أرشيف المقالات

الفرص التي لا تعوض

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
2الفرص التي لا تعوض
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
كثيرًا ما نسمع ونقرأ في مختلف الوسائل الإعلامية بعض الإعلانات والدعايات التجارية عن عقارات أو معارض، أو مجمعات تجارية فيها من التنزيلات والتخفيضات التي قد تشدُّ الأنظار، لا سيما إذا رافقها بعض العبارات اللافتة للنظر؛ كقولهم: (لا تدع الفرصة تفوتك)، وقولهم: (فرصة العمر)، وقولهم: (آخر فرصة)، وقولهم: (فرصة لا تُعوَّض)، وقولهم: (حقِّق أحلامك ولا تدَع الفرصة تفوت)، وقولهم: (اغتنم الفرصة الأخيرة)، وقولهم: (اغتنم الفرصة وتسوَّق قبل انتهاء فترة العرض)، ونحوها من كلمات وعبارات تجارية رنَّانة.
 
إننا نجد كثيرًا من الناس قَصر وحجر استخدام كلمة ((الفرصة)) على النواحي المادية، وقلما تُستخدم في مكانها الحقيقي لتُمثِّل فرصة العمر على حقيقتها، وأقصد أن تستخدم كلمة الفرصة لأمر الآخرة.
 
إن في حياة المسلم فرصًا كثيرة لكسب الخير، قد لا تُعوَّض البتَّة طول الحياة، وكثيرٌ من الناس لا يلتفتون إلى ذلك، فهناك فرصٌ قد لا تتكرَّر في حياتك، فهلَّا انتبهنا لذلك؟!
 
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ))[1].
 
قوله صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمسًا قبل خمس))؛ أي: اظفر على وجه المغالبة وقهر النفس بخمس نِعَمٍ قبل خمس محنٍ؛ فإن النعمة لا تدوم على ما هي عليه في جميع الأحوال؛ لأنه كما يُقال: من المحال دوام الحال؛ فالشباب يبلى ويذبل، والصحة تضعف وتنكمش، والمال ظِلٌّ زائلٌ، سرعان ما يذهب ويزول، وينتقل من موروث إلى وارث، والفراغ نعمة من النعم التي يُغبَن فيها الإنسان، وسَرعان ما تأتي الشواغل على حين غفلة، فيجد المرء نفسه عاجزًا عن تحقيق مآربه وأحلامه؛ بل حتى الواجبات التي عليه؛ لفوات وقت الفراغ وضياع الفرصة التي لم يغتنمها.
 
والحياة أنفاس معدودة تنقطع بالموت في وقت ربما لا يكون في الحُسبان، فيندم المرء على ضياع العمر فيما لا ينفع ولا يجديه ذلك الندم شيئًا.
 
فالفرصة إذا لم تُنتهَز فهي غصَّة؛ قال خالد بن معدان: إذ فُتِح لأحدكم باب خير فليُسرع إليه، فإنه لا يدري متى يُغلق عنه.
 
فاغتنم كما يقول لك الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم، اغتنم خمس فرص قبل فواتها وأول تلك الفرص أن تغتنم شبابك قبل هرمك، أن تغتنم هذا القدر من العمر فيما ينفعك في دينك ودنياك، ولا تضيِّعه في اللهو واللعب والشهوات.
 
إن الشباب هو زمن العمل الجاد؛ لأنه فترة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، والشباب هو وقت القدرة على الطاعة على تمامها، والشباب ضيف سريع الرحيل، فإن لم يغتنمه العاقل تقطَّعت نفسُه بعده حسرات.
 
إن أحدنا يمرُّ بعدة مراحل طوال حياته:
مرحلة الطفولة، ثم مرحلة الشباب، ثم مرحلة الكهولة، ثم مرحلة الشيخوخة، ولقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون مرحلة الشباب في حياة الفرد مليئة بالطاعات، ومرحلة الشباب هي التي لا يتجاوز فيها العمر على ثلاثين سنة، وما زاد عن ذلك حتى أربعين سنة يُسمَّى المرء فيها كهلًا، فالذي تجاوز الثلاثين سنة ولم ينشأ على طاعة الله، فاتَتْه فرصة عظيمة هي الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة؛ يوم تدنو الشمس من الخلائق بمقدار ميل، فيغرق الناس في العرق على قدر أعمالهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله))[2]، وذكر منهم شابًّا نشأ في عبادة الله.
 
فيا حسرة الرجل منا الذي تجاوز الثلاثين عامًا، ومرت عليه مرحلة الشباب، ولم ينشأ على طاعة الله، إنها فرصة فاتت ولن تُعوَّض.
 
