Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
كان هذا الحصار في هذه المرة بقيادة فضالة بن عبيد الأنصاري، وعلى الأسطول البحري عبد الله بن قيس الحارثي، وجنادة بن أبي أمية، وأما أسطول الشام فكان بإمرة يزيد بن شجرة الرهاوي، ودام هذا الحصار إلى عام 57 هـ، احتلوا فيها عدة جزر قريبة كأرواد وكزيكوس، واتخذت قواعد عسكرية, ولم تستطع هذه الحملة الثانية اقتحام القسطنطينية بسبب مناعة أسوارها، وما كان يطلقه البيزنطيون على سفن الأسطول الإسلامي من نيران، فانتهى الأمر بعقد صلح بين المسلمين والبيزنطيين.
سار أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي إلى الشام وبيت المقدس، وأراد المنصور بناء الرافقة، فمنعه أهل الرقة، فهم لمحاربتهم.
هو شيخ القراء والعربية أبو عمرو العريان وقيل: زبان بن العلاء بن عمار بن العريان التميمي ثم المازني البصري، أحد القراء السبعة، ولد بمكة عام 68، وقيل 70, وأمه: من بني حنيفة.
ونشأ بالبصرة، أحد التابعين، سمع من أنس بن مالك.
قرأ القرآن على: سعيد بن جبير، ومجاهد، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، وابن كثير، وطائفة, وكان من أئمة اللغة والأدب، ومن أعلم الناس بالقرآن والعربية وأيام الناس، برز في الحروف وفي النحو، وتصدر للإفادة مدة، واشتهر بالفصاحة والصدق وسعة العلم، انتصب للإقراء أيام الحسن البصري، كانت دفاتره ملء بيت إلى السقف، ثم تنسك فأحرقها، توفي في الكوفة.
خرج الأمير محمد بن عبدالرحمن بن الحكم إلى ماردة بعد أن أظهروا التمرد, وكانوا قد اجتمع أمرهم في الخروج على أبيه من قبل، فأظهر أن استعداده لطليطلة، فلما فصل من قرطبة، وتقدم بالمحلات إلى طريق طليطلة، نكب إلى ماردة، وهم في أمن وغفلة، فتحصنوا في المدينة أياما.
ثم ناهض القنطرة، فوقع القتال، واشتدت الحرب حتى غلبوا عليها، فأمر الأمير بتخريب رجل من القنطرة، فكان ذلك سببا في إذعان أهل ماردة، فطاعوا على أن يخرج فرسانهم، وهم يومئذ عبد الرحمن بن مروان، وابن شاكر، ومكحول، وغير هؤلاء، وكانوا أهل بأس ونجدة وبسالة مشهورة.
فخرج المذكورون ومن هو مثلهم إلى قرطبة بعيالهم وذراريهم.
وولى عليها سعيد بن عباس القرشي، وأمر بهدم سورها؛ ولم تبق إلا قصبتها لمن يرد من العمال.
كانت ديار مصر قد أقطعت لبابكيال، وهو من أكابر قواد الأتراك، وكان مقيما بالحضرة، والتمس بابكيال من يستخلفه بمصر، فأشير عليه بأحمد بن طولون؛ لما ظهر عنه من حسن السيرة، وكان طولون والد أحمد بن طولون أيضا من الأتراك، وقد نشأ هو بعد والده على طريقة مستقيمة، وسيرة حسنة، فولاه بابكيال وسيره إليها، وكان بها ابن المدبر على الخراج، وقد تحكم في البلد، فلما قدمها أحمد كف يد ابن المدبر، واستولى على البلد، وكان بابكيال قد استعمل أحمد بن طولون على مصر وحدها سوى باقي الأعمال كالإسكندرية وغيرها، فلما قتل المهتدي بابكيال وصارت مصر لياركوج التركي، وكان بينه وبين أحمد بن طولون مودة متأكدة، استعمله على ديار مصر جميعها، فقوي أمره، وعلا شأنه ودامت أيامه.
سير خفاجة ابنه محمدا على الحراقات، وسير سرية إلى سرقوسة، فغنموا وأتاهم الخبر أن بطريقا قد سار من القسطنطينية في جمع كثير، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة، فرحل خفاجة إلى سرقوسة فأفسد زرعها وغنم منها وعاد إلى بلرم، وسير ابنه محمدا في البحر، مستهل رجب، إلى مدينة غيطة، فحصرها وبث العساكر في نواحيها، فغنم وشحن مراكبه بالغنائم، وانصرف إلى بلرم في شوال.
ثار رجل من القرامطة اسمه مروان، كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة، ثار بحمص فملكها وما حولها، فقصده جيش من حلب مع الأمير بدر فاقتتلوا معه فرماه بدر بسهم مسموم فأصابه، واتفق أن أسر أصحاب مروان بدرا فقتله مروان بين يديه صبرا، ومات مروان بعد أيام وتفرق عنه أصحابه.
هو شاعر الزمان المشهور، أبو الطيب أحمد بن حسين بن حسن الجعفي الكوفي, الأديب الشهير بالمتنبي.
