المرابطون في بيوت الله [14] - التفريط في جنب الله في باب المأمورات


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً, وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة, وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله, أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول, وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوب غلفاً, فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته, ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! أكيس البشر من يعمرون بيوت الله عز وجل, فقد وصفهم الله جل وعلا في كتابه بأنهم هم الرجال, ونعتهم بأربع خصال, لا تلهيهم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسموات, يصلون لله ويسبحونه, ويشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم, ويكونون على استعداد للقاء رب العباد في يوم المعاد, فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

وكنا نتدارس الصفة الرابعة من صفات هؤلاء العباد الأكياس الطيبين, ألا وهي خوفهم من رب العالمين, وكنا نتدارس في الموعظة السابقة وما قبلها أسباب خوف المكلفين من رب العالمين, وقلت: إنها كثيرة وفيرة, ويمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب:

أولها: إجلال الله وتعظيمه, وقد مضى الكلام على هذا السبب.

وثاني الأسباب: خشية تفريط العباد في حق ربهم جل وعلا.

وثالث الأسباب: الخوف من سوء الخاتمة.

وكنا نتدارس السبب الثاني من أسباب خوف المكلفين من رب العالمين وهو خشيتهم من التفريط في حق الله جل وعلا، وهذه الخشية تكون نحو ما أمر به ونهى عنه, فما نهانا عنه ينبغي أن نجتنبه على وجه التمام والكمال، وإذا لم يقع منا الاجتناب كذلك فحقيقة أمرنا على خطر, ونحن نخطئ بالليل والنهار في حق الله عز وجل، وتقدم معنا أن المحقرات التي نحتقرها قد تردينا في أسفل الدركات، ونسأل الله أن يعاملنا بفضله ورحمته وجوده وكرمه وامتنانه؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وقد تقدم معنا ما يتعلق بهذا الأمر, أعني: تقصيرنا وتفريطنا نحو ما حرمه الله علينا, وكيف وقعنا في كثير منه نسأل الله أن يتوب علينا.

وأما الأمر الثاني: التفريط فيما أمر الله باكتسابه, فكما فرطنا فيما أمر الله باجتنابه كذلك فرطنا فيما أمر الله باكتسابه مما أمر بفعله, أي: بطاعته عز وجل عن طريق القيام بالمأمورات على وجه التمام والكمال.

وتقدم معنا أن الإنسان لا يسلم من المنهيات ومن التقصير فيها إلا إذا اجتنبها كلها صغيرها وكبيرها, سرها وعلنها, وهكذا لا يسلم الإنسان من التقصير في حق المأمورات إلا إذا فعلها كلها واجبها ومستحبها, ظاهرها وباطنها, سرها وعلنها، فلا يتحقق الإيمان في الإنسان على وجه التمام إلا إذا قام بجميع ما أمر به ذو الجلال والإكرام, يقول الله جل وعلا في سورة الأنفال مقرراً هذا الأمر: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].

فتأمل -أخي الكريم- هذه الصفات, هل اتصفت بها لتكون من المؤمنين حقاً عند رب الأرض والسموات؟ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2], خافت القلوب واقشعرت الجلود ودمعت العيون هذه صفات عباد الله عندما يذكر الله. وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]. أي: ثقة بربهم, وهذه هي حقيقة التوكل. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:3-4]. وعليه فمن لم يتصف بهذه الصفات فقد فرط في درجات الإيمان، وقصر في حق الرحمن, وهكذا يقول رب الأرض والسموات في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]. فهل تحقق هذا فينا على وجه التمام والكمال؟ كل إنسان على نفسه بصيرة.

وتأمل هذه الآية التي في سورة البقرة وكيف شرط الله أموراً كثيرة فيها لحصول التقوى, ولا ينجي العبد من عقاب الله إلا إذا كان من المتقين, يقول الله جل وعلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. فهؤلاء الصادقون, وهؤلاء هم المتقون الذين يتصفون بهذه الصفات.

إخوتي الكرام! ولو قام الإنسان بجميع المأمورات، وما فرط في شيء منها فهو أيضاً شديد الوجل من الله عز وجل؛ خشية أن يكون قد قصر في القيام بتلك الطاعات وفرط في شروطها الواجبات أو المستحبات, ولذلك نعت الله عباده الطيبين الذين يجدون ويجتهدون في طاعته بأنهم يخافون مع أنهم يحسنون, يقول الله جل وعلا في سورة المؤمنون: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]. قاموا بهذه الأعمال وقلوبهم مع ذلك وجلة خائفة من ذي العزة والجلال.

وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الحاكم في مستدركه والحميدي في مسنده، ورواه الطبري في تفسيره والبغوي في تفسيره معالم التنزيل وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه وهكذا ابن المنذر وغيرهم, والحديث تقدم معنا ودرجته حسن, ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير الطبري وغيره, ولفظ الحديث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]؟ قال: لا يا بنت الصديق ! هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ), أي: يخاف ألا يقبل الله منه لتفريطه في بعض شروط ذلك العمل الذي أمر به عز وجل، وهذا من باب خشيتهم ومن باب احتياطهم ومن باب كياستهم أنهم يحسنون بالأعمال ومع ذلك يخافون من ذي العزة والجلال.