أخي المسلم، فإذا فاتتْكَ هذه الفرصة التي لن تُعوَّض البتَّة، فلا يفُتْك أن تُعلِّق قلبَكَ بالمساجد، وأن تُخفي صَدَقَتك؛ كي لا تعلم شمالُك ما أنفقت يمينُكَ، وأن تفيض عينُك عند ذكر الله خاليًا؛ كي لا تُحرم من الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن.
 
أما الفرصة الثانية، فهي أن تغتنم ((صحَّتَك قبل مرضِكَ))؛ أي: أن تظفر بالوقت الذي تكون فيه صحيح الجسم؛ لتقضيه في ميدان العمل الصالح، وألَّا تُؤخِّر فضيلة من الفضائل وتقول: حتى أكبر وأتفرَّغ، فإنك لا تدري هل تظلُّ صحيحًا معافًى، أم يعتريك ما يعلُّ صحَّتَكَ، ويُقلِّل نشاطك، فتقول: يا ليتني صلَّيت من الليل، ويا ليتني صمت من النوافل، ويا ليتني بذلت جهدي وقت قوَّتي في الدعوة إلى الله ونحو ذلك.
 
كما إنها فرصة عظيمة أن تكثر من الأعمال الصالحة وقت صحَّتِك؛ لكي يكتب لك الثواب كاملًا في حال مرضك؛ فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا))[3].
 
وأما من لم يستغل صحته قبل مرضه بكثرة الأعمال الصالحة، فسيفوته الخير الكثير، وسيندم في حين لا ينفع الندم؛ فعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُصَابُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ، إِلَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الْحَفَظَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، قَالَ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنَ الْخَيْرِ، مَا دَامَ مَحْبُوسًا فِي وَثَاقِي))[4].
 
فاغتنام فرصة صحتك قبل مرضك، هو أن تُبادر إلى شتى الطاعات قبل حلول المفاجئات، ولهذا رغب النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا بالتعجُّل بالحج خشية مفاجئة المرض؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ))[5].
 
وَعَنْ شَقِيقٍ رضي الله عنه، قَالَ: مَرِضَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَعُدْنَاهُ فَجَعَلَ يَبْكِي، فَعُوتِبَ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَبْكِي لِأَجْلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((الْمَرَضُ كَفَّارَةٌ))؛ وَإِنَّمَا أَبْكِي؛ لِأَنَّهُ أَصَابَنِي عَلَى حَالِ فَتْرَةٍ، وَلَمْ يُصِبْنِي فِي حَالِ اجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّهُ يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا مَرِضَ مَا كَانَ يُكْتَبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ، فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْمَرَضُ"[6]، فاغتنم صحَّتَك قبل مرضك.
 
أما الفرصة الثالثة، فهي أن تغتنم فرصة غناك قبل فقرك؛ بأن تُكثِر من الصدقات وبذل المال في وجوه الخير، قبل تغيُّر أحوالِكَ الاقتصادية أو قبل تغيُّر أحوال المجتمع الذي من حولك.
 
فإن أعظم الصدقة أن تتصدَّق وأنت صحيحٌ شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
 
إنها فرصة أن تتعرف على الله في الرخاء ليعرفك في الشدَّة، كما يحتمل أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((وغناك قبل فقرك)) أن يكون هذا إنذارًا للغني من الفقر إذا لم ينفق من ماله في وقت الغنى؛ لا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن هناك ملكين يدعوان كل صباح: ((اللهم أعْطِ كلَّ منفقٍ خلفًا، وأعْطِ كلَّ ممسكٍ تلفًا)).
 
لقد أخبرنا الله عز وجل بأن المسلم ليتمنَّى إذا مات أن لو أعطي فرصة أخرى للعودة إلى الحياة، لا ليتمتع فيها أو يلهو فيها؛ وإنما ليتصدَّق ويكون صالحًا، ويُبادر إلى الفرص التي فاتته طوال حياته؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].
 
الفرصة الرابعة، هي أن تغتنم فراغك قبل شغلك؛ أي: أن تغتنم أوقات الفراغ في شغل النفس بما ينفعك؛ فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، أن تغتنم فرصة فراغك لتصرفه ليس في سياحة ولا لهو؛ وإنما فيما ينفعك في أمر دينك ودنياك.
 
أن تستغل هذا الفراغ الذي يكثر في مرحلة الشباب وقبل تحمُّل المسؤوليات أن تستغله في حفظ كتاب الله وتعلُّم العلم الشرعي؛ لأنك إذا كبرت قد تخجل أن تتعلم، وقد يصعب عليك الحفظ، بل لا تجد الوقت الكافي للتعلم؛ لأنك ستكتشف أن الواجبات أكثر من الأوقات؛ ولهذا صدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال: "تعلَّمُوا العلم قبل أن تسودوا"؛ أي: تعلَّم قبل أن تصبح مسؤولًا وتشغل، فلا تجد الوقت للتعلم؛ كما أن الاستفادة من العلماء والتعلُّم منهم عن قرب قبل موتهم، فرصة لا تُعوَّض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))[7]، ففرصة عظيمة أخي المسلم أن تغتنم فراغك قبل شغلك.
 