ولد سنة 303 بالكوفة في محلة تسمى كندة فنسب إليها، وليس هو من كندة القبيلة، بل هو جعفي.
قدم الشام في صباه, ثم أقام بالبادية يقتبس اللغة والأخبار, واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحواشيها، ولا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، وكان من أذكياء عصره.
بلغ الذروة في النظم، وأربى على المتقدمين, وسار ديوانه في الآفاق، واعتنى العلماء به فشرحوه في أكثر من أربعين شرحا ما بين مطولات ومختصرات، ولم يفعل هذا بديوان غيره.
كما أن له حكما وأمثالا ومعاني مبتكرة, وإنما قيل له المتنبي؛ لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وافتتن به بعض ضعاف العقول، وكذب عليهم أنه يوحى إليه قرآن يؤلفه من نفسه وشيطانه، وكان لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيد قبض عليه ثم أطلقه بعدما استتابه، وقيل: إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر.
تنقل في البلاد يمدح الأمراء مقابل المال، لازم سيف الدولة كثيرا ومدح كافور متولي أعمال مصر ثم هجاه ومدح معز الدولة البويهي, وقد نال بالشعر مالا جليلا, يقال: وصل إليه من ابن العميد ثلاثون ألف دينار، وناله من عضد الدولة مثلها.
كان المتنبي يركب الخيل بزي العرب، وله شارة وغلمان وهيئة.
مدح كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه كافور هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة 350، ووجه كافور خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق، وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه، خافه، وعوتب فيه فقال كافور: يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور؟! فحسبكم! والمتنبي هو القائل: لولا المشقة ساد الناس كلهم.
.
.
الجود يفقر والإقدام قتال, وله عدة أبيات فائقة يضرب بها المثل.
وكان معجبا بنفسه, كثير الفخر والتكبر, فمقت لذلك.
يقال: إن أبا المتنبي كان سقاء بالكوفة، وإلى هذا أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي، حيث قال: أي فضل لشاعر يطلب الفضل من الناس بكرة وعشيا * عاش حينا يبيع في الكوفة الماء، وحينا يبيع ماء المحيا.
وخبر قتله أن فاتك الأسدي في جماعة من الأعراب اعترضوا المتنبي ومن معه وكانوا متجهين إلى بغداد قافلين من شيراز، عند النعمانية من دير العاقول قرب النهروان.
فقتل المتنبي ومعه ابنه محسد وغلامه مفلح, وقيل: لما فر أبو الطيب حين رأى الغلبة، قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل: فالخيل والليل والبيداء تعرفني.
.
.
والحرب والضرب والقرطاس والقلم.
فكر راجعا حتى قتل، وكان هذا البيت سبب قتله.
سير معز الدولة عسكرا إلى عمان، فلقوا أميرها، وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هلك، وملك نافع البلد بعده، فدخل نافع في طاعة معز الدولة، وخطب له، وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلما عاد العسكر عنه وثب به أهل عمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهجريين إليهم وتسلموا البلد، فكانوا يقيمون فيه نهارا ويخرجون ليلا إلى معسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.
بتشجيع من البويهيين عملت الشيعة في العاشر من محرم مآتمهم وبدعتهم، وغلقت الأسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن، ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين، وهذا تكلف لا حاجة إليه في الإسلام، ولو كان هذا أمرا محمودا لفعله خير القرون وصدر هذه الأمة وخيرتها، وهم أولى به، وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون، ثم تسلط أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض، وقتلوا بعض من كان فيه من القوم.
قدم ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسرا وقتل من أهلها خلقا، واستاق بقيتهم معه أسارى، وكانوا قريبا من مائتي ألف، ثم جاء إلى طرسوس فسأل أهلها منه الأمان فأمنهم وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها، واتخذ مسجدها الأعظم إسطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر أهلها معه، وكان أهل طرسوس والمصيصة قد أصابهم قبل ذلك بلاء وغلاء عظيم، ووباء شديد، بحيث كان يموت منهم في اليوم الواحد ثمانمائة نفر، ثم دهمهم هذا الأمر الشديد فانتقلوا من شهادة إلى شهادة أعظم منها، وعزم ملك الروم على المقام بطرسوس ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين، ثم عن له فسار إلى القسطنطينية، وفي خدمته الدمستق ملك الأرمن- قبحه الله.
هو الإمام العلامة الحافظ المجود, شيخ خراسان, أبو حاتم, محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن سهيد بن هدية بن مرة التميمي الدارمي البستي، ولد سنة بضع وسبعين ومائتين.
صاحب الكتب المشهورة.
ومنها كتاب الأنواع والتقاسيم، المعروف باسم (صحيح ابن حبان)، كان من أوعية العلم، برع في الحديث والفقه واللغة والوعظ، تنقل في الأقطار لطلب العلم، له تصانيف كثيرة في الحديث والرجال والوعظ وغيرها، وجمع كتبه وجعلها في دار وجعلها وقفا.
تولى القضاء في بست، قال أبو سعد الإدريسي: "كان على قضاء سمرقند زمانا، وكان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار, عالما بالطب وبالنجوم, وفنون العلم, صنف المسند الصحيح- يعني به كتاب "الأنواع والتقاسيم" - وكتاب "التاريخ"، وكتاب "الضعفاء"، وفقه الناس بسمرقند".
