أرشيف المقالات

دين الفطرة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ محمد أحمد الغمراوي عدت إلى الشرق الإسلامي عدوى من الغرب في أمر الدين لم تكن لتنتقل إليه لو كان يدري ما الدين الذي بيده، أو كان يدري فرق ما بين الدين في الغرب وبين الإسلام لقد حاول الغرب كثيراً يوفق بين دينه وبين العلم فلم يستطع، لا لجمود رجال الدين فيه هذه المرة، ولكن لنصوص في كتابه ناقضت ما أثبته العلم واستعصت على التأويل، كالنص على عمر للدنيا محدود لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين في حين أن العلم اليقيني يقدر عمرها بالملايين.
وكان من شأن ذلك أن حمل بعض كتابه مثل أرنولد وبعض قسيسيه على أن ظنوا أن الدين قد خذله الواقع فلم يبق ما يستند إليه إلا الشعر، أي إلا ما يتمثل في ذلك الدين من معان شعرية وقيم أخلاقية لا غنى للإنسانية عنها بحال.
وقرأ ذلك وشبه بعض مقلدة الغرب من المسلمين الذين يحتبطون في حبل الغرب كيفما احتطب، فظنوا أن ما ينطبق على الدين هناك ينطبق على الدين هنا من غير أن يكلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن الدينين هل هما مشتركان في مخالفة اليقيني من العلم حنى يشتركاأيضاًفيما يترتب على تلك المخالفة من حكم.
ومن هنا نجمت هذه الناجمة التي تحاول أن تطفئ نور الله بأفواهها حين تدعو من ناحية إلى اعتبار القصص القرآن فنا يرمز إلى قيم أخلاقية من غير أن يقوم على حقيقة تاريخية، ومن ناحية أخرى إلى تأويل نصوص الدين وأحكامه وتقييدها بما لم يقيدها أو يخصصها به الله ولا رسوله ولا جماعة المسلمين من لدن أن نزل القرآن إلى هذا العصر الذي فقد الشرق فيه اتزانه، وكاد أن يبيع بأبخس الثمن إيمانه. ومن العجيب أن الإسلام الذي يرمونه بداء غيره فينسبون إليه معادة العلم أحياناً ومنافاة العقل أحياناً ومجافاة الفطر أحياناً، هو وحده من بين الأديان السماوية الذي احتضن العلم وتحاكم إلى العقل وميز الحق بخصائصه.
وما عليك إلا أن تردد النظر في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة لترى الدليل تلو الدليل على أن الإسلام هو الدين العلم والعقل والحق.
وهو وحده بين الأديان السماوية الذي عرف الفطرة وسماها باسمها ووصفها بأوصافها وشهد لنفسه أنه دين الفطرة، بل أنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس.
وآية ذلك قوله تعالى من سورة الروم (فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقد غفل المسلمون عن هذه الآية بأقطارها غفلة يعجب منها كل ذي لب حتى يضرب كفا بكف! فلا هم أطاعوا أولها، ولا هم استمدوا التثبيت من آخرها، ولا هم فقهوا ما بين ذلك منها ليتخذوا منه هادياً ودليلاً وحجة تقوم وتدحض كل ما افترى أو يفتري الخصوم: (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله): كلمات كل منها حجة قائمة وقوة قاصمة تصدع وتدفع كل من يرمى الإسلام بما لا يليق بدين الله. إن فكرة الفطرة وحدها لا يمكن أن تخطو ببال بشر من عند نفسه الذي نزلت فيه الآية الكريمة ولا في القرون الكثيرة بعده، لأنها لم تنشأ بعد الإسلام إلا بنشوء العلم الحديث في الغرب.
ومن يدري! لعل الغرب استوحاها مما نقل إليه في القرون الوسطى من كتب الإسلام. ونسبة الفطرة إلى الله الحق جل جلالة تشريف أي تشريف وإكبار أي إكبار للفطرة كلها ولفطرة الإنسان على الأخص عليها المقصودة هنا بالذات.
وهي كفكرة الفطرة لا يمكن أن تخطو ببال بشر من عند نفسه، لا في عصر نزول الآية الكريمة ولا فيما بعدها من العصور؛ فإن الإنسانية حتى في عصر العلم الحديث هذا لم تهتد بعد إلى الفطرة عامة لها حكمها وإحكامها.
فكما أن الكون قد فطره فاطره على سنن وقوانين لا تتخالف ولا تتخلف كشف عن بعضها العلم الطبيعي الحديث، كذلك الإنسان فطرة فاطر الكون على سنن وقوانين لا تتخلف ولا تتخالف لا مع نفسها ولا مع غيرها من سنن الله في الخلق.
وفي نسبة فطرة الإنسان إلى فاطرها سبحانه يتمثل الفرق بين الإنسان وبين دين الغرب الذي يقول بأن الإنسان مفطور على الإثم.
فالإسلام بتلك النسبة الكريمة يرفع الإنسانية وفطرتها إلى الأوج، ويفتح أمامها الباب واسعاً إلى السعادة والترقي الذاتي، في حين أن نسبة الفطرة الإنسانية وتنزل بفطرته إلى الحضيض. ومن عجائب تلك الآية الكريمة ودلائلها الباهرة وصفها الفطرة بأخص أوصافها وهي الاطراد والثبوت وعدم التخلف: (لا تبديل لخلق الله) ووصف فطرة الإنسان خاصة بأخص خصائص فطرة الكون عامة من الاتساق والاطراد والثبوت، هو برهان أن القرآن من عند فاطر الفطرة سبحانه؛ فإن الإنسانية بعلومها الطبيعية الحديثة إذا كانت قد اهتدت إلى اطراد الفطرة في المادة والطاقة، فإنها لما تهتد إلى الفطرة ولا إلى اطرادها في الاجتماعيات.