الفرصة الخامسة والأخيرة في هذا الحديث، هي أن تغتنم حياتك قبل موتك؛ بأن تقدم لنفسك ما ينفعك بعد موتك، ولا تُسوِّف حتى إذا جاء الموت قلت: يا ليتني قدمت لحياتي، يا ليتني تصدقت، ويا ليتني صمت، ويا ليتني صلَّيت، ويا ليتني فعلت؛ فيكون حالك كحال الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24،23].
 
إن وجودك في هذه الحياة أعظم فرصة لجمع الحسنات، وللرُّقي في الجنة إلى أعلى الدرجات، فاغتنام حياتك قبل موتك يكون بالمبادرة إلى التوبة قبل حلول الأجل، قبل أن تغرغر فيُلَفُّ الساقُ بالساق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يُغرغِر))[8].
 
فإن اغتنام فرصة الحياة قبل الممات، هو أن تغتنم وقتك، لا تُضيِّعه في لهو فضلًا عن معصية، فكم من مستقبل يومًا لا يستكمله، وكم من مؤمِّل غدًا لا يدركه، وقد صحَّ عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: ما من يوم ينشق فجرُه إلا ويُنادي يا بن آدم، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مني بعمل صالح؛ فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة.
 
فكل دقيقة من حياتك هي فرصة لن تُعوَّض؛ لأنه لا يمكن إرجاعها أو تداركها، فأمس الذي مرَّ عن قربه يعجز أهل الزمان من ردِّه.
 
كما أنها فرصة إلى المبادرة إلى التوبة قبل ظهور بعض علامات الساعة الكبرى؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِها خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِها، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ))[9].
 
"فاغتنم حياتك قبل موتك"، إنها خير كلمة جامعة في استغلال الوقت.
 
إن تفاوت أعمار البشر من أسرار الله في خلقه، فترى هذا يموت في الصغر، وآخر في الكبر، والكل يُعطى فرصته في الحياة ليرى الله كيف يعمل العاملون.
 
الكل منا يقول ويعترف بأن الموت لا مفرَّ منه، وطريق الكل سيسير فيه، وكأس الكل سيشربُه، وغير ذلك من كلمات تخرج أحيانًا جافَّةً من اللسان وليس من القلب، لكن لو توقَّفنا عندها لوجدنا مرارتها على اللسان والقلب.
 
المشكلة أن البعض يتصوَّر أن الكل سيموت إلا هو، فتراه يُسوِّف التوبة، ويُؤجِّل التزامه واستقامته، فمتى سنجعل الموت عبرةً لنا لنغتنم حياتنا قبل موتنا؟
 
وإذا انتقلنا إلى أحاديث نبوية أخرى؛ كي نبحث فيها عن فرص الخير التي لا تُعوَّض، سنرى أن هناك كمًّا من الأحاديث تدعونا إلى العمل بها قبل فوات الأوان.
 
فمن الفرص التي لا تُعوَّض وهي الفرصة السادسة: أن تستغلَّ وجود والديك على قيد الحياة لتبرهما.
إن أعظم الفرص لك لكي تدخل الجنة أن تلزم والديك وتبرَّهما؛ فهما بابان لك إلى أبواب الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ))، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال: ((مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ))[10]، وقال في حديث آخر: ((الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ))[11].
 
فيا حسرة من مات والداه ولم يبرَّهما؛ حيث فوَّت فرصةً عظيمةً لا يمكن بأي حال أن يُعوِّضها؛ لكي ينال رضاهما ويدخل بسببهما الجنة، فإن رضا الربِّ في رضا الوالدين، وسخط الربِّ في سخطهما.
 
أما الفرصة السابعة، فهي أن تتبع السيئة الحسنة، إنها فرصة عظيمة بأن تتوب من الذنب مباشرة قبل أن يُسجَّل عليك، نعم قبل أن يُسجَّل عليك، فيسوِّد صحيفتك؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لَيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلَّا كُتِبَتْ وَاحِدَةً))[12]؛ لذلك لا نعجب إذا علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بنا قد وجَّهنا إلى ذلك بقوله: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))[13].
فتأمَّل رحمة الله بك؛ كيف يعطيك هذه الفرصة بأن يجعل الملك ينتظر ست ساعات لعلَّه ينتظر منك توبة أو استغفارًا.
 