وقال الحاكم: "كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه, واللغة, والحديث، والوعظ, ومن عقلاء الرجال, قدم نيسابور سنة 334, فسار إلى قضاء نسا, ثم انصرف إلينا في سنة 337, فأقام عندنا بنيسابور, وبنى الخانقاه, وقرئ عليه جملة من مصنفاته, ثم خرج من نيسابور إلى وطنه سجستان, عام أربعين, وكانت الرحلة إليه لسماع كتبه".
مات في بست عن 94 عاما.
بعد أن قام يوسف بن تاشفين بفتح مدينة فاس، أخضع معظم نواحي المغرب الجنوبية والوسطى، ودخل في طاعته قبائل مغراتة وزناتة وبني يفرن.
خرج المستنصر الفاطمي على عادته في كل سنة يركب على النجب ومعه النساء والحشم إلى جب عميرة، وهو موضع نزهة، ويغير هيئته، كأنه خارج يريد الحج على سبيل الهزر والمجانة، ومعه الخمر محمول في الروايا عوضا عن الماء، ويدور به سقاته عليه وعلى من معه كأنه بطريق الحجاز أو كأنه ماء زمزم؛ واتفق أن بعض الأتراك جرد سيفا في سكرة منه على بعض عبيد الشراء، فاجتمع عليه عدة من العبيد وقتلوه.
فغضب لذلك جماعة الأتراك واجتمعوا بأسرهم ودخلوا على المستنصر، وقالوا: إن كان هذا الذي قتل منا على رضاك فالسمع والطاعة، وإن كان قتله عن غير رضا أمير المؤمنين فلا صبر لنا على ذلك.
وأنكر المستنصر أن قتله برضاه أو أمره؛ فخرج الأتراك واشتدوا على العبيد يريدون محاربتهم، فبرزت العبيد إليهم؛ وكانت بين الفريقين حروب بناحية كوم شريك قتل فيها عدة، وانهزم العبيد وقويت الأتراك؛ هذا وأم المستنصر تمد العبيد بالأموال والسلاح، فاتفق في بعض الأيام أن بعض الأتراك وقف على شيء مما تبعث به أم المستنصر إلى العبيد لتعينهم به على محاربة الأتراك، فاجتمعوا وصاروا إلى المستنصر وتجرءوا عليه بالقول وأغلظوا في المخاطبة؛ فأنكر أن يكون عنده من ذلك خبر، وصار السيف قائما.
فدخل على أمه وأنكر عليها ما تعتمده من تقوية العبيد وإعانتهم على محاربة الأتراك، ثم انتدب وزيره أبا الفرج ابن المغربي، فخرج ولم يزل يسعى بين الأتراك والعبيد حتى أوقع الصلح بين الفريقين.
فاجتمع العبيد وساروا إلى ناحية شبرا دمنهور.
فكانت هذه الكائنة أول الاختلاف بين طوائف العسكر.
هو المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي، صاحب إفريقية وما والاها من بلاد المغرب، وكانت ولادته بالمنصورية، ويقال لها صبرة، من أعمال إفريقية، يوم الخميس لخمس مضين من جمادى الأولى سنة 398هـ، وملك بعد أبيه باديس سنة 406هـ, وكان الحاكم العبيدي صاحب مصر قد لقبه شرف الدولة، وسير له تشريفا وسجلا يتضمن اللقب سنة 447هـ, وكان ملكا جليلا عالي الهمة، محبا لأهل العلم كثير العطاء، وكان واسطة عقد بيته, ومدحه الشعراء وانتجعه الأدباء، وكانت حضرته محط الآمال.
وكان مذهب أبي حنيفة بإفريقية أظهر المذاهب، فحمل المعز جميع أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك، وحسم مادة الخلاف في المذاهب, خلع طاعة العبيديين الإسماعيلية، وخطب للقائم بأمر الله العباسي، فبعث إليه المستنصر يتهدده، فلم يخفه، فجهز لمحاربته من مصر العرب، فخربوا حصون برقة وإفريقية، وأخذوا أماكن، واستوطنوا تلك الديار, من هذا الزمان لم يخطب لبني عبيد بعدها.
توفي من مرض أصابه، وهو ضعف الكبد، وكانت مدة ملكه سبعا وأربعين سنة، ولما توفي ملك بعده ابنه تميم، ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة، ومحبة أهل العلم، إلا أنه كان أصحاب البلاد إلا أن أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب، وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز، فلما مات ازداد طمعهم، وأظهر كثير منهم الخلاف.
