أرشيف المقالات

إنما يبتليك الله ليصطفيك (2)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
إنما يبتليك الله ليصطفيك (2)
 
إن سنَّة الله تعالى في الدعوات أن يَبتلي أصحابها؛ ليُمحِّصهم، وليُنقيهم؛ ليكونوا أقوى إيمانًا، وأزكى نفسًا، وأصلب عودًا، ثم يصطفيهم الله تعالى للمهام الجِسام التي تَنوء بها الجبال، ويمكِّن الله تعالى لأوليائه في الأرض، فيقيموا فيها العدلَ بعد الظلم والبطش والحرمان.
• تحدَّثنا في الجزء الأول من هذا المقال بفضل الله تعالى عن:
• الابتلاء والاصطفاء في القرآن الكريم.
• الابتلاء في السنَّة النبوية المطهرة.
• الابتلاء يكون بالخير ويكون بالشرِّ.
 
وبقي لنا أن نتحدَّث في الجزء الثاني والأخير من هذا المقال عن:
رابعًا: تفاوت الناس في استقبالهم للابتلاء:
يتفاوت الناس في استقبالهم لهذا الابتلاء من الله عزَّ وجل؛ فمنهم المحروم الذي يَجزع ويُكثر من السَّخط والتشكي والتبرم، ومنهم المُوفَّق الذي يَصبر ويحتسب، وأعلاهم منزلةً هو مَن يرضى ويَقنع بقضاء الله تعالى، ويُسلِّم لقدره، ويشكره سبحانه وتعالى في جميع الأحوال.
 
• عن أبي يحيى صهيب بن سِنان رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((عجَبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحَد إلَّا للمؤمن؛ إن أصابَته سرَّاء، شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء، صبر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.
 
• وعن إبراهيم التيمي، قال: "ما مِن عبد وهَب الله له صبرًا على الأذى، وصبرًا على البلاء، وصبرًا على المصائب - إلَّا وقد أُوتي أفضَل ما أوتيه أحد، بعد الإيمان بالله".
 
• وعن الشعبي، قال شريح: "إنِّي لأصاب بالمصيبة، فأحمد اللهَ عليها أربعَ مرات: أحمد إذ لم يكن أعظَم منها، وأحمَدُ إذ رَزَقني الصَّبرَ عليها، وأحمَد إذ وفَّقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يَجعلها في دِيني".
 
خامسًا: لا تتمنوا لقاء العدو:
إن المسلم لا يتمنَّى نزولَ البلاء به، ولا يتمنَّى لقاء العدوِّ، بل عليه أن يبذل كلَّ الأسباب المادِّية والمعنوية لدفع البلاء وتلاشيه..
ولكن إذا وقَع به البلاء، وإذا أصبحَت المواجهة لا مفرَّ منها، فعليه أن يَثبت ولا يفرَّ، وعليه أن يصبر ويَحتسب ويَرضى بقضاء الله تعالى فيه، كما أنَّ عليه أيضًا أن يبذل كلَّ الأسباب المادية والمعنويَّة في تعجيل صَرف هذا البلاء عن نفسه وعن غيره.
 
قال تعالى: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41]، وقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43].
 
• عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، لا تتمنَّوا لقاءَ العدو، واسألوا اللهَ العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنَّ الجنة تحت ظِلال السيوف...))؛ رواه البخاري ومسلم.
 
• عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتمنَّوا لقاء العدوِّ، واسألوا اللهَ العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله؛ فإن صخبوا وصاحوا، فعليكم بالصَّمت))؛ أخرجه السيوطي في الدرِّ المنثور.
 
• قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "اعلم أنَّ تمنِّي لقاء العدو يتضمَّن أمرين: أحدهما: استِدعاء البلاء، والثاني: ادِّعاء الصَّبر، وما يدري الإنسان كيف يكون صَبره على البلاء، والمُدَّعي مُتوكِّل على قوَّته، مُعرِض بدعواه عن ملاحظة الأقدار وتصرُّفها، ومَن كان كذلك وُكل إلى دعواه؛ كما تمنَّى الذي فاتَتهم غزاةُ بَدر فلم يَثبُتوا يوم أُحُد، وكما أعجبَتهم كثرتهم يوم حُنين فهُزموا، وقد نبَّه هذا الحديث على أنه لا ينبغي لأحد أن يتمنَّى البلاء بحال، وقد قال بعض السلف: كنتُ أسأل الله الغزوَ، فهتف بي هاتف: (إنَّك إن غزوتَ أُسرت، وإن أُسرت تنصَّرت)".
 
• قال الصدِّيق رضي الله عنه: "لأن أُعافى فأَشكُر، أحبُّ إليَّ من أن أُبتلى فأَصبر".
 
• وقال غيرُه: إنَّما نهى عن تمنِّي لقاء العدو؛ لِما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النُّفوس، والوثوق بالقوة، وقلَّة الاهتمام بالعدو، وكلُّ ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم.
 
• وكان علي رضي الله عنه يقول: "لا تدْعُ إلى المبارزة، فإذا دُعيتَ فأجِب تُنصر؛ لأنَّ الداعي باغٍ".
• وقيل: يحمل النَّهي على ما إذا وقع الشكُّ في المصلحة أو حصول الضَّرر، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة.
 
سادسًا: المسلم لا يُمكَّن حتى يُبتلى:
قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 55، 56].
 
• قال ابن كثير رحمه الله: هذا وعدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنَّه سيجعل أمَّته خلفاء الأرض؛ أي: أئمَّةَ الناس، والولاةَ عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنَّ بعد خوفهم من الناس أمنًا وحُكمًا فيهم، وقد فعَل تبارك وتعالى ذلك، وله الحمد والمنَّة؛ فإنه لم يَمُت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى فَتح الله عليه مكَّةَ، وخيبر، والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزيةَ من مَجوس هَجَر (مجوس هَجَر: سكنوا مدينةَ الأحساء [البحرين حاليًّا]، ودخلوا الإسلامَ سنة 6 هـ)، ومن بعض أطراف الشام، وهادَاهُ هرقلُ ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عُمان، والنَّجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة، رحمه الله وأكرمه، ثم لمَّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفتُه أبو بكر الصديق".
 
• كتب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه: "أمَّا بعد، فإنه مهما ينزلْ بعبدٍ مؤمنٍ من شدَّةٍ يجعلِ اللهُ بعدها فرَجًا، وإنَّه لن يغلِب عُسرٌ يسرين، وإنَّ الله تعالى يقول في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]"؛ رواه مالك وابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي.
 
• وختامًا: نسأل الله تعالى في عليائه أن يُبرم لأمَّتنا أمرَ رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يَرفع البلاءَ عن أمَّتنا، وأن يصطفي من رجالها مَن يُحسنون تدبيرَ أمورها، ومن يكونون شوكةً في حَلق عدوِّ الله وعدوِّهم، إنَّه سبحانه وليُّ ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك الصبرَ عند البلاء، والشكر عند الرخاء
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