المرابطون في بيوت الله [11] - إجلال الله وتعظيمه


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! إن المساجد هي أفضل البقاع، وأحبها إلى رب الأرض والسماء، ففيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدون المهتدون، وحقيقةً هم الرجال الذين يتصفون بأطيب الخصال، فهم الذين لا تلهيهم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسماوات، وهم الذين يعظمون الله فيسبحونه ويصلون له، وهم الذين يشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم، وهم الذين يخافون من ربهم ويستعدون للقائه، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .

نعم إخوتي الكرام! هؤلاء هم الرجال حقاً، أحسنوا صلتهم بربهم عز وجل، وأحسنوا صلتهم بعباد الله، فعظموا الله جل وعلا، وأشفقوا على عباد الله، ومع ذلك اتصفوا بالخوف من الله جل وعلا والوجل منه، وهذا من علامة سعادتهم، كما قال العبد الصالح أبو عثمان النيسابوري وهو سعيد بن إسماعيل الذي توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين للهجرة، يقول هذا العبد الصالح: من علامة سعادة الإنسان: أن يعمل الصالحات، وأن يطيع رب الأرض والسماوات، ويخاف أن يكون مردوداً مطروداً. ومن علامة شقاوة الإنسان: أن يعمل السيئات، ويرجو بعد ذلك أن يكون مقبولاً.

وهؤلاء العباد عظموا الله عز وجل، وأحسنوا إلى عباد الله، وأشفقوا عليهم، ومع ذلك يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.

إخوتي الكرام! وهذه الصفة الرابعة التي نعتهم الله بها في القرآن كنا نتدارسها، وقلت: سنتدارسها ضمن مبحثين اثنين: حول الخوف، وحول يوم القيامة.

أما الخوف فقد ذكرت أننا سنتدارسه أيضاً ضمن أربع مراحل: مضى الكلام على ثلاث منها، فيما يتعلق بتعريف الخوف، ومنزلة الخوف في شريعة الله، وثمرة الخوف وما يحصله الخائف من ربه من ثمرات طيبة في العاجل والآجل؛ في الدنيا والآخرة، وبقي علينا الأمر الرابع المتعلق بالخوف ألا وهو أسباب خوف المكلفين من رب العالمين.

إخوتي الكرام! إن أسباب الخوف كثيرة وفيرة، وهي على تعددها قد تحصر في ثلاثة أسباب:

أولها: تعظيم الله جل وعلا وإجلاله.

وثانيها: الخشية من التفريط الذي يتصف به الإنسان نحو ذي الجلال والإكرام سواء كان ذلك التفريط متعلقاً بفعل الطاعات أو بارتكاب المحظورات.

والسبب الثالث من أسباب الخوف -وهو الذي يقطع قلوب الصالحين والصديقين-: خشية سوء الخاتمة.

فهذه الأسباب الثلاثة تدعو هؤلاء الرجال إلى الخوف من ذي العزة والجلال: تعظيم الله جل وعلا، وخشية تفريطهم في جنب ربهم جل وعلا، وبعد ذلك لا يعلمون بأي شيء سيختم لهم.

وهذه الأسباب الثلاثة سنتدارسها إن شاء الله في هذه الموعظة وفيما بعدها، فلنتدارس في هذه الموعظة السبب الأول منها: إجلال الله وتعظيمه.

إخوتي الكرام! هؤلاء الرجال يجلون الله جل وعلا ويعظمونه؛ لأنه عظيم؛ ولأنه جليل، وينبغي لهذا العبد الفقير الضعيف الذليل أن يجل مولاه الكبير الجليل سبحانه وتعالى، لا لعلة سوى ذلك، فأنت فقير والله غني، وأنت ضعيف والله قوي، وأنت ذليل والله جليل، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تجل الله، وأن تهابه، وأن تخافه، وكل من استحضر هذا المعنى لا بد وأن يخاف الله عز وجل.

إخوتي الكرام! الخوف من الله تعظيماً له، وإجلالاً له، لا من أجل ثواب، ولا من أجل خشية عقاب، إنما هو إله عظيم جليل ينبغي أن نجله وأن نخاف منه، وحقيقةً: من عرف الله جل وعلا وعرف أن ما يجري في هذا الكون من عرشه إلى فرشه ما هو إلا آثار أسماء الله وصفاته، آثار صفات الجمال والجلال، آثار صفات البر والقهر.

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].