خطب السلطان طغرلبك ابنة الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وقال: هذا شيء لم تجر العادة بمثله، ثم طلب شيئا كثيرا كهيئة الفرار، من ذلك أنه طلب ما كان لزوجته التي توفيت من الإقطاعات بأرض واسط، و300 ألف دينار، وأن يقيم السلطان طغرلبك ببغداد لا يرحل عنها ولا يوما واحدا، فوقع الاتفاق على بعض ذلك، وأرسل إليها بمائة ألف دينار مع أرسلان خاتون ابنة أخيه داود وزوجة الخليفة، وأشياء كثيرة من آنية الذهب والفضة، والنثار والجواري، ومن الجواهر ألفان ومائتي قطعة، من ذلك سبعمائة قطعة من جوهر، وزن القطعة ما بين الثلاث مثاقيل إلى المثقال، وأشياء أخرى، فتمنع الخليفة لفوات بعض الشروط، فغضب عميد الملك الوزير لمخدومه السلطان، وجرت شرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتابا يأمر الخليفة بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون، ونقلها من دار الخلافة إلى دار المملكة، حتى تنفصل هذه القضية، فعزم الخليفة على الرحيل من بغداد، فانزعج الناس لذلك، وجاء كتاب السلطان إلى رئيس شحنة – القيم لضبط البلد- بغداد برشتق يأمره بعدم المراقبة وكثرة العسف في مقابلة رد أصحابه بالحرمان، ويعزم على نقل الخاتون إلى دار الملك، وأرسل من يحملها إلى البلد التي هو فيها، كل ذلك غضبا على الخليفة، ووردت الكتب الكثيرة من السلطان طغرلبك يشكو من قلة إنصاف الخليفة، وعدم موافقته له، ويذكر ما أسداه إليه من الخير والنعم إلى ملوك الأطراف، وقاضي القضاة الدامغاني، فلما رأى الخليفة ذلك، وأن السلطان أرسل إلى نوابه بالاحتياط على أموال الخليفة، كتب إلى السلطان يجيبه إلى ما سأل، فلما وصل ذلك إلى طغرلبك فرح فرحا شديدا، وأرسل إلى نوابه أن يطلقوا أملاك الخليفة، واتفقت الكلمة بعد أن كادت تتفرق، فوكل الخليفة في العقد، فوقع العقد بمدينة تبريز بحضرة السلطان طغرلبك، وعمل سماطا عظيما، فلما جيء بالموكلة قام لها السلطان وقبل الأرض عند رؤيتها، ودعا للخليفة دعاء كثيرا، ثم أوجب العقد على صداق أربعمائة ألف دينار، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان، ثم بعث ابنة أخيه الخاتون زوجة الخليفة في شوال بتحف كثيرة، وجوهر وذهب كثير، وجواهر عديدة ثمينة، وهدايا عظيمة لأم العروس وأهلها، ولما استقر السلطان ببغداد أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل ابنته إلى دار المملكة فتمنع الخليفة من ذلك وقال: إنكم إنما سألتم أن يعقد العقد فقط بحصول التشريف، والتزمتم لها بعود المطالبة، فتردد الناس في ذلك بين الخليفة والسلطان، وأرسل السلطان زيادة على النقد مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم، وتحفا أخر، وأشياء لطيفة، فلما كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر سنة455هـ زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، فضربت لها السرادق من دجلة إلى دار المملكة، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها إلى الدار.
هو الفقيه، العلامة، القاضي المؤرخ أبو عبدالله محمد بن سلامة بن جعفر المعروف بالقضاعي، المصري، الشافعي، كان من الثقات الأثبات, إماما في الفقه والحديث، وكان ينوب في القضاء بمصر أيام المستنصر الفاطمي, وكان المستنصر قد أرسله في سفارة للتفاوض مع إمبراطور الروم في القسطنطينية بشأن العلاقة بين الدولتين.
وهو صاحب كتاب (الشهاب) مجردا ومسندا، وتولى القضاء بمصر, واشتغل بالتاريخ وله عدة تصانيف: منها كتاب (أخبار الشافعي) وكتاب (الإنباء عن الأنبياء) و(تواريخ الخلفاء) وله كتاب (خطط مصر) اعتمد عليه المقريزي في خططه, وكان مفننا في عدة علوم.
توفي بمصر، وصلي عليه يوم الجمعة بعد العصر في مصلى النجار.
سار بوزابة، صاحب فارس وخوزستان، وعساكره إلى قاشان، ومعه الملك محمد بن السلطان محمود، ووصل إليهما الملك سليمان بن السلطان محمد، واجتمع بوزابة والأمير عباس صاحب الري، واتفقا على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وملكا كثيرا من بلاده، ووصل الخبر إليه وهو ببغداد ومعه الأمير عبد الرحمن طغايرك، وهو أمير حاجب، حاكم في الدولة، وكان ميله إليهما، فسار السلطان في رمضان عن بغداد، ونزل بها الأمير مهلهل، ونظر وجماعة من غلمان بهروز؛ وسار السلطان وعبد الرحمن معه، فتقارب العسكران، ولم يبق إلا المصاف، فلحق سليمان بأخيه مسعود، وشرع عبد الرحمن في تقرير الصلح على القاعدة التي أرادوها، وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وأرانية إلى ما بيده، وصار أبو الفتح بن دارست وزير السلطان مسعود، وهو وزير بوزابة، فصار السلطان معهم تحت الحجر، وأبعدوا بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك، وهو ملازم السلطان وتربيته، وصار في خدمة عبد الرحمن ليحقن دمه، وصار الجماعة في خدمة السلطان صورة لا معنى تحتها.
