شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 290-293


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

ففي هذه الليلة عندنا درس لا يخلو من تداخل, أو وجود مسائل كثيرة ومتنوعة فيه, ولذلك أستميحكم العذر أن نتجاوز درس الأسبوع الماضي, فلا نتناقش فيه الآن، على أمل أنه إن بقي وقت في آخر الدرس ممكن أن نعود إليه, وإذا وجدنا ما يدعو إلى تغيير روتين الدرس لإزالة الملل عن الإخوة فعلنا إن شاء الله تعالى، لكنني أذكر بعض الفوائد التي خطرت لي خلال هذا الأسبوع, وهي تتعلق بدرس الأسبوع الماضي، وربما لم أكن اطلعت عليها، والفضل بعد الله عز وجل يعود لبعض الإخوة في تذكيري بها، أو ببعضها على الأقل.

فمن الفوائد التي تقيد: أنني ذكرت في الأسبوع الماضي: أن جهر عمر رضي الله عنه بدعاء الاستفتاح: ( سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك, وتعالى جدك, ولا إله غيرك ) أنه جاء عند الطحاوي بسند صحيح, عن عمرو بن ميمون، قال: [ صلى بنا عمر بـذي الحليفة ]. ووجدت بعد ذلك أنه قد رواه أيضاً ابن أبي شيبة والدارقطني والحاكم والبيهقي من طرق متعددة عن الأسود بن يزيد عن عمر رضي الله عنه، وإسناده صحيح, صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً الدارقطني، فهذا يضاف .

الفائدة الثانية: أن ابن منده في كتاب التوحيد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أحب الكلام إلى الله: سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك, وتعالى جدك, ولا إله غيرك ). قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل : وإسناده صحيح.

الفائدة الثالثة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى في الجزء الثاني والعشرين، والصفحة تقريباً ثلاثمائة وخمسة وتسعين بعد كلام طويل، قال: (أفضل أنواع الاستفتاح ما كان ثناءً محضاً, مثل: ( سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك, وتعالى جدك ). قال: ولهذا كان أكثر السلف يستفتحون به، وكان عمر رضي الله عنه يجهر به يعلمه الناس, ثم قال: وبعده النوع الثاني, وهو الخبر عن عبادة العبد، كقوله: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين )، إلى آخره. ثم قال - وهذا موضوع الفائدة-: وإن استفتح العبد بهذا بعد ذلك) يعني: جمع بينهما، فبدأ بقوله: ( سبحانك اللهم وبحمدك )، وثنى بقوله: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين ).

قال: (وإن استفتح العبد بهذا بعد ذلك فقد جمع بين الأنواع الثلاثة، وهو أفضل الاستفتاحات)، وكأنه يعني رحمه الله بالأنواع الثلاثة فيما ظهر لي: أنه جمع بين الثناء والدعاء والإخبار عن عبادته لله عز وجل، جمع بين الثناء والدعاء والإخبار عن العبادة؛ لأن فيه ثناء بقوله: ( سبحاك اللهم وبحمدك ).. إلى آخره، وفيه إخبار عن عبادته بقوله: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ), وفيه دعاء بقوله: ( اللهم اهدني لأحسن الأخلاق ).. إلى آخره. فكأنه يعني هذا، والله أعلم.

يقول: فقد جمع بين الأنواع الثلاثة، وهو أفضل الاستفتاحات, كما جاء ذلك في حديث مصرح به, قال: وهو اختيار أبي يوسف وابن هبيرة الوزير صاحب الإفصاح من أصحاب الإمام أحمد، قال: [ وهكذا أستفتح أنا ]. فكأنه رحمه الله كان يجمع بين هذين الاستفتاحين، وإن كان الأصل في الاستفاحات كما أسلفت أنها من العبادات المتنوعة, التي يناسب العبد أن يقول هذا تارة وهذا تارة, لكن لو جمع العبد بين نوعين منها، لا نقول: إن هذا بدعة، وإنه مخالف للشرع، أو إنه لا يجوز.

أما أحاديث اليوم فعندنا أولاً: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير, والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك, وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وإذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يقول في كل ركعتين التحية, وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعية افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم ).