فمن استحضر صفات الكريم الوهاب، وأنها هي التي تعمل في هذا الكون من عرشه إلى فرشه لا بد وأن يخاف الله جل وعلا، ولا بد وأن يجل الله جل وعلا، ولا بد وأن يهاب الله سبحانه وتعالى وأن يعظمه.

منزلة الخوف من عظمة الله وجلاله بين أنواع الخوف

الخوف من الله تعظيماً وإجلالاً هو أعلى أنواع الخوف، وقد أمرنا الله بأن نخاف نفسه، وأن نخشاه حق خشيته في آيات كثيرة من القرآن، فقال جل وعلا في سورة آل عمران: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] ، لا طمعاً في ثوابه، ولا خشيةً من عقابه، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:28-30].

إن هذا الخوف هو أجل وأعلى وأرفع أنواع الخوف، وقد أشار إلى هذه المرتبة في خوف الله جل وعلا الخوف منه لتعظيمه وإجلاله أئمتنا الكرام، كما قال العبد الصالح ذو النون المصري وهو ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض ، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين للهجرة، من العلماء الربانيين الكرام، وكان مجاب الدعوة، ولما توفي عليه رحمة الله أظلت الطير جنازته حتى دفن، ومن كلامه العذب المحكم أنه كان يقول: من تطأطأ لقي رطباً، ومن تعالى لقي عطباً، أي: من تطأطأ وتواضع في هذه الحياة لقي رطباً، والرطب يجنيها الإنسان عندما يلتقطها من الأرض، ومن تعالى وشمخ بأنفه لقي عطباً.

ومن كلامه المحكم الذي تناقله أئمتنا عنه، وأكثروا من ذكره، ومن اللهج به، وخاصة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية ، وتلميذه ابن قيم الجوزية عليهم رحمات رب البرية، كان يقول هذا العبد الصالح: والله ما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله وبمحبته، وما طابت الآخرة إلا بمغفرة الله ورحمته، وما طابت الجنة إلا برؤية الله ومشاهدته.

ويقول هذا العبد الصالح ذو النون مشيراً إلى هذه المرتبة من أنواع خوف المكلفين من رب العالمين، خوفهم إجلالاً له وتعظيمه، يقول: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي.

ويريد بذلك رحمه الله: أن الرجال الكاملين يخشون من فراق رب العالمين، ومن غضبه عليهم أضعاف أضعاف ما يخشونه من نار الجحيم، قال: الخوف من النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].

إخوتي الكرام! إن هذه المرتبة هي أجل أنواع الخوف، أن تخاف من الله إجلالاً له وتعظيماً له، وهكذا أن تعبده؛ لأنه إله عظيم يستحق العبادة سواء أمرك بالعبادة أو لا، وسواء سيثيبك على العبادة أو لا، وسواء نهاك عن مخالفته أو لا، وسواء سيعذبك على المخالفة أو لا، أنت تطيعه وتعبده؛ لأنه إله عظيم، فتقوم بحقوق ربك عليك في كل حين، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] ، وإذا ما أمرنا الله بعبادته هل يصلح منا أن نتخلى عنه، وألا نلجأ إليه؟ وإذا ما جعل الله في الآخرة جنةً ولا ناراً هل يصلح منا أن نبتعد عنه؟

هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحق عبادة رب الورى الأكرم

أليس من الواجب المستحق الحياء من الرب المنعم

هب أنه ليس هناك بعث، وليس هناك نار تضطرم يوم القيامة وتغلي وتفور أليس من حق الله علينا أن نعبده، وأن نعظمه، وأن نجله، وأن نستحي منه؟ بلى وعزة ربنا.

وهذا المعنى قرره أئمتنا الكرام، وانظروه موسعاً إخوتي الكرام في كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة، للإمام ابن القيم في الجزء الثاني صفحة ثمان وثمانين وما بعدها، وانظروه في مجموع فتاوى شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في المجلد السادس عشر صفحة ثلاث وخمسين ومائتين وما بعدها.

المعاني التي لأجلها كان الخوف من عظمة الله جل جلاله أعلى وأجل أنواع الخوف والأدلة على ذلك

فهذا هو أجل أنواع الخوف، فعبادة الله تعظيماً له تعد أعلى أنواع العبادات؛ والسبب في ذلك: أن من يخاف من الله إجلالاً له فقد أعطى الرب حقه، وقام بما ينبغي أن يقوم به العبد نحو سيده.