لما أراد السلطان مسعود الرحيل من بغداد، أشار عليه الأمير المهلهل أن يحبس علي بن دبيس بقلعة تكريت، فعلم ذلك، فهرب في جماعة يسيرة نحو خمسة عشر، فمضى إلى الأزيز، وجمع بني أسد وغيرهم، وسار إلى الحلة وبها أخوه محمد بن دبيس، فقاتله، فانهزم محمد، وملك علي الحلة، واستهان السلطان أمره أولا، فاستفحل وضم إليه جمعا من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم، وكثر جمعهم، فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر، وضربوا معه مصافا، فكسرهم وعادوا منهزمين إلى بغداد وكان أهل الحلة يتعصبون لعلي بن دبيس، وكانوا يصيحون إذا ركب مهلهل وبعض أصحابه: يا علي، كله.
وكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب، ومد علي يده في أقطاع الأمراء بالحلة، وتصرف فيها، وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه، وجمع الخليفة جماعة وجعلهم على السور لحفظه، وراسل عليا، فأعاد الجواب بأنني العبد المطيع مهما رسم لي فعلت؛ فسكن الناس، ووصلت الأخبار بعد ذلك أن السلطان مسعودا تفرق خصومه عنه، فازداد سكون الناس.
ملك الفرنج مدينة شنترين، وباجة، وماردة، وأشبونة، وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس، وكانت للمسلمين، فاختلفوا، فطمع العدو فيهم، وأخذ هذه المدن وقوي بها قوة تمكن معها وتيقن ملك سائر البلاد الإسلامية بالأندلس، فخيب الله ظنه.
سار أسطول الفرنج من صقلية، فاحتلوا جزيرة قرنة من إفريقية، فقتلوا رجالها، وسبوا حريمهم، فأرسل الحسن صاحب إفريقية إلى رجار ملك صقلية يذكره العهود التي بينهم، فاعتذر بأنهم غير مطيعين له.
سار عبد المؤمن إلى مدينة فاس فنزل على جبل مطل عليها، وحصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى بن الصحراوية وعسكره الذين فروا من تلمسان، فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك، فمنعه من دخول البلد، وصار بحيرة تسير فيها السفن، ثم أزال الحاجز، فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد وكل ما يجاور النهر من البلد، وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد فقاتله أهله خارج السور، فتعذر دخول البلد، وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملا عليها وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد، وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابا من أبوابها، فدخلها عسكره، وهرب يحيى بن الصحراوية، وكان فتحها آخر سنة 540، وسار إلى طنجة ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنودي في أهلها: من ترك عنده سلاحا وعدة قتال، حل دمه، فحمل كل من في البلد ما عندهم من السلاح إليه، فأخذه منهم.
ثم رجع إلى مكناسة، ففعل بأهلها مثل ذلك، وقتل من بها من الفرسان والأجناد.
وأما العسكر الذي كان على تلمسان فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقتل أكثر أهله، وسبيت الذرية والحريم، ونهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحد قيمته، ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان، وكان عدة القتلى مئة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان، وسار منها إلى فاس.
بعد أن تمكن الأتابك عماد الدين زنكي من انتزاع الرها من يد الصليبيين قام ملك القدس بتوجيه رسالة استغاثة إلى البابا أوجين الثالث، فكان لها الأثر القوي في الأوساط البابوية، فقرر البابا تأليف حملة صليبية ثانية، وكلف القديس برنارد كليرفو بالدعوة لهذه الحملة، فقام بعقد عدة مؤتمرات في مدن فرنسا وألمانيا يدعو فيها لحملة صليبية جديدة، فأثار حماس الناس فأقبلوا للتطوع في الحملة، ومنهم تألفت الحملة الصليبية الثانية.
هو أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الحسن بن الخضر الجواليقي البغدادي النحوي اللغوي.
إمام الخليفة المقتفي, وكان إماما في فنون الأدب.
ولد في ذي الحجة سنة 465, ونشأ بباب المراتب، قرأ على أبي زكريا سبع عشرة سنة, فانتهى إليه علم اللغة فأقرأها، ودرس العربية في النظامية بعد أبي زكريا مدة، فلما ولي المقتفي اختص بإمامته في الصلاة, وكان المقتفي يقرأ عليه شيئا من الكتب.
كان الجواليقي دينا، ثقة، ورعا، غزير الفضل، وافر العقل، مليح الخط، كثير الضبط.
صنف التصانيف وانتشرت عنه، وشاع ذكره.
قال ابن الجوزي: "كان غزير الفضل متواضعا في ملبسه ورياسته، طويل الصمت لا يقول الشيء إلا بعد التحقيق والفكر الطويل، وكثيرا ما كان يقول: لا أدري، وكان من أهل السنة.
سمعت منه كثيرا من الحديث وغريب الحديث، وقرأت عليه كتابه المعرب وغيره من تصانيفه، وقطعة من اللغة".