إخوتي الكرام! لا يمكن لإنسان مهما كان أن يضمن لنفسه أنه قام بشروط العمل الصالح بحيث يكون ذلك العمل مقبولاً عند ربه, ثم لو قدر أن الإنسان اجتنب جميع المحذورات والمحظورات وترك المنهيات وفعل جميع المأمورات من واجبات ومستحبات بالصفة المطلوبة فإن ذلك -فعلاً وتركاً اكتساباً واجتناباً- لا يفي بشكر نعمة من نعم الله عليك, فينبغي أن ينخلع قلبك خوفاً من ربك جل وعلا, وبهذا نعت الله عباده الذين يعمرون بيوته في هذه الأرض, قال جل وعلا: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

إخوتي الكرام! إن العمل الصالح لا يقبل عند الله عز وجل إلا ذا وجدت شروط فيه وشروط في فاعله, ثم بعد ذلك إذا اكتملت هذه الشروط فلا يفي هذا العمل مهما كثر بنعمة من نعم الله عليك.

أما العمل فلا يقبل عند الله عز وجل إلا بشرطين اثنين:

الشرط الأول: صلاح العمل

أولهما: أن يكون صالحاً, أعني: مشروعاً, بحيث تتبع فيه النبي عليه الصلاة والسلام, فلا تفعله على حسب رأيك وعرفك ولا بأي دافع كان, وإنما تفعل هذا على حسب شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام, وإذا استحسنت فقد شرعت, ومن أدخل هواه في الاستحسان والتقبيح والتحليل والتحريم فقد جعل نفسه نداً لله العظيم, والله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً, أعني: ما أخذ من مشكاة نبينا عليه الصلاة والسلام, فإذا عملت على حسب رأيك وذوقك وعرفك فعملك مردود عليك ولن يقبل عند ربك عز وجل, كما ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه والحديث رواه الإمام الدارقطني والبيهقي والإمام الطيالسي , وهو من أصح الأحاديث, فهو في الصحيحين من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ). وفي رواية لـمسلم وغيره: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ). أي: عمل عملاً غير مشروع وزعم أنه يتقرب به إلى الله عز وجل فهذا العمل مردود ولا يقبل.

وكل من بغير علم يعمل أعماله مردودة لا تقبل

فينبغي أن تكون أعمالك على حسب العلم النافع الذي أخذ من نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل عمل ترى أنه صالح ولا تتبع فيه سيد الصالحين خاتم النبيين -عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه- فعملك مردود عليك, إذاً: ينبغي أن يكون العمل صالحاً.

الشرط الثاني: الإخلاص

الشرط الثاني: وينبغي أن يكون لله خالصاً، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً سبحانه وتعالى, وهو أغنى الشركاء عن الشرك, ومن عمل عملاً أشرك فيه مع الله أحداً فهو للذي أشرك, والله منه بريء, فإذا عملت الصالحات فينبغي أن تريد بعملك رضوان رب الأرض والسموات.

وقد قرر نبينا صلى الله عليه وسلم هذا في أحاديثه الكثيرة, ففي المسند والصحيحين والسنن الأربع من حديث الخليفة الراشد الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ). إنما الأعمال -صحة وفساداً .. قبولاً ورداً .. ثواباً وعقاباً- بالنيات, فإذا عملت الصالحات لا تقبل منك وتثاب عليها إلا بنية صالحة، وإلا ترد عليك وتعاقب عليها, ولذلك من هاجر ابتغاء وجه الله وطلباً لمحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام فأجره لن يضيع عند الله, ومن هاجر من أجل عرض دنيوي فعمل صالحاً لكنه أراد به غير الله؛ أراد به تجارة أو زواجاً، فهذا تاجر وذاك خاطب, وليس له على هجرته ثواب عند الكريم الوهاب، ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ).

إذاً: لابد من إخلاص النية للرحمن في جميع ما نقوم به من أعمال في هذه الحياة, ومن الذي يدعي هذا لنفسه؟! إن أحسن الأعمال وأفضلها عند الله عز وجل العلم النافع الذي يهتدي به الإنسان في هذه الحياة, وهذا العلم إذا فسدت نية الإنسان في تعلمه فشقاء ثم شقاء له.

التحذير من الرياء في الأعمال المشروعة

ثبت في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، ورواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله, وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه, وروي الحديث أيضاً من رواية جابر بن عبد الله وكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ), يعني: ريحها. سبحان الله! طلب أشرف الأعمال وعمل صالحاً وعندما فسدت نيته حرمت عليه الجنة، ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ). ومن الذي يضمن صحة النية وسلامتها لنفسه؟! ففينا من التخطيط والتكدير في أعمالنا ونياتنا ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الذي خلقنا، ونسأله كما سترنا في هذه الحياة أن يسترنا بعد الممات؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! يقول أئمتنا كما هو قول أمير المؤمنين وسيدهم في الحديث شعبة بن الحجاج يقول هذا العبد الصالح في حق بعض عباد الله من المحدثين ألا وهو هشام الدستوائي الذي توفي سنة 154هـ وحديثه في الكتب الستة، يقول شعبة بن الحجاج : ما نعلم أحداً طلب العلم وأراد به وجه الله إلا هشام صاحب الدستوائي , وهشام الذي قيل فيه هذا يقول عن نفسه رحمة الله عليه وعلى المسلمين أجمعين: والله ما أستطيع أن أقول: إنني خرجت في يوم قط أطلب العلم أريد به وجه الله عز وجل. ويعلق الإمام الذهبي على هذا في سير أعلام النبلاء في الجزء السابع صفحة اثنتين وخمسين ومائة: وأنا والله ما أستطيع أن أقول: إني طلبت العلم وأريد به وجه الله. إذا كان هؤلاء أئمتنا الأخيار يقولون هذا عن حالهم وعن وضع نياتهم فماذا نقول نحن؟! نعم، إن الأمر كما قال بعض الصالحين مخبراً عن هذه الحقيقة:

تعلم ما استطعت لقصد وجهي فإن العلم من سبل النجاة

وليس العلم في الدنيا بفخر إذا ما حل في غير الثقات

ومن طلب العلوم لغير وجهي بعيد أن تراه من الهداة

وهكذا سائر الأعمال -إخوتي الكرام- إذا لم يخلص الإنسان فيها لذي العزة والجلال فهي وبال عليه, فهذا هو الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام, إذا فسدت النية فيه فشقاء لصاحبه عند الرحمن. ثبت في المسند ومستدرك الحاكم وسنن النسائي بإسناد صحيح من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى ). سبحانك ربي! عمل صالحاً وعرض نفسه للقتل وأسرته لليتم لكنه أراد الدنيا ولم يرد وجه الله بجهاده فليس له إلا ما نوى, ليس له إلا هذا الحبل الذي يربط به البعير ويعقل. ( من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى ).

إذاً شرطان -إخوتي الكرام- لقبول العمل عند ذي الجلال والإكرام, عمل صالح مشروع, عمل تريد به وجه الله جل وعلا صالح خالص, بذلك يكون العمل حسناً ويقبل عند ربنا الكريم, قال الله جل وعلا في أول سورة الملك: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2]. فلا قيمة للكثرة إذا كانت منحرفة عن شريعة الله، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]. وحسن العمل لا يكون إلا بأمرين: إخلاص لله ومتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام, قال سيد المسلمين في وقته الإمام أبو علي الفضيل بن عياض عندما تلا هذه الآية: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] قال: أخلصه وأصوبه, قيل: ماذا تعني بهذا يا أبا علي ؟! قال: الصواب أن يكون على السنة, والإخلاص أن يراد به وجه الله عز وجل, فمن عمل عملاً صواباً ولم يرد به وجه الله فهو مردود عليه, ومن أراد وجه الله بعمله ولم يكن صواباً فهو مردود عليه, فلا يقبل العمل عند الله حتى يكون صواباً صالحاً على سنة النبي عليه الصلاة والسلام وتريد به وجه الرحمن. وهذا كما قال الله جل وعلا في سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]. أخلصه وأصوبه, يتبعون في أعمالهم النبي عليه الصلاة والسلام ويريدون بأعمالهم وجه ذي الجلال والإكرام.

إخوتي الكرام! وهذا الأمران - أعني: الإخلاص لله عز وجل والمتابعة لنبيه عليه الصلاة والسلام- هما مدلول كلمة التوحيد التي يدخل بها الإنسان في الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا إله إلا الله إخلاص لله في جميع شئون حياتنا, قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله, فهو إمامنا الذي نقتدي به عليه صلوات الله وسلامه وفداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا, وأمر من عداه يعرض على أمر نبينا صلى الله عليه وسلم فإن وافقه فهو حق وصدق, وإلا فهو ظلم وباطل يطرح.

إخوتي الكرام! شرطان لقبول العمل: أن يكون العمل صواباً, وأن يكون خالصاً.

أولهما: أن يكون صالحاً, أعني: مشروعاً, بحيث تتبع فيه النبي عليه الصلاة والسلام, فلا تفعله على حسب رأيك وعرفك ولا بأي دافع كان, وإنما تفعل هذا على حسب شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام, وإذا استحسنت فقد شرعت, ومن أدخل هواه في الاستحسان والتقبيح والتحليل والتحريم فقد جعل نفسه نداً لله العظيم, والله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً, أعني: ما أخذ من مشكاة نبينا عليه الصلاة والسلام, فإذا عملت على حسب رأيك وذوقك وعرفك فعملك مردود عليك ولن يقبل عند ربك عز وجل, كما ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه والحديث رواه الإمام الدارقطني والبيهقي والإمام الطيالسي , وهو من أصح الأحاديث, فهو في الصحيحين من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ). وفي رواية لـمسلم وغيره: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ). أي: عمل عملاً غير مشروع وزعم أنه يتقرب به إلى الله عز وجل فهذا العمل مردود ولا يقبل.

وكل من بغير علم يعمل أعماله مردودة لا تقبل

فينبغي أن تكون أعمالك على حسب العلم النافع الذي أخذ من نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل عمل ترى أنه صالح ولا تتبع فيه سيد الصالحين خاتم النبيين -عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه- فعملك مردود عليك, إذاً: ينبغي أن يكون العمل صالحاً.

الشرط الثاني: وينبغي أن يكون لله خالصاً، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً سبحانه وتعالى, وهو أغنى الشركاء عن الشرك, ومن عمل عملاً أشرك فيه مع الله أحداً فهو للذي أشرك, والله منه بريء, فإذا عملت الصالحات فينبغي أن تريد بعملك رضوان رب الأرض والسموات.

وقد قرر نبينا صلى الله عليه وسلم هذا في أحاديثه الكثيرة, ففي المسند والصحيحين والسنن الأربع من حديث الخليفة الراشد الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ). إنما الأعمال -صحة وفساداً .. قبولاً ورداً .. ثواباً وعقاباً- بالنيات, فإذا عملت الصالحات لا تقبل منك وتثاب عليها إلا بنية صالحة، وإلا ترد عليك وتعاقب عليها, ولذلك من هاجر ابتغاء وجه الله وطلباً لمحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام فأجره لن يضيع عند الله, ومن هاجر من أجل عرض دنيوي فعمل صالحاً لكنه أراد به غير الله؛ أراد به تجارة أو زواجاً، فهذا تاجر وذاك خاطب, وليس له على هجرته ثواب عند الكريم الوهاب، ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ).