تخريج الحديث

قال المصنف: أخرجه مسلم، وله علة, فهذا هو الحديث الأول من حصة هذا المجلس, والحديث رواه مسلم كما أشار المصنف في كتاب الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به وما يختم به.. إلى آخر الباب، الباب طويل، المهم باب: ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به وما يختم به، وذلك لأن عائشة رضي الله عنها ذكرت الاستفتاح بقولها: ( يفتتح الصلاة بالتكبير )، وذكرت الختام بقولها: ( وكان يختم الصلاة بالتسليم )، وذكرت ما بين ذلك من أحوال المصلي، فهذا هو الموضع الذي أخرجه فيه مسلم رحمه الله تعالى، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها.

أخرجه مسلم من طريق أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها, وانفرد بإخراجه عن البخاري، ولذلك يعد من أوهام صاحب العمدة، عمدة الأحكام، من هو صاحب عمدة الأحكام ؟ المقدسي، يعد من أوهامه، أنه ساق هذا الحديث في عمدة الأحكام، طيب، وما وجه الوهم؟ لماذا عدينا هذا من أوهامه؟ لأنه شرط ألا يخرج في كتاب العمدة إلا المتفق عليه، ما رواه البخاري ومسلم، وهذا الحديث قد انفرد به مسلم رحمه الله تعالى عن البخاري.

وقد رواه غير مسلم أيضاً، فممن رواه أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم، وأبو داود، وأحمد في مسنده , وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسي في مسنده أيضاً، والبيهقي في سننه .. وغيرهم. ذكرت أن الحديث من رواية أبي الجوزاء عن عائشة، هل تذكرون أن هذا الإسناد مر معنا؟ أبو الجوزاء عن عائشة؟ أين هذا جاء؟ في أي حديث أبو الجوزاء عن عائشة ؟ أنت أصبت الآن، تقول: أبو الجوزاء لم يسمع من عائشة، هذا صحيح، لكن أين مر الكلام هذا معنا؟ مر معنا في شواهد حديث أبي سعيد في دعاء الاستفتاح، في قوله: ( سبحانك اللهم وبحمدك ) أنه روي عن عائشة هذا الدعاء, ولكنه من طريق أبي الجوزاء عن عائشة , ولذلك أعله المصنف وهو الحافظ ابن حجر في كتاب التلخيص بالانقطاع, فقال: رجاله ثقات, ولكنّ فيه انقطاعاً، فأعله بالانقطاع، ولذلك قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتاب الإنصاف فيما بين العلماء من الخلاف قال عن هذا الحديث: رجال إسناده ثقات، ولكنهم يقولون -يعني: أهل الحديث وأصحاب الحديث:- أبو الجوزاء لا يعرف له سماع من عائشة رضي الله عنها, فحديثه عنها فيه إرسال، أي: أنه مرسل منقطع فيما بين أبي الجوزاء وعائشة رضي الله عنها، ولذلك أيضاً قال البخاري رحمه الله في ترجمته لـأبي الجوزاء , واسم أبي الجوزاء ما هو؟ يعرفه أحد منكم؟ اسم أبي الجوزاء ؟ الذي أذكره أن اسمه أوس بن عبد الله , ويتأكد منه، اسمه أوس بن عبد الله، وكنيته أبو الجوزاء، وهو مشهور بكنيته، فـالبخاري رحمه الله لما ترجمه قال: في إسناده نظر، يعني: في إسناد أبي الجوزاء، وفسر الحافظ ابن حجر في كتابه تهذيب التهذيب كلام البخاري هذا حين قال: في إسناده نظر، بقوله: يعني أن أبا الجوزاء لم يسمع من مثل ابن مسعود رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، لا أن أبا الجوزاء ضعيف.

إذاً: قول البخاري : في إسناده نظر. يعنى: في إسناد أبي الجوزاء كما في روايته عن ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما, وهكذا ابن حجر في التلخيص كما أسلفت قبل قليل أعل حديث الاستفتاح بانقطاعه بين أبي الجوزاء وعائشة , ومما يؤكد أن الإسناد هنا منقطع بين أبي الجوزاء وعائشة، أن جعفر الفريابي في كتاب الصلاة له ذكر الحديث بإسناده عن أبي الجوزاء قال: ( أرسلت رسولاً إلى عائشة

يسألها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ) .. إلى آخر الحديث.

