شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

الحديث الذي وقفنا عليه رقمه (716):

وهو حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء ).

يقول المصنف: رواه البخاري.

تخريج الحديث

فأولاً: تخريج الحديث: رواه البخاري في مواضع، منها: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وباب: من شبه أصلاً معلوماً من الدين بأصل مبين، وكأن البخاري استنتج من الحديث مسألة القياس.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس حقوق الله سبحانه وتعالى على حقوق العباد، إذا كنت ستقضي الدين الذي للناس فالله أحق بالقضاء، والله أحق بالوفاء، وكذلك أخرجه البخاري أيضاً في كتاب الحج، باب الحج والنذر عن الميت؛ لأن الحديث فيه: ( أنها نذرت )، والحديث رواه النسائي والبيهقي وابن خزيمة والبغوي، كلهم في كتاب الحج، والإمام أحمد رحمه الله.

معاني ألفاظ الحديث

قوله: (أن امرأة) هذه المرأة مبهمة، ولم يذكر أحد من الشراح -فيما أعلم- اسمها، واسمها لا يتعلق به كبير فائدة، وإنما العبرة بما سألت وبما أجيبت.

وهذا الفن المعروف -وهو فن المبهمات- قد كتب فيه أهل العلم وأكثروا، كما كتب فيه الخطيب البغدادي وغيره في محاولة تبيين ما أبهم في السنة النبوية.

وقوله: (أن امرأة من جهينة) هذا فيه نوع تحديد، فهذه المرأة هي جهنية، وجهينة هي: قبيلة قضاعية قحطانية معروفة، ومساكنهم على الساحل الشرقي للبحر، ولا يزالون إلى اليوم وعاصمتهم هي مدينة أملج، تقريباً هي عاصمة المنطقة، ومنها امتدت جهينة إلى مناطق كثيرة.

وقولها رضي الله عنها: (إن أمي نذرت) النذر هنا هو أن يلزم المكلف نفسه بشيء ليس واجباً عليه في أصل الشريعة، مثل أن يربط ذلك بقوله: إن عافى الله مريضي، أو رد الله غائبي، أو حقق الله لي ما أريد؛ فلله علي نذر أن أفعل كذا من صيام أو صدقة أو حج أو بر.. أو غير ذلك، فهذا يسمى نذراً، وقد يكون النذر مخرجه مختلفاً، مثل ما يسمى بنذر التبرر، أو نذر اللجاج والغضب، أو غيرها مما حقيقته اليمين، مثل كون الإنسان يريد أن يمنع نفسه من شيء، من التدخين مثلاً، فينذر أنه إن دخن فعليه كذا من الصدقة، وعليه كذا من الصلاة، فهذا إن أوفى بنذره وإلا فعليه كفارة يمين؛ لأن هذا ليس نذراً في حقيقته، وإن كانت صيغته وصورته النذر إلا أن حقيقته اليمين، كأنه حلف على نفسه أن لا يفعل، وإن فعل عاقب نفسه بكذا.

وقد اختلف السلف في النذر، فقيل بأنه محرم، كما نقل عن جماعة من السلف، وقيل: مكروه. وهو الأقرب، وقيل: مباح، وقال بعضهم: إنه من السنة إذا غلب على ظنه أن يوفي به.

والأقرب أن النذر مكروه كما دل عليه عموم نصوص الكتاب والسنة: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )، أي: اقضوا حقوق الله سبحانه التي آلاها الإنسان على نفسه، كالنذر الذي أوجبه الإنسان على نفسه، فالله أحق بالوفاء.

وقوله: (أحق بالوفاء) يحتمل أن يكون المعنى أن الله أحق أن توفوه من أن توفوا الناس، ويحتمل أن الله تعالى أحق بالوفاء أن يوفي الله تعالى عباده إذا نذروا، وأن يعظم لهم الأجر والثواب؛ ولذلك فإن من الفقهاء من يقول -وهذه قاعدة مشهورة عندهم- إن حقوق العباد مبناها على المشاحة وحقوق الله مبناها على المسامحة، وهذا أيضاً معنى صحيح، فإن الله سبحانه وتعالى عفو غفور، ويوم القيامة يعفو عن عباده، عن التائبين، ويعفو عمن يشاء برحمته، إلا ما كان من العبد بينه وبين أخيه فإنه لا يعفى عنه حتى يعفو عنه صاحب الحق.