توفي سحرة يوم الأحد منتصف محرم، وحضر للصلاة عليه الأكابر، كقاضي القضاة الزينبي، وهو الذي صلى عليه، وصاحب المخزن، وجماعة أرباب الدولة، والعلماء والفقهاء، ودفن بباب حرب عند والده, وقد توفي وله من العمر 74 عاما, ومن أشهر كتبه "المعرب من كلام العجم" و"شرح أدب الكاتب" و "كتاب العروض" و "التكملة فيما تلحن فيه العامة".
لما فرغ عبد المؤمن من فاس، سار إلى مراكش، وهي كرسي مملكة المرابطين، وهي من أكبر المدن وأعظمها، وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وهو صبي، فنازلها، فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره، وبنى بها جامعا وبنى له بناء عاليا يشرف منه على المدينة، ويرى أحوال أهلها وأحوال المقاتلين من أصحابه، وقاتلها قتالا كثيرا، وأقام عليها أحد عشر شهرا، فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد، واشتد الجوع على أهله، وتعذرت الأقوات عندهم.
ثم زحف إليهم يوما، وجعل لهم كمينا، وقال لهم: إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا.
تقدم عسكره، وقاتلوا، وصبروا، ثم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم، فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن، فهدموا أكثر سورها، وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهله، أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم، ورجع المصامدة المنهزمين إلى الملثمين، فقتلوا كيف شاؤوا، وعادت الهزيمة على الملثمين، فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنه، فاتفق أن إنسانا من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنا وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فقوي الطمع فيهم، واشتد عليهم البلاء، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، وفنيت أقواتهم، وأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مئة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.
وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاؤوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر، راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان فأجابهم إليه، ففتحوا له بابا من أبواب البلد يقال له باب أغمات، فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عنوة، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقتلوا، وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفا فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال؛ فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين.
فقام الموحدون إلى ابن الحاج بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقدم إسحاق على صغر سنه، فضربت عنقه سنة 542، وهو آخر ملوك المرابطين، وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم سبعين سنة، وولي منهم أربعة: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق.
ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها، واستوطنها واستقر ملكه.
قال ابن الأثير: "لما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل، اختفى من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها، فخرجوا، فأراد أصحابه المصامدة قتلهم، فمنعهم، وقال: هؤلاء صناع، وأهل الأسواق من ننتفع به، فتركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعا كبيرا، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
ولقد أساء يوسف بن تاشفين في فعله بالمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وارتكب بسجنه على أسوأ حالة وأقبح مركب، فلا جرم سلط الله عليه في عقبه من أربى في الأخذ عليه وزاد، فتبارك الحي الدائم الملك، الذي لا يزول ملكه، وهذه سنة الدنيا، فأف لها، ثم أف، نسأل الله أن يختم أعمالنا بالحسنى.
سير عبد المؤمن جيشا إلى جزيرة الأندلس، فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام.
وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما كان يحاصر مراكش جاء إليه جماعة من أعيان الأندلس، منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين، ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل البلاد التي هم فيها لعبد المؤمن ودخولهم في زمرة أصحابه الموحدين، وإقامتهم لأمره، فقبل عبد المؤمن ذلك منهم، وشكرهم عليه، وطيب قلوبهم، وطلبوا منه النصرة على الفرنج، فجهز جيشا كثيفا وسيره معهم، وعمر أسطولا وسيره في البحر، فسار الأسطول إلى الأندلس، وقصدوا مدينة إشبيلية، وصعدوا في نهرها، وبها جيش من الملثمين، فحصروها برا وبحرا وملكوها عنوة، وقتل فيها جماعة، وأمن الناس فسكنوا واستولت العساكر على البلاد، وكان لعبد المؤمن من بها.
احتل الفرنج طرابلس الغرب، وسبب ذلك أن رجار ملك صقلية جهز أسطولا كبيرا وسيره إلى طرابلس الغرب، فأحاطوا بها برا وبحرا، ثالث المحرم، فخرج إليهم أهلها وأنشبوا القتال، فدامت الحرب بينهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث سمع الفرنج بالمدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، وسبب ذلك أن أهل طرابلس كانوا قبل وصول الفرنج بأيام يسيرة قد اختلفوا، فأخرج طائفة منهم بني مطروح، وقدموا عليهم رجلا ملثما قدم يريد الحج ومعه جماعة، فولوه أمرهم، فلما نازلهم الفرنج أعادت الطائفة الأخرى بني مطروح، فوقعت الحرب بين الطائفتين، وخلت الأسوار، فانتهز الفرنج الفرصة ونصبوا السلالم، وصعدوا على السور، واشتد القتال فملكت الفرنج المدينة عنوة بالسيف، فسفكوا دماء أهلها وسبوا نساءهم، وهرب من قدر على الهرب، والتجأ إلى البربر والعرب، فنودي بالأمان في الناس كافة، فرجع كل من فر منها، وأقام الفرنج ستة أشهر حتى حصنوا أسوارها وحفروا خندقها، ولما عادوا أخذوا رهائن أهلها، ومعهم بنو مطروح والملثم، ثم أعادوا رهائنهم، وولوا عليها رجلا من بني مطروح، واستقامت أمور المدينة وألزم أهل صقلية والروم بالسفر إليها فانعمرت سريعا وحسن حالها.
