أرشيف المقالات

ميزان الظاهر: الاتباع

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
ميزان قبول الأعمال
(2) ميزان الظاهر - الاتباع
 
كلُّ عملٍ يريد المسلم أن يتقرَّب به إلى ربِّه سبحانه وتعالى، يشترط لقبوله شرطان:
الشرط الأول: أن يُخلِص النيَّة فيه لله.
والنيَّة الخالصة تُحصَّل بأن تنوي بعملك عبادة الله؛ طاعةً لأمره، وابتغاءً لثوابه، ولا تجعل في قصدك أحدًا غيره.
وقد اعتنيت ببيان هذا الشَّرط في لقاءٍ مضى، فراجعه غير مأمور.
 
الشرط الثاني: أن يقتدي في هذا العمل برسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهو موضوعُ حديثنا في هذا اللِّقاء بمشيئة الله.
أخرج البخاريُّ ومسلم عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رد))[1].
 
هذا الحديث هو الميزان الظاهر الذي تُوزَن عليه الأعمال، ميزان له كِفَّتان:
في الكفَّة الأولى: هديُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أقواله، وأفعاله، وأحواله.
وفي الكفَّة الثانية: أقوالنا، وأفعالنا، وأحوالنا.
 
والمطلوب لنجاة العبد وقبول عمله عند الله أن تتساوى الكفَّتان؛ فلا ينبغي أن تخفَّ، فيكون العمل على غير قُدوة منه صلَّى الله عليه وسلَّم، لم يُشَرِّعه، لم يقُله، لم يفعله، لم يُرشدنا إليه؛ لأنه ساعتئذٍ سيكون مردودًا، كما في هذا الحديث: ((كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو رد))؛ أي: كلُّ عملٍ لا يُوافق ديننا وما أُمِرنا به فهو مردودٌ على صاحبه غير مقبول.
 
ولا ينبغي - أيضًا - أن يثقُل عملنا عن عمله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ هذا غلوٌّ فيما شرعه، وزيادةٌ عمَّا فعله، وتكلُّف فوق ما أُمر به، وهو مردودٌ غير مقبول، كما في الحديث الذي رواه البخاريُّ ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يسألون عن عبادة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلمَّا أُخبروا كأنَّهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وقال أحدهم: أمَّا أنا فإنِّي أصلِّي اللَّيل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدَّهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النِّساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إليهم - لما أخبر بخبرهم - فقال: ((أنتم الذين قُلتم كذا وكذا، أمَا والله إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطر، وأُصلِّي وأرقُد، وأتزوج النِّساء، فمن رَغِب عن سُنَّتي فليس منِّي))[2].
 
لقد توهَّموا أنَّ زيادتهم على ما يفعله الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم أقربُ لهم عند الله، وليس كذلك؛ إذ هو صلَّى الله عليه وسلَّم أعلمُ الخَلْق بالقُربة، وأولاهم بالعمل بها، وقد شرع لنا هذا فقط، فيجب الوقوف عنده، ولا تنبغي الزِّيادة عليه، ولا تُقبل.
وهكذا، إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو الميزان الأكبر، وعليه تُعرَض الأشياء؛ على خُلُقه، وسيرته، وهديه صلَّى الله عليه وسلَّم، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل[3].
 
((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)): جعل العلماء هذا الحديث نصف العلم؛ لأنه يضبط جميع الأعمال الظاهرة، كما أنَّ حديث: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات))[4] يضبط جميع الأعمال الباطنة.
ومن هنا - أيُّها الإخوة المسلمون - يجب على المسلم العناية بجميع أعماله، العمل الذي يُقبل عليه، والعمل الذي هو مُقيمٌ عليه، فيبحث ويفتِّش ويسأل ويتعرَّف، هل هذا العمل مشروع؟ هل فعله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟
فإن كان، فليلزمه وليُحافظ عليه وليستمسِك به، وإن أخبره الثِّقة من أهل العلم بأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يفعله وبيَّن له ذلك بدليل؛ بآيةٍ من القرآن، أو بحديثٍ من السنَّة، فليتركه وليدعه، ولينته عنه، فلا فائدة من ورائه تُرجى، ولا ثواب من ورائه يُنتظَر، بل وراءه سيئاتٌ وأوزارٌ، وشرٌّ وعقاب.
 
وإذا كان كلُّ عملٍ ليس عليه أمر الشَّرع فهو مردود، فإنَّ كلَّ عملٍ موافق للشَّرع فهو مقبول؛ تستوي في هذا العبادات والعادات، والأخلاق والمعاملات، اضبط حياتك على شرع الله، في عطائك ومنعك، في وصلك وقطعك، في رضاك وغضبك.
فإنَّ "أحسن الهدي هدي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة"[5].
إنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله تُوزَن الأخلاق والأقوال والأعمال، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم الفُرقان المُبين الذي باتِّباعه يتميَّز أهلُ الهُدى من أهلِ الضَّلال[6].
 
وإنَّ أَوْلى النَّاس برسولِ الله غدًا يوم نلقاه، هو أقرب النَّاس اليوم به شبهًا في أقواله وأفعاله، وأخلاقه، وجميع هديه وأحواله.
وأخيرًا أُوصيك - أيُّها الكريم - بكتاب: "زاد المعاد في هدي خير العباد" للإمام ابن القيِّم رحمه الله، فهو من خير الكتب التي تدُلُّك على هديِ الحبيب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أولَى ابن القيم في كتابه ذاك جانب هديِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في عباداتِه القسم الأكبر والأهمية البالغة، وزادَ إلى ذلك جانب معاملاتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، مُقسِّمًا كِلَيْهما العبادات والمعاملات حسب التقسيمِ الفقهيِّ.
 
كما تميَّزَ الكتابُ بسهولةِ عبارتِه وجزالتِها، وجمال لغتِه وأساليبِه وتنوعِها.
كذلك اشتمل الكتابُ على فوائد ونكتٍ ولطائف لا يخلو منها بابٌ ولا فصلٌ، فضلًا عن ترجيحاته واختياراته، وتلمُّسِه لحِكَم الشريعةِ وعلل أحكامها.
 
وقد قال عنه الإمام السَّخاويُّ رحمه الله: ولابن القيِّم كتاب "الهديِ النَّبويِّ" لا نظير له.
فاتَّخِذ هذا الكتاب منهجًا، واقبِس من أنواره لتُنير طريقك إلى الله، وللدكتور أحمد مزيد اختصار له نافع مشهور، طالِعه إن لم تقدِر على الأصل.
اللهم أصلِح لنا نيَّاتنا ووفِّقنا إلى الاقتداء بنبيِّنا وحبيبنا.
وصلِّ اللَّهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1] أخرجه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).

[2] أخرجه البخاريُّ (4776)، ومسلم (2487).

[3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (8).

[4] أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).

[5] أخرجه البخاري (6849).

[6] إعلام الموقعين (1 /4).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