والأمر الثاني: أن من عبد الله جل وعلا تعظيماً له وخافه إجلالاً له ما جعل الله وسيلةً لمنفعته ولشهواته ولتنعمه وللذاته، إنما عبد الله لأنه إله عظيم يستحق منا العبادة في كل حين؛ وكونه تكرم علينا بعد ذلك بجنات النعيم فهذا زيادة إحسان وفضل منه كما أغدق علينا نعمه في هذه الحياة فضلاً منه وكرماً، دون استحقاق للمخلوقات على خالقها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] .

والأمر الثالث: أن من عبد الله إجلالاً له، ومن خافه تعظيماً له لا ينقطع عن العبادة ولا يفتر عن الخوف، وإن حصل مطلوبه، وإن أسقط الله عنه الأمر والنهي، وإن وإن... فهو يقول: أنا عبد وسيدي رب، ولا يصلح للعبد إلا أن يخاف من الله وأن يتذلل له سبحانه وتعالى.

إخوتي الكرام!

إذاً: هذا هو أجل أنواع الخوف، وقد أشار الله إليه في آيات القرآن، وقدمه على الخوف من وعيده ومن النيران، فقال جل وعلا في سورة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، والآية في ثمرات الخوف، ولكن انتبهوا لهذه الدلالة التي تطرب لها عقول الرجال، يقول ذو العزة والجلال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14]، فذكر هنا نوعين من أنواع الخوف:

الأول منهما: (لمن خاف مقامي)، والمصدر هنا إما أنه مضاف إلى الفاعل أو إلى المفعول، وعلى الأمرين في ذلك دلالة على بحثنا ألا وهو أن الخوف من الله إجلالاً له وتعظيماً هو أعلى أنواع الخوف، ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي [إبراهيم:14].

فالأمر الأول: إضافته إلى الفاعل، أي: لمن خاف قيام الله عليه بالاطلاع، والمراقبة، والإحاطة، والقهر، والسيطرة، فأنت في قبضته، وجميع من في هذا الكون من عرشه إلى فرشه تحت حكم الله جل وعلا.

والأمر الثاني: إضافته إلى المفعول، أي: إلى من خاف قيامه بين يدي الله في هذه الحياة وبعد الممات، فعلم أنه فقير محتاج إلى الله في جميع الأوقات، وقدم الخوف منه إجلالاً له على الخوف من وعيده وعقابه وناره: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].

الطريقة الموصلة إلى الخوف من الله إجلالاً وتعظيماً له

إخوتي الكرام! إن الخوف من الله إجلالاً وتعظيماً هو أجل أنواع الخوف على الإطلاق، ويحصل هذا النوع في نفس الإنسان عندما يعرف الإنسان الصلة الحقيقية بينه وبين ربه الرحمن، فأنت فقير والله غني، وأنت ضعيف والله قوي، وأنت ذليل والله جل وعلا جليل، وأنت لا تقوم بنفسك ومحتاج إلى ربك في جميع أحوالك والله هو الغني الحميد، فهذا أجل أنواع الخوف، ويترتب على معرفتك بنفسك معرفتك بربك، ولذلك قال أئمتنا الكرام: من عرف نفسه عرف ربه، والأثر روي عن العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي ، الذي توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة، وهو من العلماء الربانيين الصالحين في هذه الأمة، وكان يقول: لا يزال العبد مقروناً بالتواني ما دام مقيماً على الأماني، ومن كلامه المحكم: عمل كالسراب -يعني: لا حقيقة له، ومشوب بالأخلاط والآفات- وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع بالكواعب الأتراب، والنظر إلى وجهه الكريم الوهاب، هيهات هيهات أنت سكران من غير شراب، ثم يقول: ما أجلّك لو بادرت أجلك! ما أقواك لو خالفت هواك!

يقول هذا العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي عليه وعلى جميع أئمتنا رحمات ربنا، وهو صاحب هذه الحكمة: من عرف نفسه عرف ربه. وليس هذا بحديث ينسب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام كما توهم ذلك بعض الأنام، وقد حقق أئمتنا الكرام هذا القول وبينوا أنه ينسب إلى هذا العبد الصالح، منهم شيخ الإسلام الإمام النووي في فتاواه المشهورة، ومنهم أيضاً الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ومنهم ابن قيم الجوزية في الجزء الأول صفحة سبع وعشرين وأربعمائة من مدارج السالكين.

والإمام السيوطي ألف رسالةً حول هذا الأثر عن هذا العبد الصالح سماها القول الأشبه في بيان معنى حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه.