إذاً: لابد من إخلاص النية للرحمن في جميع ما نقوم به من أعمال في هذه الحياة, ومن الذي يدعي هذا لنفسه؟! إن أحسن الأعمال وأفضلها عند الله عز وجل العلم النافع الذي يهتدي به الإنسان في هذه الحياة, وهذا العلم إذا فسدت نية الإنسان في تعلمه فشقاء ثم شقاء له.

ثبت في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، ورواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله, وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه, وروي الحديث أيضاً من رواية جابر بن عبد الله وكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ), يعني: ريحها. سبحان الله! طلب أشرف الأعمال وعمل صالحاً وعندما فسدت نيته حرمت عليه الجنة، ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ). ومن الذي يضمن صحة النية وسلامتها لنفسه؟! ففينا من التخطيط والتكدير في أعمالنا ونياتنا ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الذي خلقنا، ونسأله كما سترنا في هذه الحياة أن يسترنا بعد الممات؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! يقول أئمتنا كما هو قول أمير المؤمنين وسيدهم في الحديث شعبة بن الحجاج يقول هذا العبد الصالح في حق بعض عباد الله من المحدثين ألا وهو هشام الدستوائي الذي توفي سنة 154هـ وحديثه في الكتب الستة، يقول شعبة بن الحجاج : ما نعلم أحداً طلب العلم وأراد به وجه الله إلا هشام صاحب الدستوائي , وهشام الذي قيل فيه هذا يقول عن نفسه رحمة الله عليه وعلى المسلمين أجمعين: والله ما أستطيع أن أقول: إنني خرجت في يوم قط أطلب العلم أريد به وجه الله عز وجل. ويعلق الإمام الذهبي على هذا في سير أعلام النبلاء في الجزء السابع صفحة اثنتين وخمسين ومائة: وأنا والله ما أستطيع أن أقول: إني طلبت العلم وأريد به وجه الله. إذا كان هؤلاء أئمتنا الأخيار يقولون هذا عن حالهم وعن وضع نياتهم فماذا نقول نحن؟! نعم، إن الأمر كما قال بعض الصالحين مخبراً عن هذه الحقيقة:

تعلم ما استطعت لقصد وجهي فإن العلم من سبل النجاة

وليس العلم في الدنيا بفخر إذا ما حل في غير الثقات

ومن طلب العلوم لغير وجهي بعيد أن تراه من الهداة

وهكذا سائر الأعمال -إخوتي الكرام- إذا لم يخلص الإنسان فيها لذي العزة والجلال فهي وبال عليه, فهذا هو الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام, إذا فسدت النية فيه فشقاء لصاحبه عند الرحمن. ثبت في المسند ومستدرك الحاكم وسنن النسائي بإسناد صحيح من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى ). سبحانك ربي! عمل صالحاً وعرض نفسه للقتل وأسرته لليتم لكنه أراد الدنيا ولم يرد وجه الله بجهاده فليس له إلا ما نوى, ليس له إلا هذا الحبل الذي يربط به البعير ويعقل. ( من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى ).

إذاً شرطان -إخوتي الكرام- لقبول العمل عند ذي الجلال والإكرام, عمل صالح مشروع, عمل تريد به وجه الله جل وعلا صالح خالص, بذلك يكون العمل حسناً ويقبل عند ربنا الكريم, قال الله جل وعلا في أول سورة الملك: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2]. فلا قيمة للكثرة إذا كانت منحرفة عن شريعة الله، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]. وحسن العمل لا يكون إلا بأمرين: إخلاص لله ومتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام, قال سيد المسلمين في وقته الإمام أبو علي الفضيل بن عياض عندما تلا هذه الآية: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] قال: أخلصه وأصوبه, قيل: ماذا تعني بهذا يا أبا علي ؟! قال: الصواب أن يكون على السنة, والإخلاص أن يراد به وجه الله عز وجل, فمن عمل عملاً صواباً ولم يرد به وجه الله فهو مردود عليه, ومن أراد وجه الله بعمله ولم يكن صواباً فهو مردود عليه, فلا يقبل العمل عند الله حتى يكون صواباً صالحاً على سنة النبي عليه الصلاة والسلام وتريد به وجه الرحمن. وهذا كما قال الله جل وعلا في سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]. أخلصه وأصوبه, يتبعون في أعمالهم النبي عليه الصلاة والسلام ويريدون بأعمالهم وجه ذي الجلال والإكرام.

إخوتي الكرام! وهذا الأمران - أعني: الإخلاص لله عز وجل والمتابعة لنبيه عليه الصلاة والسلام- هما مدلول كلمة التوحيد التي يدخل بها الإنسان في الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا إله إلا الله إخلاص لله في جميع شئون حياتنا, قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله, فهو إمامنا الذي نقتدي به عليه صلوات الله وسلامه وفداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا, وأمر من عداه يعرض على أمر نبينا صلى الله عليه وسلم فإن وافقه فهو حق وصدق, وإلا فهو ظلم وباطل يطرح.

إخوتي الكرام! شرطان لقبول العمل: أن يكون العمل صواباً, وأن يكون خالصاً.