من مات وعليه حج واجب .. وما يلزم ورثته تجاهه

المسألة الثالثة في الحديث: مسألة من مات وعليه حج الفريضة، أو مات وعليه نذر حج، يعني: من مات وعليه حج واجب، إما أن يكون حج الفريضة، أو أن يكون نذراً أوجبه على نفسه، فما حكمه، قيل: بأنه يُحج عنه وإن لم يوصِ، أنه يجب الحج على من خلفه، على ورثته وعلى أبنائه وإن لم يوصِ بذلك، وهذا مذهب الإمام أحمد والشافعي، وروي عن جماعة من الصحابة كـابن عباس رضي الله عنهما وأبي هريرة، وهو قول جماعة من السلف كـعطاء وطاوس وابن سيرين وابن المسيب والأوزاعي وسواهم.

حجة هؤلاء الذين يقولون: على ورثته أن يحجوا عنه وإن لم يكن أوصى بذلك، حجتهم حديث الباب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من هذه المرأة: هل أمها أوصت أن يخرج هذا الحج من تركتها أو لم توصِ.

وترك الاستفصال -كما يقال- في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، يعني: كأن ترك الاستفصال معناه: أنها أوصت أو لم توصِ فيجب الحج عنها على ورثتها، فهذا استدلالهم بالحديث.

وكذلك يستدلون بأن هذا شبيه بالدين كما في الحديث نفسه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين الذي للمخلوقين، والديون التي على الميت تقضى، سواء أوصى بها أو لم يوصِ، فإذا علم أن لفلان عليه كذا، ولفلان عليه كذا؛ وجب قضاء هذا الدين من تركته وإن لم يكن أوصى به، فالدين مقدم على الوصية ومقدم على الميراث.

كذلك أنهم قالوا: إن هذا حق تدخله النيابة، الحج، وقد ثبت في عموم النصوص أنه قد يحج أحد عن أحد لاعتبار من الاعتبارات، فالحج حق قد تدخله النيابة، وكذلك أن هذا الحج لزم الإنسان، لزم هذه المرأة الجهنية، لزمها حال الحياة يوم كانت حية بالنذر، أو يكون لزمها -أيضاً- بأن يكون حج الفريضة، فلا يسقط بالموت.

وبناءً عليه: يخرج الحج من رأس مالها، من أصل تركتها، مثله في ذلك مثل دين الآدمي سواء بسواء، هذا هو القول الأول في من مات وعليه حج نذر أو عليه حج الفريضة.

القول الثاني: أن الحج يسقط بالموت عن الميت، فإذا لم يوصِ لا يحج عنه، فإن أوصى وكتب في وصيته أنه يحج عنه؛ فإن الحج حينئذٍ يكون أين؟ يحج عنه من أصل ماله، أو يحج عنه من وصيته؟

يحج عنه من وصيته، فإذا أوصى يحج عنه من الثلث -كما يقال- من الوصية، وإذا لم يوصِ فلا يلزم أن يحج عنه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، واستدلوا بقول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فقالوا: إن هذا الإنسان بعدما مات سقطت عنه الفريضة، والميت ليس عليه تكليف، فلا يلزم الورثة أن يخرجوا شيئاً من المال، ولا أن يخرجوا بأنفسهم، فإن أوصى فيخرج هذا من وصيته وليس من تركته، يعني: من حقه هو، وليس من حق الورثة الذين من بعده.

ولا شك أن الذي يغلب على ظني أن الأول هو الأقوى، وهو الذي يدل عليه ظاهر الحديث، يعني أن من مات وعليه حج فرض أو مات وعليه نذر حج أيضاً، فإنه يحج عنه.

فوائد الحديث

الحديث فيه مجموعة من الفوائد:

من أول فوائد الحديث: القياس، والقياس أصل من الأصول عند العلماء، بعد الكتاب وبعد السنة وبعد الإجماع يأتي القياس، وقد قال به جماهير الفقهاء، وأخذ به الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك الإمام ابن حزم الظاهري فنفى القياس وأنكره، وشدد النكير على القائلين به.