هو الملك المنصور، أبو الجود الأتابك عماد الدين زنكي بن الحاجب قسيم الدولة آقسنقر بن عبد الله التركي، صاحب الموصل.
ولد سنة 477.
قتل والده, قسيم الدولة مملوك السلطان ألب أرسلان, وله يومئذ عشر سنين، ولم يخلف والده ولدا غيره، فالتف عليه غلمان أبيه، ورباه كربوقا، وأحسن إليه, فكان زنكي بطلا شجاعا مقداما كأبيه، عظيم الهيبة مليح الصورة، أسمر جميلا، قد وخطه الشيب، وكان عالي الهمة، لا يقر ولا ينام، فيه غيرة حتى على نساء جنده، عمر البلاد, وكان يضرب بشجاعته المثل، وهو من أشجع خلق الله.
قبل أن يملك شارك مع الأمير مودود صاحب الموصل حصار مدينة طبرية، وهي للفرنج، فوصلت طعنته إلى باب البلد، وأثر فيه.
وحمل أيضا على قلعة عقر الحميدية، وهي على جبل عال، فوصلت طعنته إلى سورها, وأما بعد ملكه، فكان الأعداء محدقين ببلاده، وكلهم يقصدها، ويريد أخذها، وهو لا يقنع بحفظها، حتى إنه لا ينقضي عليه عام إلا وهو يفتح من بلادهم, ومن شجاعته التي لم يسمع بمثلها أنه كان في نفر أثناء حصار طبرية وقد خرج الفرنج من البلد، فحمل عليهم هو ومن معه وهو يظن أنهم يتبعونه فتخلفوا عنه وتقدم وحده وقد انهزم من بظاهر البلد من الفرنج فدخلوا البلد ووصل رمحه إلى الباب فأثر فيه، وقاتلهم عليه وبقي ينتظر وصول من كان معه فحيث لم ير أحدا حمى نفسه وعاد سالما، فعجب الناس من إقدامه أولا، ومن سلامته آخرا, وكان زنكي من الأمراء المقدمين، فوض إليه السلطان محمود بن ملكشاه شحنكية بغداد، سنة 511 في العام الذي ولد له فيه ابنه الملك العادل نور الدين محمود، ثم عينه السلطان محمود على الموصل، بتوصية من القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن الشهرزوي وصلاح الدين محمد الياغبساني بعد أن أشارا به على وزير السلطان بقولهما: "قد علمت أنت والسلطان أن بلاد الجزيرة والشام قد استولى الإفرنج على أكثرها وتمكنوا منها وقويت شوكتهم، وكان البرسقي يكف بعض عاديتهم، فمنذ قتل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير ولا بد للبلاد من شهم شجاع يذب عنها ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال إليكم لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين فنحصل نحن بالإثم من الله تعالى، واللوم من السلطان، فأنهى الوزير ذلك إلى السلطان فأعجبه، وقال: من تريان يصلح لهذه البلاد، فذكرا جماعة فيهم عماد الدين زنكي، وعظما محله أكثر من غيره" فأجاب السلطان إلى توليته؛ لما علم من شهامته وكفايته، فولاه البلاد جميعها، وكتب بذلك منشورا, ولما قدم زنكي الموصل سلم إليه السلطان محمود ولديه ألب أرسلان وفروخشاه المعروف بالخفاجي ليربيهما؛ فلهذا قيل لزنكي "أتابك"؛ لأن الأتابك هو الذي يربي أولاد الملوك.
سار زنكي من بغداد إلى البوازيج ليملكها ويتقوى بها.
كان زنكي يحسن اختيار رجاله وقادته، فيختار أصلحهم وأشجعهم, وأكرمهم لمهام ولايته وقيادة جيوشه، وكان في المقابل يكرمهم ويحتفي بهم.
عمل زنكي على ترتيب أوضاع الموصل فقرر قواعدها فولى نصير الدين جقر دزدارية قلعة الموصل, وجعل الصلاح محمد الياغبساني أمير حاجب الدولة وجعل بهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها وما يفتحه من البلاد، ووفى لهم بما وعدهم وكان بهاء الدين أعظم الناس عنده منزلة وأكرمهم عليه وأكثرهم انبساطا معه وقربا منه، ورتب الأمور على أحسن نظام وأحكم قاعدة, ثم تفرغ عماد الدين زنكي لتحرير بلاد المسلمين من الفرنج، فبدأ بتوحيد الجبهة الإسلامية وهي أراضي المسلمين المحيطة بالفرنج الصليبيين في الشام, ففتح مدائن عدة، وكان خصومه من المسلمين محيطين به من كل الجهات، وهو ينتصف منهم، ويستولي على بلادهم, وقد أحاطت ولاياتهم بولايته من كل جهاتها، فهو يقصد هذا مرة وهذا مرة، ويأخذ من هذا ويصنع هذا، إلى أن ملك من كل من يليه طرفا من بلاده، وحاصر دمشق وصالحهم على أن خطبوا له بها، ثم بعد ذلك اتجه للفرنج واستنقذ منهم كفرطاب والمعرة ودوخهم، وشغلهم بأنفسهم، ودانت له البلاد، وختم جهاده معهم باستنقاذ إمارة الرها منهم.