فدل إذاً على أن بين أبي الجوزاء وبين عائشة رجلاً مجهولاً، وهو هذا الرسول الذي بعثه أبو الجوزاء إلى عائشة رضي الله عنها, وعلى كل حال علة هذا الحديث مشهورة, وقد تكلم فيها أهل العلم كثيراً، وإخراج مسلم له في صحيحه يقتضي أنه عنده صحيح، وكذلك إخراج أبي عوانة له في مستخرجه يقتضي بظاهره أنه عنده صحيح، واجتهادهم يكون في مقابلة اجتهاد غيرهم، خاصة وأن للحديث شواهد كثيرة لجميع فقراته, فما من فقرة من فقرات الحديث إلا وله شواهد ثابتة، فأقل أحوال الحديث أن يكون حسناً لغيره، ولعل هذا هو الحكم الصحيح على الحديث أنه حسن لغيره, والشيخ الألباني في إرواء الغليل وفي سواه قال عنه: صحيح, وهذا - يعني- لا يخلو من تسامح, فإن نقل الحديث من الضعف والانقطاع إلى الصحة بالشواهد أمر غير معروف عند علماء الحديث، وعلماء المصطلح, وأحسن أحواله أن يقولوا: حسن، فهذا نقول: إنه إن شاء الله تعالى حسن لغيره، نقول: حديث عائشة: حسن لغيره.

معاني ألفاظ الحديث

قولها رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين )، أي: ويستفتح القراءة، ومقصودها بالقراءة قراءة القرآن, يستفتحها بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والحمد هنا مرفوع على الحكاية كما يقولون, فتقول: بالحمد لله رب العالمين, فلا تؤثر الباء فيها؛ لأنها حكاية عن قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وهذا اسم لسورة الفاتحة، هذا قوله: (الحمد لله رب العالمين) اسم لسورة الفاتحة، كما تسمى أيضاً الحمد، وهذا معروف عند الناس, يقول: هل حفظت سورة الحمد؟ يعني: الفاتحة.

طيب هل تحفظ حديثاً فيه تسمية الفاتحة بالحمد لله رب العالمين؛ لأنه قد يشكل على ذلك أنه قد يقول قائل: لا, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هنا ليس اسماً للسورة, وإنما هو نص على الآية الأولى من السورة، فكأن عائشة رضي الله عنها تقول: ويستفتح القراءة بالآية الأولى من سورة الفاتحة, وهي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]. فنحن قلنا: إن قولها: والقراءة بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] اسم لسورة الفاتحة, فهل تحفظ حديثاً يدل على أن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] اسم للفاتحة؟

نعم, حديث البخاري , وسبق في غير موضع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته ). فدل على أن السورة تسمى: الحمد، وتسمى: الحمد لله رب العالمين, وتسمى: الفاتحة، ولها أسماء أخرى سبقت.

وقولها: ( وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه ) لم يشخص رأسه يعني: لم يرفعه، من شخص إذا ارتفع، ومنه يسمى الشاخص, وهو الشيء المرتفع، ومنه أيضاً يسمى الإنسان شخصاً؛ لأنه يظهر ويرتفع للأبصار، ومنه يقال: شخص بصره إذا ارتفع إلى السماء.

فقولها: (لم يشخص رأسه) يعني: لم يرفع رأسه أثناء الركوع.

(ولم يصوبه) بضم الياء وفتح الصاد وتشديد الواو المكسورة, أي: لم ينزله، وإنما بين ذلك، فيكون رأسه مساوياً لظهره عند الركوع.

وقولها: ( وكان يقول في كل ركعتين التحية )، التحية هي: التحيات لله والصلوات والطيبات.. إلى آخره، وسمت التشهد بالتحية من باب تسمية الكل باسم الجزء, من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل, فهي تعني بالتحية: التشهد.

وقولها: ( في كل ركعتين ) هذا إما أن يكون مقصودها الفرض، وحينئذ لا إشكال، ففي الصلاة الرباعية فيها تشهدان, وفي الثنائية فيها تشهد واحد، وإن كان مقصودها الإطلاق في الفرض والنفل، فيكون هذا على سبيل الغالب، وإلا فهناك صلاة لا تقال فيها التحية في كل ركعتين, وهي أنه إذا جمع صلاة الليل، صلاة الوتر إذا جمعها في خمس أو سبع أو تسع فإنه قد يسردها سرداً, ولا يقول في كل ركعتين التحية, وهذا جاء في الصحيح من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فإن أرادت الفرض فلا إشكال، وإن أرادت النفل فإنه يحمل على الغالب.

قولها: ( وكان ينهى عن عقبة الشيطان )، عقبة الشيطان ضبطت بوجهين، الوجه الأول: عقبة بضم العين وسكون القاف وفتح الباء، عُقْبَة.

