل - سبحانه -: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وكيف لا والعلم الشرعي يُصلِح الدنيا والآخرة؟! فمنزلة العالِم على غيره لا جدال فيها، بنص القرآن والسنَّة، كما في الآية الكريمة المذكورة، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لَتضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِمَ ليستغفرُ له مَنْ في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتانُ في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرثوا العلم، فمن أخَذه أخَذ بحظ وافر))، وقوله أيضًا - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، لَيُصَلُّون على مُعلم الناس الخيرَ))؛ فالعلم يهَبُ لصاحبه التقوى والخشية والورع، ويُدخِله في الذين قال الله - تعالى - فيهم: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]؛ أي: إن أشد الناس خشيةً لله أهلُ العلم؛ لعلمهم بكتاب الله وسنَّة رسوله؛ فالخير كل الخير لِمَن فقهه الله في الدين؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((من يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين)).
كما أن ثواب هذا العلم وأجره يلازم صاحبه حتى بعد مماته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)).
بل أخبرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله - سبحانه وتعالى - يُبغِض الدنيا وما فيها، إلا العلماءَ، وطلبة العلم، وذِكْرَه، وطاعتَه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ملعونة الدنيا، ملعون من فيها، إلا ذكرَ الله، وما والاه، وعالِمًا ومتعلِّمًا)).
ويغفُل كثير من الناس عن هذا الأمر، ولا يُعِيرونه اهتمامًا، متعلمين كانوا أو غير متعلمين؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بتعلم العلم فقال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))؛ لأن الله - تعالى - لا يُعبَد بالجهل، بل يُعبَد بالعلم، فالبدء بالعلم لازم قبل القول أو العمل؛ قال الله - تعالى -: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، وقد بوَّب الإمام البخاري - رحمه الله - في أول ما بوَّب به صحيحه قوله: باب العلم قبل القول والعمل؛ لذلك فمنزلة العلم منزلة عظيمة، كيف لا وإن أول ما نزل من القرآن: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
غير أنه وجَب التنبيهُ إلى أن التبحُّرَ في العلوم الشرعية هو فرض كفاية لا يلزم عامة الناس، بل يكفيهم تعلُّمُ فرائض دينهم دون غيرهم من الفقهاء والعلماء، لكن لا شك أن الفضلَ يزيدُ ويجعل كلَّ مَن سلك طريق الطلب والتخصص في العلوم الشرعية ينال منازلَ عليا تفُوقُ بلا شك منزلةَ العوام، فهم أئمةٌ ومربُّون، ويَهدُون الناس إلى الطريق المستنير، وهم ورثة الأنبياء؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم.
ولا بد لطالب العلم أن يُخلِص النية والعمل لله - تعالى - وأن يتقيَ الله في نفسه قبل غيره؛ فقد يضِلُّ بكلمة واحدة زمرة من المسلمين ظلمًا وعدوانًا، فلا يحسبن أحدٌ أن كل شيخ أو عالم يعمل بعلمه، فهناك فعلاً من يبتغي به وجه الله - جل وعلا - وهناك من يبتغي به الشهرة، وهناك من يجعله مركبًا لبلوغ المناصب والأموال، وغير ذلك؛ فالحذَرَ الحذَرَ من الخِنْفِشاريِّين المتعالين، فقد ذكر الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابه "التعالم وأثره على الفكر والكتاب"، عن أحدهم كان يفتي كل سائل دون توقف، فلاحَظ أقرانُه ذلك فيه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل، هي الخِنْفِشار، فسألوه عنها، فأجاب على البديهة بأنه نبات طيب الرائحة ينبُت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها، وقال شاعرهم اليمني:
لقد عقدت محبتُكم فؤادي
كما عقد الحليبَ الخِنْفشارُ
وقال داود الأنطاكي في تذكرته كذا، وقال فلان كذا...، وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاستوقفوه وقالوا: كذبت على كل هؤلاء، وتريدُ أن تكذبَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحقق لديهم أنه جرابُ كذبٍ في سبيل تعالمه، فنسأل اللهَ الصونَ والسلامة.
فالعالِم يُعرف - كما قال الشيخ ابنُ باز رحمه الله تعالى - بصبره وتقواه لله، وخشيته له - سبحانه - ومسارعته إلى ما أوجب الله ورسولُه، والابتعاد عما حرم الله ورسوله، هكذا يكون العالم، سواء كان مدرسًا أو قاضيًا أو داعيًا إلى الله، أو في أي عمل، فواجِبُه أن يكون قدوة في الخير، وأن يكون أسوةً في الصالحات، يعمل بعلمه، ويتقي الله أينما كان، ويُرشِد الناسَ إلى الخير؛ حتى يكون قدوةً صالحة لطلابه، ولأهل بيته، ولجيرانه، ولغيرهم، ممَّن عرَفهم يتأسَّون به، بأقواله وأعماله الموافقة لشرع الله - عز وجل.
وجاء أيضًا في طبقات الحنابلة عن الفُضيل بن عياض قال: إنما الفقيهُ الذي أنطقته الخشيةُ، وأسكتته الخشيةُ، إنْ قال قال بالكتاب والسنَّة، وإن سكت سكت بالكتاب والسنَّة، وإن اشتبه عليه شيءٌ وقَف عنده، وردَّه إلى عالمه؛ فهذه هي الصفاتُ التي لزم على العالِمِ الاتِّصافُ بها، والدأب عليها، وأن ينحو سَمْتَ العلماء، وألا يتعصب لرأيه، بل يسمع لغيره؛ كما قال الناظم:
وإن بدَتْ بين أناسٍ مسألة
معروفة في العلم أو مفتعلة
فلا تكُنْ إلى الجواب سابقَا
حتى ترى غيرَك فيها ناطقَا
وللعالم علاماتٌ، كما حقَّق ذلك الإمام الشاطبيُّ - رحمه الله - في كتابه الموافقات؛ حيث قال: وللعالم المتحقق بالعلم أماراتٌ وعلامات، وهي ثلاث: أولها: العمل بما علِم، حتى يكون قولُه مطابقًا لفعله، فإن كان مخالفًا له فليس بأهلٍ لأنْ يؤخَذَ عنه، ولا أن يُقتَدى به في علم، ثانيًا: أن يكونَ ممَّن رباه الشيوخُ في ذلك العلم؛ لأخذِه عنهم وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصفَ بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأنُ السلف الصالح، ثالثًا: الاقتداء بمن أُخذ عنه والتأدُّب بأدبه.
فالعلم والعلماء نعمةٌ لا يعلَم قدرَها إلا العلماءُ، وفي فقدِهم فتح لباب الشبهات، واستشراء للفساد والجهل؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللهَ لا يقبِضُ العلم انتزاعًا ينتزعُه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يترُكْ عالِمًا اتخذ الناسُ رؤساءَ جهَّالاً، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم، فضلُّوا، وأضلُّوا)).
نسأل اللهَ العلي القدير أن يُعلِّمَنا ويفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، ومن العلماء الراسخين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.