ثم عندنا شرطان أيضاً في العامل لا بد منهما من أجل أن يقبل عند الله عز وجل.

الشرط الأول: التقوى

الشرط الأول في العامل: أن يكون تقياً, فإذا عملت العمل الصالح وهو صواب وأردت به وجه الكريم الوهاب لكن ليست فيك صفة التقوى وما عندك حصانة المتقين فعملك لن يوصلك إلا إلى سجين؛ لأن الله لا يتقبل الأعمال إلا ممن هذا وصفه, يقول الله جل وعلا في كتابه في سورة المائدة إخباراً عما جرى بين ولدي آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. قرب قابيل شيئاً هزيلاً إلى الله الجليل، وقرب أخوه هابيل شيئاً عظيماً إلى الله الجليل, فأتى بأعظم كبش سمين وقربه إلى رب العالمين, وكان القربان إذا قرب وتقبل نزلت نار من السماء فأخذته كما كان هذا هو حال المغانم, وما أحلت المغانم لأمة من الأمم إلا لهذه الأمة المباركة المرحومة, كما في الصحيحين وغيرهما: ( وأحلت لي المغانم, ولم تحل لأحد قبلي ). وكانوا إذا جمعوا المغانم ولم يكن فيها غلول ولا خيانة نزلت نار من السماء فالتهمتها وأخذتها دليلاً على قبولها.

وأما هذه الأمة فقد سترها الله في هذه الحياة, فإذا كان هناك غلول وخيانة فلا يكشف, ثم من عليها بعد ذلك بأن تأكل هذه الغنائم حلالاً طيباً, فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69].

اختلف قابيل وهابيل في موضوع زواج في ذلك الوقت, وكل واحد يريد أن يتزوج تلك المرأة التي فيها صفة الحسن والجمال, ثم كان بعد ذلك منهما أن قربا قرباناً إلى الله, فمن تقبل قربانه فهو الذي يتزوج تلك المرأة, فقدم هابيل قرباناً طيباً عظيماً جميلاً وهو من المتقين, وقرب ذاك قرباناً خسيساً خبيثاً وهو من الفاجرين, فنزلت النار من السماء فأخذت قربان هابيل وتركت ذاك, قال تعالى: إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. المسألة لا محاباة فيها, إذا أخلصت لله عز وجل فسيقبل الله قرباتك. إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

إخوتي الكرام! هذه الصفة لا بد من وعيها, فلا يقبل الله جل وعلا العمل إلا إذا صدر من تقي لله عز وجل, إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. فلا بد إذاً من تحصيل التقوى؛ ليكون العمل مقبولا عند المولى جل وعلا.

وهكذا جعل سبحانه وتعالى هذه الصفة - أعني: صفة التقوى- شرطاً لقبول الأعمال, ولما يترتب عليها من طيب الخصال في جميع الأعمال الصالحة, فعبادة الحج مع مكانتها وعظيم الأجر الذي لها لا يحصل الإنسان تلك الأجور إلا إذا كان من المتقين, يقول الله جل وعلا مقررا هذا في سورة البقرة: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]. فمن تعجل فلا إثم عليه, غفر الله له ذنوبه وخرج كيوم ولدته أمه, ومن تأخر فله تلك الجائزة بشرط أن يكون الأول والثاني ممن فيهم صفة التقوى, فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

نعم، إن الدار الآخرة جعلها الله للمتقين, ولا يقبل العمل إلا إذا كان العامل تقياً. فيا عبد الله! إذا عملت صالحاً وأردت به وجه الله لكن ليس في نفسك تلك الحصانة - أعني: حصانة التقوى- وهي التي تبعثك على ترك المنهيات وتبعثك على فعل المأمورات، وهي التي تجعلك لا تنهمك في المباحات واللذائذ في هذه الحياة، ولا يعني هذا أنك معصوم وأنك لن تفرط في حق الحي القيوم, لكن شتّان شتان بين من يقع في الذنب اتفاقاً وعرضاً وبين من يقصده ويقع فيه إعراضاً عن شريعة الله عز وجل؛ فكل بني آدم خطاء, لكن إذا لم تك في نفسك صفة التقوى فأنت تحرص على الخطيئة وتسعى إليها, وإذا كانت في نفسك صفة التقوى تقع فيها بمقتضى جبلتك وبشريتك التي لا تنفك عن قصور وتقصير, ورحمة الله جل وعلا واسعة.