الوجه الثاني: وهو في صحيح مسلم أيضاً في رواية أخرى: ( وكان ينهى عن عقب الشيطان )، بفتح العين وكسر القاف، ( عن عقب الشيطان ).

هذان وجهان مشهوران في ضبط اللفظ، لكن هناك وجه ثالث ذكره بعضهم واستضعفوه, وهو قوله: ( وكان ينهى عن عُقَب الشيطان )، بضم العين وفتح القاف، ويكون حينئذ جمع عقبة.

ما هي (عقبة الشيطان)؟

هذا فيه إشكال, فقد فسره أهل العلم بأكثر من تفسير, ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم عن أبي عبيد وأبي عبيدة وجماعة من أهل اللغة: أن عقبة الشيطان هي أن يقعد الإنسان على مقعدته على الأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض أيضاً, فقال: إن هذا عقبة الشيطان, فيما نسبه إلى أبي عبيد وأبي عبيدة وآخرين، وعلى هذا تكون عقبة الشيطان على هذا الوصف، مرادفة لتفسير العلماء للإقعاء؛ لأن العلماء أو كثير من علماء اللغة فسروا الإقعاء بالتفسير نفسه، فقالوا: الإقعاء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يقعد الإنسان على مقعدته، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض, نعم، واحد يطبق لنا هذا الإقعاء الذي فسر بعضهم عقبة الشيطان به. نعم يا أخ محمد! لا, هنا أحسن.

نعم, هذا الإقعاء المنهي عنه في الصلاة، وهذه عقبة الشيطان، هذا هو المعنى الأول لعقبة الشيطان، والنووي نقله عن أبي عبيد وأبي عبيدة وجماعة من أئمة اللغة، هذا التفسير الأول، وكون هذه الجلسة منهياً عنها هذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال عندي والله أعلم في كوننا نسمي هذه الجلسة عقبة الشيطان, ما علاقتها بعقبة الشيطان؟ لماذا سميت بعقبة الشيطان؟ هذا فيه نظر كبير، فهي إقعاء لا شك فيه، منهي عنها بلا شك، بل نقل النووي اتفاق العلماء على النهي عنه، قال: منهي عنها على هذا التفسير باتفاق العلماء، لكن كوننا فسرنا عقبة الشيطان بهذا، هذا في النفس منه شيء، على كل حال هذا التفسير الأول، وقد نسبة النووي لـأبي عبيد وأبي عبيدة وبعض أهل اللغة.

التفسير الثاني لعقبة الشيطان: هو أن عقبة الشيطان أن يجلس الإنسان بين السجدتين على عقبيه، أن يجعل الإنسان مقعدته بين السجدتين على عقبيه, وهذا يتصور بأكثر من صورة، منها: أن ينصب قدميه ويقعد فوقهما.

هذا هو التفسير الثاني لعقبة الشيطان, أن يجلس بين السجدتين على عقبيه، أن يجعل مقعدته بين السجدتين على عقبيه، وهذا هو التفسير المعروف عند أهل الحديث، يعني: أهل الحديث إذا قالوا: الإقعاء فسروه بهذا، فـأبو عبيد قبل قليل نقلت لكم عن النووي أنه فسر عقبة الشيطان بالأول، الواقع رجعت إلى كتاب غريب الحديث لـأبي عبيد وهو مطبوع، في الجزء الأول (ص:210)، وأذكر الجزء؛ لأن الكتاب غير مفهرس ولا مرتب، فيشق عليك الرجوع, لكن ممكن ترجع الآن لنتأكد من دقة الفهم أو عدمها، في الجزء الأول صفحة مائتين وعشرة، أبو عبيد فسر عقبة الشيطان بهذا، وكأنه مال إليه فيما فهمته، وفيها ظهر لي, وليس بالأول الذي نقله النووي، ففسر عقبة الشيطان بما يفهمه أهل الحديث من الإقعاء, وهو أن يجلس بين السجدتين على عقبيه، وهذا أيضاً يسمى: إقعاء، ولذلك جاء في صحيح مسلم عن طاوس : ( أنه سأل ابن عباس