وقد ذكر الإمام السيوطي عشرة أوجه في شرح هذا الأثر، وضبطها الإمام ابن القيم عليهم جميعاً رحمة الله إلى ثلاثة معان، خلاصتها:

أن معنى هذا الأثر إما أن يكون من باب الضدية، أو الأولوية، أو النفي:

أما الضدية: فمن عرف نفسه بصفات النقص والفقر والاحتياج عرف ربه بضد ذلك، فإذا عرفت أنك فقير ضعيف محتاج ذليل عرفت أن الله جل وعلا بخلاف ذلك، فمن عرف نفسه عرف ربه.

وأما من باب الأولوية فمن عرف أنه يتصف بحياة وعلم وقدرة ورحمة وغير ذلك من صفات الكمال التي تناسب حاله وهي محفوفة بالنقص علم يقيناً أن الله يتصف بذلك الكمال من باب أولى، فالذي منحك حياةً ناقصةً فيه حياة كاملة، والذي منحك علماً قليلاً هو بكل شيء عليم.

وأما من باب النفي، فكما أنه لا يمكن أن تقف على حقيقة نفسك وإدراك كنه روحك فلن تقف على إدراك حقيقة ربك جل وعلا، فالله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. فإذا كنت تعجز عن إدراك حقيقة الروح وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] ، فأنت أعجز وأعجز عن إدراك حقيقة الرب جل وعلا، وما لك إلا أن تؤمن بما أخبرنا الله جل وعلا عن صفاته وأن تمره حسب ما يليق بذاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

إذاً: فالذي يحقق معرفة الصلة بين الخالق والمخلوق سيخاف من الخالق ويجله ويعظمه وهذا هو خوف الإجلال، وهذا هو خوف التعظيم، لا لتفريط فيك، ولا لانتظار خاتمة ستقابلك وتلاقيك لا، إنما أنت تجل الله وتعظمه؛ لأنه إله عظيم يستحق من عباده أن يجلوه وأن يخافوه وأن يهابوه وأن يعظموه في كل حين: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].

الخوف من الله تعظيماً وإجلالاً هو أعلى أنواع الخوف، وقد أمرنا الله بأن نخاف نفسه، وأن نخشاه حق خشيته في آيات كثيرة من القرآن، فقال جل وعلا في سورة آل عمران: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] ، لا طمعاً في ثوابه، ولا خشيةً من عقابه، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:28-30].

إن هذا الخوف هو أجل وأعلى وأرفع أنواع الخوف، وقد أشار إلى هذه المرتبة في خوف الله جل وعلا الخوف منه لتعظيمه وإجلاله أئمتنا الكرام، كما قال العبد الصالح ذو النون المصري وهو ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض ، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين للهجرة، من العلماء الربانيين الكرام، وكان مجاب الدعوة، ولما توفي عليه رحمة الله أظلت الطير جنازته حتى دفن، ومن كلامه العذب المحكم أنه كان يقول: من تطأطأ لقي رطباً، ومن تعالى لقي عطباً، أي: من تطأطأ وتواضع في هذه الحياة لقي رطباً، والرطب يجنيها الإنسان عندما يلتقطها من الأرض، ومن تعالى وشمخ بأنفه لقي عطباً.

ومن كلامه المحكم الذي تناقله أئمتنا عنه، وأكثروا من ذكره، ومن اللهج به، وخاصة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية ، وتلميذه ابن قيم الجوزية عليهم رحمات رب البرية، كان يقول هذا العبد الصالح: والله ما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله وبمحبته، وما طابت الآخرة إلا بمغفرة الله ورحمته، وما طابت الجنة إلا برؤية الله ومشاهدته.

ويقول هذا العبد الصالح ذو النون مشيراً إلى هذه المرتبة من أنواع خوف المكلفين من رب العالمين، خوفهم إجلالاً له وتعظيمه، يقول: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي.

ويريد بذلك رحمه الله: أن الرجال الكاملين يخشون من فراق رب العالمين، ومن غضبه عليهم أضعاف أضعاف ما يخشونه من نار الجحيم، قال: الخوف من النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].

إخوتي الكرام! إن هذه المرتبة هي أجل أنواع الخوف، أن تخاف من الله إجلالاً له وتعظيماً له، وهكذا أن تعبده؛ لأنه إله عظيم يستحق العبادة سواء أمرك بالعبادة أو لا، وسواء سيثيبك على العبادة أو لا، وسواء نهاك عن مخالفته أو لا، وسواء سيعذبك على المخالفة أو لا، أنت تطيعه وتعبده؛ لأنه إله عظيم، فتقوم بحقوق ربك عليك في كل حين، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] ، وإذا ما أمرنا الله بعبادته هل يصلح منا أن نتخلى عنه، وألا نلجأ إليه؟ وإذا ما جعل الله في الآخرة جنةً ولا ناراً هل يصلح منا أن نبتعد عنه؟

هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحق عبادة رب الورى الأكرم

أليس من الواجب المستحق الحياء من الرب المنعم

هب أنه ليس هناك بعث، وليس هناك نار تضطرم يوم القيامة وتغلي وتفور أليس من حق الله علينا أن نعبده، وأن نعظمه، وأن نجله، وأن نستحي منه؟ بلى وعزة ربنا.