فهي في فلسفاتها ومذاهبها الاجتماعية في البلبلة والاضطراب الذي ترى، والذي لا ترى له مثيلا في الطبيعي من العلوم. وقاله تعالى (لا تبديل لخلق الله) في موضعها من الآية ليس فقط وصفا للفطرة التي فطر الحق سبحانه عليها الإنسان وغير الإنسان من حيث اطراد السنن وثبوتها، ولكنهأيضاًأمر وتشريع ألا يبدل الإنسان دين الله بتشريع من عنده كما فعل المسلمون ويفعلون منذ اتصالهم بأوروبا في القرن التاسع عشر حين اتخذوا ويتخذون منها إماما، ومن قوانينها ونظمها الاجتماعية بديلا من أحكام الله.
ثم هوأيضاًتوكيد، أي توكيد لما أمر الله به في صدر الآية الكريمة من إقامة الوجه للدين في تصميم وعزم، وانصراف كلي إليه، وميل عن كل ما سواه، وإلا تعرض في روحه واجتماعياته لكل ما يتعرض له ممن يخالف قوانين الفطرة وسننها في المادة وما إليها.
ومن العجيب أن الإنسان مقبل كل الإقبال على الانصياع لما يعلم من قوانين الفطرة في المادة والطاقة لا يجترئ على مخالفها في معامله ولا في مصانعه، فنال بذلك ما نال من القوة المادية الهائلة التي حملته وتحمله على الغرور والاعتزاز، ثم هو منصرف انصرافاً كبيراً عن الانصياع لقوانين الفطرة في الروح والاجتماع بانصرافه عن الإسلام دين الفطرة: دين الله، واجترائه عليه بالشك ولتشكيك، والإهمال والتجريح، أو بالتأويل والتبديل، والتحريف والتعديل، كيفما شاء هواه فكان عاقبته أن صار قزمًا في الروح عملاقاً في المادة، أو قزماً الناحيتين الروحية والمادة كلتيهما وكان عاقبة المسلمين بتركهم الدين وانخداعهم عنه ما نرى من الضعف والمهانة حتى اجترأ عليهم من لم يكن يدفع عن نفسه، وكان عاقبة الغرب حين لم تجد قوته المادية قوة روحية تكبح جماحها أن تعاورته الخطوب ودمرته الحروب وفرقته المذاهب والأهواء شيعاً لا اتفاق لها ولا أمل في اتفاق. ومن أعجب عجائب تلك الآية الكريمة وأكبرها وأبهرها وصفها الإسلام بأنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس وهذا شيء فوق العق البشري أن يتصوره، فضلاً عن أن يسبق إليه في القديم وفي الحديث.
والإنسانية إلىالآنلا تعقل إمكان تحقيقه؛ فلا فلاسفتها ولا مشرعوها يحدثون أنفسهم بالوصول يوما إلى نظام ينطبق على الفطرة من جميع الوجوه.
والمسلمون في شغل بما ينبذ إليهم الغرب من الآراء والمذاهب، غافلين عن الكنز الذي في أيديهم والنور لذي فوق أبصارهم، وعن النعمة الكبرى التي من الله عليهم بها في الإسلام. وليس وصف الإسلام بأنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس من باب المبالغة كما قد يظن بعض الناس، فليس في الآية الكريمة من أدوات المبالغة ولا من قرأتها شيء.
بل هو وصف دقيق للدين الذي أنزله وكمله وأمر الناس بإقامة الوجه له مائلين عما سواه فهو وصف محيط شامل لتمام انطباق دين الله على الفطرة التي فطر عليها الناس حتى كأنما هو هي، لا تخالفه في شيء ولا يند عنه منها شيء وفرق بين المبالغة وبين هذا التعبير الدقيق عن تمام تطابق الإسلام والفطرة.
إن المبالغة فيها دائماً تزيد عن الواقع ولو قليلا، لكن الوصف هنا طبق الواقع من غير زيادة ولا نقصان مادام الواصف هو الله الحق سبحانه الذي فطر الفطرة وأنزل الإسلام لا سعاد الناس. ويمنع أيضاً من احتمال المبالغة في ذلك الوصف الإلهي المعجز أن مجرد القول بها يجعل الدين مقصراً تقصيرا ما عن حاجة الإنسان بفطرته، وعندئذ ينفتح باب من جواز تطلب سد تلك الحاجة في غير ما شرع الله للإنسان من دين.
وهو باب إن انفتح أوشك لما يحيط به من إبهام أن يؤدي إلى التحلل حتى من أساسيات الدين وأصوله كما يحاول بعض الأفاكين أن يلقي قي روع المسلمين اليوم.
لكن الله برحمته وحكمته، وهو أعلم بما خلق وأعلم بما نزل وشرع، قد سد هذا الباب من الاحتمال إلى الأبد حين وصف الإسلام لتمام التطابق بينه وبين فطرة الإنسان بأنه هو نفس الفطرة.
وأرقى ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان من الرقي الروحي أن يحقق لنفسه فطرتها، وأن يبلغ في الترقي أقصى ما تسمح به فطرته.
وليس إلى هذا سبيل إتمام الاستمساك بين الفطرة الذي وصفه منزلة بأنه هو نفس الفطرة: الإسلام. محمد أحمد الغمراوي

شارك الخبر

المرئيات-١