وقد أشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا في حديث يخلع القلوب, ووالله لو استحضرناه عند نومنا وكنا نعلم ما سيئول إليه حالنا بعد موتنا لعل الكيس منا لا ينام, انظر لأناس عملوا من الصالحات ما لا يخطر ببال أحد من المخلوقات لكن لم يتصفوا بصفة التقوى, هذه الحصانة ليست فيهم, فيتحينون الفرص لمعصية الله عز وجل, مع أنه صام وصلى وحج واعتمر لكن في نفسه ذلك الخبث, يتحين فرصة لأجل أن يزني أو يلوط أو يسرق أو يغش أو يحتال, يتحين فرصة لذلك وما يمنعه من ذلك إلا عجزه عنه مع أنه يقوم بأعمال صالحة كثيرة. ثبت الحديث بذلك في سنن الإمام ابن ماجه بسند رجاله ثقات وإسناده صحيح كالشمس من رواية ثوبان رضي الله عنه مولى نبينا عليه الصلاة والسلام, والحديث رواه أبو نعيم في الحلية من رواية سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم أجمعين, ولفظ الحديث: عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً, فيجعلها الله هباء منثوراً ). نسألك ألا تجعلنا من هؤلاء يا أرحم الراحمين! ( فيجعلها الله هباء منثوراً. فقال ثوبان : يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفهم لنا .. جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم, فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم, ويأخذون بحظهم من الليل كما تأخذون, لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ). ما عنده حصانة إيمانية بحيث إذا عرضت عليه المغويات الردية يقول: إني أخاف الله, نعم هو يصوم ويصلي ويحج ويعتمر لكن إن أمكنه أن يكذب كذب, وإذا استطاع من محرم اغتنمه, ( ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ). وفي رواية الحلية: ( ولكنهم إذا عرض لهم شيء من الحرام وثبوا عليه ). فصفة التقوى -صفة هذه الحصانة- فقدوها مع أنهم عملوا من الصالحات بمقدار جبال تهامة بيضاً, فجعلها الله هباء منثوراً, إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

قال مالك بن دينار -كما في حلية الأولياء رحمهم الله جميعاً-: هذا والله هو النفاق, أي: إذا لم يتصف الإنسان بحصانة التقوى فهو منافق, أظهر هذه الأعمال الصالحة لكنه إذا خلا بارز الله بالمحاربة, وإذا عرض له شيء من الحرام وثب عليه.

فلابد من أن يكون الإنسان تقياً ليقبل عمله عند الله عز وجل, وإذا قبل العمل فلن يقل, فالتمرة تكون عند الله أثقل من جبل أحد لكن بشرط قبولها, وأعمال كجبال تهامة بيضا تصبح هباءاً منثوراً. وكيف يقل ما تقبل وركعتان يقوم بهما الإنسان في جوف الليل وهو تقي خير له من أن يراوح بين قدميه من العشاء إلى طلوع الفجر وهو شقي؟

لابد -إخوتي الكرام- من هذه الصفة التي هي شرط لقبول الأعمال, وهذا شرط في العامل ينبغي أن يتصف بتلك الحصانة.

إخوتي الكرام! ولا يفهمن فاهم أنه إذا كان الإنسان تقياً لن يقع في تفريط وفي تقصير, لا، كلنا نخطئ, ولكن كما قلت: شتان بين من وطن نفسه على الخطأ وبين من ينتظره وبين من يفرح به إذا حصله، وبين من يقع فيه عرضاً بمقتضى ضعفه وتقصيره وقصوره والنقص الذي في جبلته, شتان شتان.

وقد رسم لنا نبينا صلى الله عليه وسلم صورة واضحة للمؤمن وصورة واضحة لغير المؤمن, ولم يجعل من علامات صورة المؤمن أنه لا يعصي, لكن بين لنا ماذا يفعل المؤمن حال عصيانه وحال طاعته, فثبت الحديث في ذلك في مسند الإمام أحمد والبزار ومعجم الطبراني الكبير ومستدرك الحاكم من رواية أبي موسى الأشعري , والحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط والكبير، والحاكم في المستدرك من رواية أبي أمامة الباهلي ، ورواه الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، وروي أيضاً في المسند من رواية عامر , وروى أيضاً في معجم الطبراني الأوسط من رواية علي رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث وهو صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من سرته طاعته وساءته معصيته فهو مؤمن ). عنده هذه الحصانة الإيمانية, وعنده هذه الخشية من رب البرية؛ فإذا فعل طاعة فرح وتلذد, وإذا فعل معصية حزن واغتم, وعليه إذا كان فعل الطاعات يفرحه فهو يحرص عليها ويستكثر منها ويبذل ما في وسعه لفعلها, وإذا كان فعل السيئات يحزنه فهو يهرب عنها ويبتعد منها, وإذا وقع فيها مقت نفسه في ذات الله عز وجل. هذا من علامة فرح الإنسان بطاعة الله.

ومن علامة استيائه بمعصية الله أما أنه يستاء ويستكثر من الاستياء لأنك إن كنت تأكل شيئاً ضاراً يسوءك لا تعود إليه مرة ثانية وإذا كنت تأكل شيئاً تلتذ به وينعشك تعاوده وتكثر من أكله وهكذا الطاعات والمعاصي من سرته طاعته فهو مؤمن ومن ساءته معصيته فهو مؤمن، فالمؤمن هو الذي تسوؤه معصيته وتسره طاعته. ومن فعل الطاعة فما وجد لها سروراً وبهجة وفعل المعصية فما وجد في نفسه هما وغما وحزناً فليبك على نفسه وليعلم أنه من أهل الجحيم ولو أتى الله يوم الدين بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فلن يقبلها رب العالمين، فليس فيه حصانة المتقين ولا يتقبل الله إلا من المتقين.

إخوتي الكرام! هذا الأمر لا بد أن نعيه، شتّان شتان بين من يفعل الطاعة ويتلذذ بها وتكون قرة عينه وإذا وقع في المعصية بمقتضى جبلته وقصوره وتقصيره ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه، وأسرع إلى الله عز وجل ليتوب عليه.

هذه الصفة الأولى في العامل ولابد من وعيها ألا وهي صفة التقوى، فلا يتقبل الله إلا من المتقين.