والواقع: أن القياس الفاسد لا شك أنه قياس مردود، والقياس في مواجهة النص، في مسألة ورد فيها نص هو كذلك، لكن القياس الصحيح مما تقتضيه الشريعة الحكيمة ومما تقتضيه العقول الحصيفة أيضاً؛ فإن قياس ما لم ينطق على المنطوق أمر ظاهر جداً، وسوف يأتي بعد قليل في مسألة الإحرام نموذج واضح جداً لهذا القياس.

ومن فوائد الحديث أيضاً: ضرب الأمثال، وهذا أمر أوسع من القياس، فإن ضرب الأمثال للاعتبار مفيد ونافع ويستفيد منه المعلم والمتعلم، والإنسان قد يستفيد من تجارب الآخرين الأحياء والأموات.

فضرب الأمثال أيضاً جاء في القرآن الكريم، وقال سبحانه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [العنكبوت:43]، وهو مما يجعل الإنسان يعتبر.

من فوائد الحديث أيضاً: تعليل الفتوى، وأن ذلك من أسباب قبولها، حرص المفتي على أن يذكر للفتوى تعليلاً أو بياناً أو توجيهاً أو إقناعاً؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال لهذه المرأة: ( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )، وقال: ( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ )؛ فإن هذا مما يجعل السائل يتصور الجواب نفسه ويقتنع به، فالسائل قد لا يقتنع بأن يقال له: هذا حلال وهذا حرام ثم يمضي، ولكن إذا أدخل هو في المسألة، وجعل يفكر فيها مثل المفتي، ويعرف من أين مأخذها ومن أين مأتاها فإن ذلك أدعى إلى القبول.

من فوائد الحديث: الحج عن الميت، سواء كان هذا الحج حج الفريضة أو كان حج النذر.

ومنه أيضاً قضاء الدين عن الميت، كما قاس النبي صلى الله عليه وسلم الحج على قضاء الدين، فإذا كان يقضى عنه دينه من ماله فكذلك يحج عنه من ماله قبل أن يقسم المال.

فأولاً: تخريج الحديث: رواه البخاري في مواضع، منها: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وباب: من شبه أصلاً معلوماً من الدين بأصل مبين، وكأن البخاري استنتج من الحديث مسألة القياس.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس حقوق الله سبحانه وتعالى على حقوق العباد، إذا كنت ستقضي الدين الذي للناس فالله أحق بالقضاء، والله أحق بالوفاء، وكذلك أخرجه البخاري أيضاً في كتاب الحج، باب الحج والنذر عن الميت؛ لأن الحديث فيه: ( أنها نذرت )، والحديث رواه النسائي والبيهقي وابن خزيمة والبغوي، كلهم في كتاب الحج، والإمام أحمد رحمه الله.

قوله: (أن امرأة) هذه المرأة مبهمة، ولم يذكر أحد من الشراح -فيما أعلم- اسمها، واسمها لا يتعلق به كبير فائدة، وإنما العبرة بما سألت وبما أجيبت.

وهذا الفن المعروف -وهو فن المبهمات- قد كتب فيه أهل العلم وأكثروا، كما كتب فيه الخطيب البغدادي وغيره في محاولة تبيين ما أبهم في السنة النبوية.

وقوله: (أن امرأة من جهينة) هذا فيه نوع تحديد، فهذه المرأة هي جهنية، وجهينة هي: قبيلة قضاعية قحطانية معروفة، ومساكنهم على الساحل الشرقي للبحر، ولا يزالون إلى اليوم وعاصمتهم هي مدينة أملج، تقريباً هي عاصمة المنطقة، ومنها امتدت جهينة إلى مناطق كثيرة.