عن الإقعاء في الصلاة فقال له ابن عباس

رضي الله عنه: تلك السنة. فقال طاوس

: إنا لنراه جفاء بالرجل أن يفعل هذا - وقرأها ابن عبد البر

وغيره بالرجِل- فقال ابن عباس

رضي الله عنه: سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم
). وهذه الجلسة التي طبقها الأخ: وهي أن ينصب القدمين، ويقعد بين السجدتين فوقهما, أن ينصب قدميه ويقعد فوقهما، وهذه الجلسة بين السجدتين نص الشافعي رحمه الله على أنها مستحبة؛ لحديث ابن عباس الذي ذكرته الآن, وهو في صحيح مسلم قال: ( تلك السنة ). وحمل جماعة من العلماء المحققين الحديث عليها كالقاضي عياض والبيهقي والنووي .. وغيرهم، حملوا الحديث عليها، وقال القاضي : إن هذا الذي هو حديث ابن عباس نصب القدمين والقعود عليهما إنه روي عن جماعة من الصحابة والتابعين, بل نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (إن من السنة أن تمس عقبيك إلييك)، يعني: في الجلوس بين السجدتين، وما دام صح الحديث حديث ابن عباس في أن الإقعاء هو نصب القدمين والقعود فوقهما أنه من السنة, والشافعي رحمه الله نص على استحبابه، ونقل عن جماعة من السلف، فنوفق بينه وبين أن السنة هي الافتراش، كما في حديث عائشة .. وغيره بين السجدتين، أن يقال: إن الغالب من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام بين السجدتين أنه يفرش اليسرى وينصب اليمنى. هذا الغالب, لكنه قد يفعل في بعض الأحيان أن ينصب القدمين ويجلس فوق العقبين، في الجلسة بين السجدتين فحسب, وليس في التشهد، هذا قد يفعل أحياناً، ولا بأس أن يفعله الإنسان في بعض الأحيان، اتباعاً لحديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

التفسير الثالث: وقد نقله جماعة من الفقهاء, منهم ابن دقيق العيد في كتابه إحكام الأحكام شرح العمدة، وابن رسلان في شرحه لسنن أبي داود .. وغيرهما من الشراح، قال: أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه، وهذا يسمى إقعاء أيضاً، فرش القدمين والجلوس على العقبين يحتمل أنه بدلاً من أن يوقف القدم وينصبها أنه يفرشها فرشاً, ويجلس على العقبين، وهذا في الواقع فيه مشقة كبيرة, إذا طبقته تجد فيه مشقة وصعوبة, وفيه احتمال أن يجعل القدمين مفروشتين, إما أن تكونا فوق بعض، أو بطريقة أخرى، ويجلس على أطراف العقبين في الجلسة بين السجدتين، فهذا أيضاً يعتبر من عقبة الشيطان، ولعله يدخل في التفسير الثاني.

فهذه ثلاثة أقوال فيه, وبعض العلماء فسروا عقبة الشيطان بتفسير آخر بعيداً عن الموضوع هذا كله، قالوا: إن المقصود بعقبة الشيطان -هذا ذكره أهل اللغة وغيرهم- قالوا: عقبة الشيطان هو أن الإنسان لا يغسل عقبيه في الوضوء، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم وحذر من الغفلة عن الأعقاب, وقال: ( ويل للأعقاب من النار ). وذلك لأن العقب قد يغفل عنه الإنسان, فلا يسبغ الوضوء, ولا يمرر الماء عليه، فلذلك نهى عن عقبة الشيطان، قالوا: أي أن يترك الإنسان عقبيه فلا يغسلهما.

فيتحصل بذلك أن عقبه الشيطان فسرت بأربعة تفسيرات, الأخير منها مستبعد، والأول كذلك مستبعد، لأنه لا وجه لتسميته بعقبة الشيطان، ويبقى التفسير الثاني والثالث, يمكن أن يجمع بينهما, فيقال: عقبة الشيطان - لاحظ التعريف-: هي أن يجلس الإنسان بين السجدتين على عقبيه، هذا التفسير المختار, يعني: بغض النظر عن شكل العقب كيف هو, قائماً، منصوباً, أو مفروشاً، المهم يجلس على العقبين, فيكون حينئذ النهي في حديث عائشة معارضاً للاستحباب في حديث ابن عباس، فبعضهم قالوا: إن حديث ابن عباس رضي الله عنه مقدم, وبعضهم قد يحمل هذا على حال، وهذا على حال أخرى، فيقول: إن النهي عن عقبة الشيطان في حديث الباب في غير الجلوس بين السجدتين, كالنهي عن عقبة الشيطان مثلاً في التشهد.. أو ما أشبه ذلك.