الشرط الثاني: المحافظة على العمل من البطلان

والصفة الثانية في العامل -وقل من يعتني بها بل قل من يفكر فيها بل قد من يعلمها- ألا وهي: المحافظة على العمل من بطلانه بعد عمله، والمحافظة على الأعمال أصعب على العمال من سائر الأعمال, وكثير من الناس حالهم كما قال القائل: بنى قصراً لكنه هدم مصراً, فما وفي غنمه بغرمه, ما حصله من غنم في بناء هذا القصر لا يفي بالغرم الذي فعله عندما ظلم وهدم المصر بكامله, كثير من الناس كذلك, يفعل الحسنات ثم يأتي بما يحبطها ويبطلها عند رب الأرض والسموات, ولا بد من المحافظة على العمل، فينبغي أن تحافظ على عملك من فساده عند فعله ومن بطلانه بعد عمله, والأمر كما قال شيخ الإسلام الإمام ابن قيم الجوزية عليه رحمات رب البرية في كتابه الوابل الصيب من الكلم الطيب في صفحة إحدى عشرة يقول: وقليل من الناس من عنده خبر عما يفسد العمل عند فعله وعما يحبط العمل بعد فعله, قليل من عنده خبر ويعتني بهذا، وهذا لا بد من وعيه فإذا عملت فحافظ على هذا العمل وإياك أن تضيعه وإياك أن تحبطه عند الله عز وجل!

إن الإنسان إذا تصدق ومنَّ بعد ذلك بصدقته فهو من أهل النار, وتقدم معنا أن الجنة محرمة على المنان, يقول ذو الجلال والإكرام مشيراً إلى هذا في سورة البقرة: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:261-265].

لابد من المحافظة على العمل من إبطاله, وكثير من الأعمال تبطل أعمالك الصالحة وأنت لا تدري, فالمحقرات التي ابتليت بها المخلوقات في الزمن القديم وفي هذه الأوقات تبطل الأعمال الصالحات, وتوجب لفاعلها دخول أسفل الدركات, مع أنه عمل الصالحات لكنها بطلت, يقول الله جل وعلا عن هذا الصنف من المنافقين بعد أن ذكر أخبارهم في سورة التوبة براءة: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:64-66]. وهذه الآيات نزلت كما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في مغازي ابن إسحاق وغيره رحمة الله عليهم جميعاً في المنافقين الذين تكلموا على القراء حملة القرآن, فقالوا: قراؤنا أكذبنا ألسنة, وأرغبنا بطوناً, وأجبننا عند اللقاء, فحكم الله بردتهم وكفرهم عندما حقروا شعائر الله جل وعلا. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65], نمزح ولا نقصد بذلك الحقيقة. قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].

كم من إنسان في هذه الأيام يستحقر ويستهزئ بشعائر الإسلام؟ فلو كان عنده من الحسنات ما يزيد على جبال تهامه لحبطت وبطلت. كم من إنسان في هذه الأيام تعرض عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: دعنا منه؟! والله جل وعلا اعتبر رفع الصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام محبطاً للعمل, فكيف بمن رد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].

إخوتي الكرام! محبطات الأعمال كثيرة, ينبغي للإنسان أن يحذر منها, فإذا أتى بالصالحات وأراد بها وجه رب الأرض والسموات فليحافظ عليها من البطلان .. من الحبوط .. من الضياع.

انظر هذه القصة التي جرت من صحابي في العصر الأول وجرت من باب الغفلة منه رحمه الله ورضي الله عنه, وتكلمت أمنا عائشة رضي الله عنها في هذا كلاماً شديداً قاسياً ينبغي أن نعيه, والقصة مروية في المسند ومصنف عبد الرزاق وسنن الدارقطني وسنن البيهقي , وقد قال الإمام ابن عبد الهادي في التنقيح: إسنادها جيد من رواية العالية زوج أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على أمنا عائشة رضي الله عنها وعندها أم محبة فقالت لها: ( يا أماه! -لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها- إنني بعت جارية لـزيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء, ثم اشتريتها منه نقداً بستمائة درهم ), باعته جارية -خادمة- بثمانمائة درهم إلى عطائه الذي يخرج في نهاية السنة, أي: إلى سنة بثمانمائة درهم, ثم اشترت منه هذه الجارية بستمائة درهم نقداً, أعطته الجارية نسيئة إلى سنة بثمانمائة درهم, ثم اشترت جاريتها نقداً بستمائة درهم, فكأنها أعطته ستمائة درهم حالة, وستأخذ مكانها ثمانمائة درهم بعد سنة. فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ( بئس ما اشترى وبئس ما اشتريت ). أي: بئس ما اشترى زيد , وبئس ما اشتريت منه, ( أخبري زيداً أن جهاده قد بطل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب, فقالت أم محبة : يا أماه! فإذا أخذت رأس مالي )؟ آخذ من زيد ستمائة درهم ولا أطالبه بالزيادة؟ فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] ).

وهذه المبايعة هي التي تعرف ببيع العينة, وهي: أن تبيع الشيء بثمن كثير إلى مدة مؤجلة, ثم تشتريه بثمن أقل حالاً معجلاً فهذا هو بيع العينة, وإذا فعلته الأمة سلط الله عليها ذلاً لا ينزعه عنها حتى ترجع إلى دينها. والعينة هي احتيال على الربا, فكيف بمن يأكل الربا الواصح الخالص الظاهر الذي ليس حوله تأويل ولا احتيال؟ وهنا اشترى هذا الصحابي الجليل وزاول هذا البيع والذي هو فيه متأول وما بلغه النهي, ثم بعد ذلك رجع, فقالت أمنا عائشة : ( أخبروه أن جهاده قد بطل مع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أن يتوب ).