وتأمَّل أيضًا شفقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينصحك بقوله: ((وأتبع السيئة الحسنة تَمْحها))، وكلمة "أتبع" تفيد: المبادرة وعدم التواني؛ لذلك بادَر إلى التوبة، وإلَّا ملئت صحيفتُكَ سيئات، فرأيتها يوم القيامة عليك حسرات.
 
الفرصة الثامنة أن تحظى بالشهادة؛ وهي ليست شهادة الماجستير ولا الدكتوراه ولا شهادة خبرة؛ وإنما فرصة الشهادة في سبيل الله، فإنه من المعلوم أن كل من حقَّق معنى الشهادتين سيدخل الجنة برحمة الله؛ ولكن من منا يستطيع أن ينال درجة الشهادة في سبيل الله وهي أعلى الدرجات بعد منزلة النبوَّة والصديقيَّة، فإنه لا توجد لك فرصة سانحة لتحقق هذا الحلم إلا بالجهاد في سبيل الله، وإن لم تستطع ذلك أو حال بينك وبينه حائل، فلا حل لك سوى أن تسأل الله الشهادة في سبيل الله بصدق، ومن فعل ذلك وصدق مع الله، فإن الله سيصدقه، فقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت هذه نيَّته ورغبته أن يرزقه منازل الشهداء في الجنة، ولو مات على فراشه؛ فقد روى سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ))[14].
 
فلا تدَع الفرصة تفوتك، ومن لم يفعل ذلك، فإنه قد يموت على شعبة من النفاق والعياذ بالله؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ))[15].
 
الفرصة التاسعة أن تبادر إلى التحلُّل ممن ظلمته قبل أن تسلب منك حسناتك يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ))[16].
 
الفرصة العاشرة والأخيرة أن نبادر إلى إنكار المنكر قبل نزول العذاب؛ فقد روى الإمام أحمد والترمذي، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ))[17].
 
إن المنكرات لتنتشر في أسواق المسلمين ومنتدياتهم وبيوتهم ومجالسهم وإعلامهم - انتشارَ النار في الهشيم، وإن التبرُّج في أوساط النساء المسلمات بات مألوفًا؛ فقلَّ الحياءُ والغيرة، وإنها لفرصة لنا لإنكار هذه المنكرات قبل أن يستفحل الأمرُ؛ فينزل العذاب، ثم إذا دعونا الله عز وجل ليكشف عنا ما حل بنا، فلن يستجيب لنا! هكذا قال لنا الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم.
 
ختامًا:
فكم واحد منا لا يزال يعض على أصابع الندم كلما تذكَّر كيف فاتته فرصة من فرص الحياة، لا يمكن تَكرارها ولا تعويضها، وقليل من الناس من يفعل ذلك في أمور الآخرة، إما لجهله بالثواب الذي فاته، أو لغفلته بالعقاب الذي ينتظره.
 
إن ما يجب أن نعرفه أن كل طاعة تُعرَض عليك فتُفوِّتها، إنما هي فرصة لا يمكن تعويضها؛ لأن الأيام ليست متكررة، وإنما كل يوم هو خلق جديدٌ، وإذا مضى فإنه لا يعود إلى يوم القيامة، فإذا ضيَّعت يومك في غير طاعة، وفيما لا ينفع؛ فإنما ضيَّعت عليك فرصة الطاعات التي مرَّت في هذا اليوم، فهل أدَّيْتَ شكر مفاصلك بالأمس؟ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى))[18].
 
وهكذا فإن هناك كثيرًا من الفرص التي إذا فاتَتْ لا يمكن تعويضها، وكل عمل صالح يفوت منك لا يمكن تعويضه، وكل دقيقة تمرُّ عليك في غير طاعة، قد كانت لك فرصة من الله لا يمكن تعويضها أو تداركها؛ لذلك البدار البدارَ إلى استغلال الأوقات، وتدارك باقي الأعمار.
 
جعلني الله وإيَّاكم من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



[1] رواه الحاكم (7846).


[2] رواه البخاري (660)، ومسلم (1031).


[3] رواه البخاري (2996).


[4] رواه الإمام أحمد (6870).


[5] رواه الإمام أحمد (1834).


[6] مرقاة المفاتيح (1586).


[7] رواه الإمام مسلم (2673).


[8] رواه الترمذي (3537)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3143).


[9] رواه الإمام مسلم (158).


[10] رواه مسلم (2551).


[11] رواه الترمذي (1900).


[12] رواه الطبراني (7756)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/391، رقم 7051)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2097).


[13] رواه الترمذي (1987)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (97).


[14] رواه مسلم (1909).


[15] رواه مسلم (1910).


[16] رواه البخاري (6534).


[17] رواه الإمام أحمد (23327)، والترمذي (2169)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7070).


[18] رواه مسلم (720).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