وقولها رضي الله عنها: (إن أمي نذرت) النذر هنا هو أن يلزم المكلف نفسه بشيء ليس واجباً عليه في أصل الشريعة، مثل أن يربط ذلك بقوله: إن عافى الله مريضي، أو رد الله غائبي، أو حقق الله لي ما أريد؛ فلله علي نذر أن أفعل كذا من صيام أو صدقة أو حج أو بر.. أو غير ذلك، فهذا يسمى نذراً، وقد يكون النذر مخرجه مختلفاً، مثل ما يسمى بنذر التبرر، أو نذر اللجاج والغضب، أو غيرها مما حقيقته اليمين، مثل كون الإنسان يريد أن يمنع نفسه من شيء، من التدخين مثلاً، فينذر أنه إن دخن فعليه كذا من الصدقة، وعليه كذا من الصلاة، فهذا إن أوفى بنذره وإلا فعليه كفارة يمين؛ لأن هذا ليس نذراً في حقيقته، وإن كانت صيغته وصورته النذر إلا أن حقيقته اليمين، كأنه حلف على نفسه أن لا يفعل، وإن فعل عاقب نفسه بكذا.

وقد اختلف السلف في النذر، فقيل بأنه محرم، كما نقل عن جماعة من السلف، وقيل: مكروه. وهو الأقرب، وقيل: مباح، وقال بعضهم: إنه من السنة إذا غلب على ظنه أن يوفي به.

والأقرب أن النذر مكروه كما دل عليه عموم نصوص الكتاب والسنة: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )، أي: اقضوا حقوق الله سبحانه التي آلاها الإنسان على نفسه، كالنذر الذي أوجبه الإنسان على نفسه، فالله أحق بالوفاء.

وقوله: (أحق بالوفاء) يحتمل أن يكون المعنى أن الله أحق أن توفوه من أن توفوا الناس، ويحتمل أن الله تعالى أحق بالوفاء أن يوفي الله تعالى عباده إذا نذروا، وأن يعظم لهم الأجر والثواب؛ ولذلك فإن من الفقهاء من يقول -وهذه قاعدة مشهورة عندهم- إن حقوق العباد مبناها على المشاحة وحقوق الله مبناها على المسامحة، وهذا أيضاً معنى صحيح، فإن الله سبحانه وتعالى عفو غفور، ويوم القيامة يعفو عن عباده، عن التائبين، ويعفو عمن يشاء برحمته، إلا ما كان من العبد بينه وبين أخيه فإنه لا يعفى عنه حتى يعفو عنه صاحب الحق.

المسألة الثالثة في الحديث: مسألة من مات وعليه حج الفريضة، أو مات وعليه نذر حج، يعني: من مات وعليه حج واجب، إما أن يكون حج الفريضة، أو أن يكون نذراً أوجبه على نفسه، فما حكمه، قيل: بأنه يُحج عنه وإن لم يوصِ، أنه يجب الحج على من خلفه، على ورثته وعلى أبنائه وإن لم يوصِ بذلك، وهذا مذهب الإمام أحمد والشافعي، وروي عن جماعة من الصحابة كـابن عباس رضي الله عنهما وأبي هريرة، وهو قول جماعة من السلف كـعطاء وطاوس وابن سيرين وابن المسيب والأوزاعي وسواهم.

حجة هؤلاء الذين يقولون: على ورثته أن يحجوا عنه وإن لم يكن أوصى بذلك، حجتهم حديث الباب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من هذه المرأة: هل أمها أوصت أن يخرج هذا الحج من تركتها أو لم توصِ.

وترك الاستفصال -كما يقال- في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، يعني: كأن ترك الاستفصال معناه: أنها أوصت أو لم توصِ فيجب الحج عنها على ورثتها، فهذا استدلالهم بالحديث.

وكذلك يستدلون بأن هذا شبيه بالدين كما في الحديث نفسه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين الذي للمخلوقين، والديون التي على الميت تقضى، سواء أوصى بها أو لم يوصِ، فإذا علم أن لفلان عليه كذا، ولفلان عليه كذا؛ وجب قضاء هذا الدين من تركته وإن لم يكن أوصى به، فالدين مقدم على الوصية ومقدم على الميراث.

كذلك أنهم قالوا: إن هذا حق تدخله النيابة، الحج، وقد ثبت في عموم النصوص أنه قد يحج أحد عن أحد لاعتبار من الاعتبارات، فالحج حق قد تدخله النيابة، وكذلك أن هذا الحج لزم الإنسان، لزم هذه المرأة الجهنية، لزمها حال الحياة يوم كانت حية بالنذر، أو يكون لزمها -أيضاً- بأن يكون حج الفريضة، فلا يسقط بالموت.