إخوتي الكرام! لابد من المحافظة على الأعمال من إبطالها, فمن عمل عملاً ثم أبطله فماذا استفاد منه؟ ومن أجل هذا كان كثير من الصالحين تتقطع قلوبهم خشية من رب العالمين, وإذا سئلوا: هل هم من عداد المؤمنين يفوضون الأمر إلى رب العالمين, ولا يقولون: نعم.

سئل الحسن البصري : أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله, فقيل: أتشك يا أبا سعيد ؟! قال: وما يدريني إذا قلت: نعم فقال الله لي: كذبت, فتحق علي الكلمة, ماذا يدريني؟ وهل أنا قمت بما يقتضيه الإيمان؟ فإذا كنت مؤمناً وقال الله من فوق سبع سماوات: كذبت فتحق علي الكلمة كما حقت على إبليس, وما يؤمنني أن الله اطلع على بعض أعمالي فمقتني, فقال: يا حسن اعمل ما شئت فلن أقبل منك, فأنا أعمل في غير معمل ولا أدري.

وكان سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمة الله يقول: إذا سئلت: هل أنت من المتوكلين؟ وهل أنت ممن يتصف بمقامات الدين من محبة الله والخوف منه ورجائه؟ فاسكت أو قل: أرجو إن شاء الله؛ فإنك إن قلت: نعم كذبت, وإن قلت: لا كفرت.

إذا قيل لك: هل أنت متوكل؟ إن قلت: نعم، فأنت من عداد الكذابين فليس حالنا حال المتوكلين, وإذا قلت: لا، كفرت بالله, فقل: أرجو أن أكون من المتوكلين, إن شاء الله أكون من المتوكلين, لعل الله يجعلني منهم, أما أن تنسب هذا إلى نفسك وأنت ما تدري ماذا عملت من عمل أحبطت أعمالك عند الله وأنت لا تدري. كلمات قالها أناس في العصر الأول: قراؤنا أكذبنا ألسنة, أرغبنا بطوناً, أجبننا عند اللقاء, حكم الله عليهم بالنفاق وبنار جهنم. ولعله يجري منا أمثال أمثال هذه الكلمات في هذه الحياة وفي هذه الأوقات.

ولذلك قال العبد الصالح أبو يزيد البسطامي طيفور بن عيسى الذي توفي سنة 261هـ ونعته شيخ الإسلام الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بأنه سلطان العارفين, وقال: له حكم ونكت مليحة, وكان من كلامه رضي الله عنه وأرضاه يقول: من كان يظن أنه يوجد من هو شر منه فهو متكبر. سبحانك ربي! سبحانك ربي! كيف كان أولئك يحاسبون أنفسهم؟! نعم أخي الكريم! مهما اطلعت على ذنوب العباد فإطلاعك على ذنوبك أكثر وأكثر, فعلام ترى ذنوب غيرك وتنسى ذنوبك؟ من كان يظن أنه يوجد من هو شر منه فهو متكبر, إنما يرى نفسه أنه شر المخلوقات. وحقيقة -كما تقدم معنا- من لم يظن أن يعاقبه الله على خير الأعمال فهو من أهل الضلال, على خير الأعمال. وكان هذا العبد الصالح يقول: ليس العجب من حبي لك - لله عز وجل- وأنا عبد حقير, إنما العجب من حبك لي وأنت رب جليل.

ويقول هذا العبد كما في سير أعلام النبلاء رحمهم الله جميعاً، يقول: لو صفا لي تهليلة ما باليت بعدها, لو صفا لي تهليلة من جميع تهليلاتي, والتهليلة هي: كلمة التوحيد لا إله إلا الله, يقول: أنا في حياتي من أولها إلى آخرها لو ضمنت أنه صفا لي تهليلة من تهليلاتي، كلمة واحدة أوحد بها الله سلمت من الشوائب ومن الحبوط لما باليت بشيء بعدها. لو سلمت لي تهليلة ما باليت بشيء بعدها, أي: أنا عندي ضمان عند ذي الجلال والإكرام بأنني لن أخلد في النار, لكن ما الذي يدرينا أنه سلم لنا تهليلة أو لم تسلم؟

هذا هو حال عباد الرحمن الذين يخشونه ويتقونه, ولذلك من أسباب خوفهم خشية تفريطهم في حق ربهم سواء في فعل الطاعات، أو في فعل المحرمات والمنهيات، أو في تضييع المأمورات والواجبات والمستحبات.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
المرابطون في بيوت الله [1] - صفات الرجال 3492 استماع
المرابطون في بيوت الله [7] - الخشوع في الصلاة 3052 استماع
المرابطون في بيوت الله [5] - الزهد في الدنيا وطلب الآخرة 2892 استماع
المرابطون في بيوت الله [9] - تعريف الخوف ومنزلته 2741 استماع
المرابطون في بيوت الله [13] - الخوف والرجاء في حياة المؤمنين 2706 استماع
المرابطون في بيوت الله [3] - شروط خروج المرأة إلى بيت الله 2636 استماع
المرابطون في بيوت الله [2] - صفة خروج المرأة إلى بيت الله 2631 استماع
المرابطون في بيوت الله [11] - إجلال الله وتعظيمه 2580 استماع
المرابطون في بيوت الله [6] - فضل الصلاة وذكر الله 2435 استماع
المرابطون في بيوت الله [8] - فرضية الزكاة 2401 استماع