وهذا المعنى قرره أئمتنا الكرام، وانظروه موسعاً إخوتي الكرام في كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة، للإمام ابن القيم في الجزء الثاني صفحة ثمان وثمانين وما بعدها، وانظروه في مجموع فتاوى شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في المجلد السادس عشر صفحة ثلاث وخمسين ومائتين وما بعدها.

فهذا هو أجل أنواع الخوف، فعبادة الله تعظيماً له تعد أعلى أنواع العبادات؛ والسبب في ذلك: أن من يخاف من الله إجلالاً له فقد أعطى الرب حقه، وقام بما ينبغي أن يقوم به العبد نحو سيده.

والأمر الثاني: أن من عبد الله جل وعلا تعظيماً له وخافه إجلالاً له ما جعل الله وسيلةً لمنفعته ولشهواته ولتنعمه وللذاته، إنما عبد الله لأنه إله عظيم يستحق منا العبادة في كل حين؛ وكونه تكرم علينا بعد ذلك بجنات النعيم فهذا زيادة إحسان وفضل منه كما أغدق علينا نعمه في هذه الحياة فضلاً منه وكرماً، دون استحقاق للمخلوقات على خالقها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] .

والأمر الثالث: أن من عبد الله إجلالاً له، ومن خافه تعظيماً له لا ينقطع عن العبادة ولا يفتر عن الخوف، وإن حصل مطلوبه، وإن أسقط الله عنه الأمر والنهي، وإن وإن... فهو يقول: أنا عبد وسيدي رب، ولا يصلح للعبد إلا أن يخاف من الله وأن يتذلل له سبحانه وتعالى.

إخوتي الكرام!

إذاً: هذا هو أجل أنواع الخوف، وقد أشار الله إليه في آيات القرآن، وقدمه على الخوف من وعيده ومن النيران، فقال جل وعلا في سورة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، والآية في ثمرات الخوف، ولكن انتبهوا لهذه الدلالة التي تطرب لها عقول الرجال، يقول ذو العزة والجلال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14]، فذكر هنا نوعين من أنواع الخوف:

الأول منهما: (لمن خاف مقامي)، والمصدر هنا إما أنه مضاف إلى الفاعل أو إلى المفعول، وعلى الأمرين في ذلك دلالة على بحثنا ألا وهو أن الخوف من الله إجلالاً له وتعظيماً هو أعلى أنواع الخوف، ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي [إبراهيم:14].

فالأمر الأول: إضافته إلى الفاعل، أي: لمن خاف قيام الله عليه بالاطلاع، والمراقبة، والإحاطة، والقهر، والسيطرة، فأنت في قبضته، وجميع من في هذا الكون من عرشه إلى فرشه تحت حكم الله جل وعلا.

والأمر الثاني: إضافته إلى المفعول، أي: إلى من خاف قيامه بين يدي الله في هذه الحياة وبعد الممات، فعلم أنه فقير محتاج إلى الله في جميع الأوقات، وقدم الخوف منه إجلالاً له على الخوف من وعيده وعقابه وناره: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
المرابطون في بيوت الله [1] - صفات الرجال 3493 استماع
المرابطون في بيوت الله [7] - الخشوع في الصلاة 3052 استماع
المرابطون في بيوت الله [5] - الزهد في الدنيا وطلب الآخرة 2894 استماع
المرابطون في بيوت الله [14] - التفريط في جنب الله في باب المأمورات 2769 استماع
المرابطون في بيوت الله [9] - تعريف الخوف ومنزلته 2745 استماع
المرابطون في بيوت الله [13] - الخوف والرجاء في حياة المؤمنين 2708 استماع
المرابطون في بيوت الله [3] - شروط خروج المرأة إلى بيت الله 2637 استماع
المرابطون في بيوت الله [2] - صفة خروج المرأة إلى بيت الله 2633 استماع
المرابطون في بيوت الله [6] - فضل الصلاة وذكر الله 2437 استماع
المرابطون في بيوت الله [8] - فرضية الزكاة 2402 استماع