وبناءً عليه: يخرج الحج من رأس مالها، من أصل تركتها، مثله في ذلك مثل دين الآدمي سواء بسواء، هذا هو القول الأول في من مات وعليه حج نذر أو عليه حج الفريضة.

القول الثاني: أن الحج يسقط بالموت عن الميت، فإذا لم يوصِ لا يحج عنه، فإن أوصى وكتب في وصيته أنه يحج عنه؛ فإن الحج حينئذٍ يكون أين؟ يحج عنه من أصل ماله، أو يحج عنه من وصيته؟

يحج عنه من وصيته، فإذا أوصى يحج عنه من الثلث -كما يقال- من الوصية، وإذا لم يوصِ فلا يلزم أن يحج عنه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، واستدلوا بقول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فقالوا: إن هذا الإنسان بعدما مات سقطت عنه الفريضة، والميت ليس عليه تكليف، فلا يلزم الورثة أن يخرجوا شيئاً من المال، ولا أن يخرجوا بأنفسهم، فإن أوصى فيخرج هذا من وصيته وليس من تركته، يعني: من حقه هو، وليس من حق الورثة الذين من بعده.

ولا شك أن الذي يغلب على ظني أن الأول هو الأقوى، وهو الذي يدل عليه ظاهر الحديث، يعني أن من مات وعليه حج فرض أو مات وعليه نذر حج أيضاً، فإنه يحج عنه.

الحديث فيه مجموعة من الفوائد:

من أول فوائد الحديث: القياس، والقياس أصل من الأصول عند العلماء، بعد الكتاب وبعد السنة وبعد الإجماع يأتي القياس، وقد قال به جماهير الفقهاء، وأخذ به الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك الإمام ابن حزم الظاهري فنفى القياس وأنكره، وشدد النكير على القائلين به.

والواقع: أن القياس الفاسد لا شك أنه قياس مردود، والقياس في مواجهة النص، في مسألة ورد فيها نص هو كذلك، لكن القياس الصحيح مما تقتضيه الشريعة الحكيمة ومما تقتضيه العقول الحصيفة أيضاً؛ فإن قياس ما لم ينطق على المنطوق أمر ظاهر جداً، وسوف يأتي بعد قليل في مسألة الإحرام نموذج واضح جداً لهذا القياس.

ومن فوائد الحديث أيضاً: ضرب الأمثال، وهذا أمر أوسع من القياس، فإن ضرب الأمثال للاعتبار مفيد ونافع ويستفيد منه المعلم والمتعلم، والإنسان قد يستفيد من تجارب الآخرين الأحياء والأموات.

فضرب الأمثال أيضاً جاء في القرآن الكريم، وقال سبحانه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [العنكبوت:43]، وهو مما يجعل الإنسان يعتبر.

من فوائد الحديث أيضاً: تعليل الفتوى، وأن ذلك من أسباب قبولها، حرص المفتي على أن يذكر للفتوى تعليلاً أو بياناً أو توجيهاً أو إقناعاً؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال لهذه المرأة: ( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )، وقال: ( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ )؛ فإن هذا مما يجعل السائل يتصور الجواب نفسه ويقتنع به، فالسائل قد لا يقتنع بأن يقال له: هذا حلال وهذا حرام ثم يمضي، ولكن إذا أدخل هو في المسألة، وجعل يفكر فيها مثل المفتي، ويعرف من أين مأخذها ومن أين مأتاها فإن ذلك أدعى إلى القبول.

من فوائد الحديث: الحج عن الميت، سواء كان هذا الحج حج الفريضة أو كان حج النذر.

ومنه أيضاً قضاء الدين عن الميت، كما قاس النبي صلى الله عليه وسلم الحج على قضاء الدين، فإذا كان يقضى عنه دينه من ماله فكذلك يحج عنه من ماله قبل أن يقسم المال.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4719 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4379 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4195 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4078 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4029 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4004 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3958 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3904 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3881 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف - حديث 504-509 3855 استماع