قال أبو شامة: "كان الفرنج قد اتسعت بلادهم وكثرت أجنادهم، وعظمت هيبتهم، وزادت صولتهم، وامتدت إلى بلاد المسلمين أيديهم، وضعف أهلها عن كف عاديهم، وتتابعت غزواتهم، وساموا المسلمين سوء العذاب، واستطار في البلاد شرر شرهم، وامتدت مملكتهم من ناحية ماردين وشبختان إلى عريش مصر، لم يتخلله من ولاية المسلمين غير حلب وحماة وحمص ودمشق، فلما نظر الله سبحانه إلى بلاد المسلمين ولاها عماد الدين زنكي فغزا الفرنج في عقر ديارهم، وأخذ للموحدين منهم بثأرهم، واستنقذ منهم حصونا ومعاقل" توجه أتابك زنكي إلى قلعة جعبر ومالكها يومذاك سيف الدولة أبو الحسن علي بن مالك، فحاصرها وأشرف على أخذها، فأصبح زنكي يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الآخر سنة 541 مقتولا، قتله خادمه وهو راقد على فراشه ليلا، ودفن بصفين.
ذكر بعض خواصه قال: "دخلت إليه في الحال وهو حي، فحين رآني ظن أني أريد قتله، فأشار إلي بإصبعه السبابة يستعطفني، فوقفت من هيبته، وقلت له: يا مولانا، من فعل بك هذا فلم يقدر على الكلام، وفاضت نفسه لوقته"، فكان- رحمه الله- شديد الهيبة على عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف، وكانت البلاد قبل أن يملكها خرابا من الظلم ومجاورة الفرنج، فعمرها وامتلأت أهلا وسكانا.
قال عز الدين بن الأثير في تاريخه: "حكى لي والدي قال: رأيت الموصل وأكثرها خراب، وكان الإنسان لا يقدر على المشي إلى الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه؛ لبعده عن العمارة، وهو الآن في وسط العمارة، وكان شديد الغيرة لا سيما على نساء الأجناد، وكان يقول: لو لم تحفظ نساء الأجناد بالهيبة وإلا فسدن لكثرة غيبة أزواجهن في الأسفار".
فلما قتل تملك ابنه نور الدين محمود بالشام، وابنه غازي بالموصل.
لما قتل عماد الدين زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده، وكان حاضرا معه، وسار إلى حلب فملكها، وكان حينئذ يتولى ديوان زنكي، ويحكم في دولته من أصحاب العمائم جمال الدين محمد بن علي وهو المنفرد بالحكم، ومعه أمير حاجب صلاح الدين محمد الياغيسياني، فاتفقا على حفظ الدولة، وكان مع الشهيد أتابك الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود، فركب ذلك اليوم، وأجمعت العساكر عليه، وحضر عنده جمال الدين وصلاح الدين، وأدخلاه الرقة، فبقي فيها أياما لا يظهر، ثم سار إلى ماكسين، فدخلها، وأقام بها أياما، وجمال الدين يحلف الأمراء لسيف الدين غازي بن أتابك زنكي، ويسيرهم إلى الموصل، ثم سار من ماكسين إلى سنجار، فاجتمع أكابر الدولة، وفيهم الوزير جمال الدين محمد الأصبهاني، المعروف بالجواد، والقاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهروزي, وقصدوا خيمة ألب أرسلان، وقالوا له: كان عماد الدين زنكي غلامك ونحن غلمانك، والبلاد لك، وطمنوا الناس بهذا الكلام, ثم إن العسكر افترق فرقتين: فطائفة منهم توجهت بصحبة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي إلى الشام، والطائفة الثانية سارت مع ألب أرسلان وعساكر الموصل وديار ربيعة إلى الموصل، فلما انتهوا إلى سنجار تخيل ألب أرسلان منهم الغدر فتركهم وهرب، فلحقه بعض العسكر وردوه، فلما وصلوا إلى الموصل وصلهم سيف الدين غازي، وكان مقيما بشهرزور؛ لأنها كانت إقطاعه من جهة السلطان مسعود السلجوقي، ملك الموصل وما كان لأبيه من ديار ربيعة، وترتبت أحواله، وأخذ أخوه نور الدين محمود حلب وما والاها من بلاد الشام، ولم تكن دمشق يومئذ لهم.
تألفت الحملة الصليبية الثانية من ثلاث فرق؛ الفرقة الإنكليزية التي اتجهت من إنكلترا التي رست سفنها على سواحل البرتغال بسبب العواصف، فساهموا في مساعدة أمير البرتغال ألفونسو الأول في قتال المسلمين في لشبونة والاستيلاء عليها، ولم يواصل السير إلى الأراضي المقدسة منهم إلا القليل، والفرقتان الألمانية والفرنسية ساراتا برا، فعبروا القسطنطينية، ولم تكن على وفاق مع الإمبراطور البيزنطي، وتعرضت هاتان الفرقتان للكثير من الأخطار، كقلة المؤن وانقضاض السلاجقة الروم عليهم.