فوائد الحديث

في حديث عائشة فوائد، نمر عليها على عجل؛ لأن الحقيقة موضوعنا الأكبر هو ما بعد ذلك في الأحاديث الثلاثة الباقية.

فمن فوائد حديث عائشة رضي الله عنها: وجوب تكبيرة الإحرام, وعدها كثير من الفقهاء ركناً من أركان الصلاة, وهل لابد من أن يقول: الله أكبر، كما في قولها: ( يستفتح الصلاة بالتكبير )؟ الجمهور، نعم، لابد أن يقول: الله أكبر، أما أبو حنيفة فقال: يجزئه وتنعقد صلاته بكل لفظ من ألفاظ التعظيم, كالله أعظم أو الله أعلى أو الله أجل.. أو ما أشبه ذلك، والجمهور على خلافه، ووجوب الالتزام بالنص، نص التكبير: الله أكبر.

وكذلك وجوب قراءة الفاتحة؛ لقولها: (والقراءة بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]).

والفائدة الثالثة: عدم مشروعية الجهر بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، وذلك لقولها: (والقراءة بالحمد لله)، فدل على أنه لا يقول: بسم الله الرحمن الرحيم, وإلا لقالت: والقراءة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).

ومن فوائدها: بيان صفة الركوع, وأنه إذا ركع صلى الله عليه وسلم لم ينزل رأسه ولم يرفعه، ولكن يهصر ظهره، ويجعل رأسه مساوياً لظهره.

ومنها: وجوب الطمأنينة في الصلاة، كلها، وخاصة بعد القيام من الركوع، وبعد الرفع من السجود؛ وذلك لأنها نصت عليهما، وكذلك جاء النص عليهما في حديث أنس المتفق عليه قال: ( كان إذا رفع رأسه من الركوع قام، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود قعد، حتى يقول القائل: قد نسي ), يعني: من طول مكثه وبقائه.

ومنها: وجوب التشهدين في الصلاة؛ لقولها: (وكان يقول في كل ركعتين التحية)، وفيها خلاف كبير بين أهل العلم، لعله يأتي.

ومنها: أن الأصل في السنة في القعود للصلاة: الافتراش؛ لقولها: (وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى). ويستثنى من ذلك ما دل الدليل على خروجه, مثل: التورك في التشهد الأخير، ومثل: الإقعاء أحياناً بين السجدتين, كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه.

ومنها: النهي عن الجلوس على العقبين في مواضع في الصلاة, كما هي الحال بالنسبة للتشهد مثلاً, أو القعود على العقبين مفترشاً غير ناصب لهما, فهذا يدخل في عقبة الشيطان.

ومنها: النهي عن افتراش الذراعين في السجود. والنهي عنه لمعان:

أولها: أن فيه تشبهاً بالحيوانات, وقد نهينا عن التشبه بالحيوانات في سائر الهيئات، وخاصة هيئات العبادة؛ ولذلك قال: ( ونهى عن افتراش كافتراش الكلب ). وفي ذلك حديث حسن, إسناده جيد .

والمعنى الثاني: أن في فرش الذراعين دلالة على الكسل والخمول في الصلاة, وهو لا يليق بحال المصلي.

والمعنى الثالث: أن فيه إخلالاً بإعطاء كل عضو حقه من العبادة أثناء السجود.

ومن فوائده: وجوب التسليم في الصلاة؛ لقولها: (وكان يختم الصلاة بالتسليم)، وهل يجب تسليمه واحدة, أم لابد من تسليمتين، أم المشروع ثلاث تسليمات؟ في المسألة ثلاثة أقوال, وسيأتي شيء من ذلك.

قال المصنف: أخرجه مسلم، وله علة, فهذا هو الحديث الأول من حصة هذا المجلس, والحديث رواه مسلم كما أشار المصنف في كتاب الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به وما يختم به.. إلى آخر الباب، الباب طويل، المهم باب: ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به وما يختم به، وذلك لأن عائشة رضي الله عنها ذكرت الاستفتاح بقولها: ( يفتتح الصلاة بالتكبير )، وذكرت الختام بقولها: ( وكان يختم الصلاة بالتسليم )، وذكرت ما بين ذلك من أحوال المصلي، فهذا هو الموضع الذي أخرجه فيه مسلم رحمه الله تعالى، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها.

أخرجه مسلم من طريق أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها, وانفرد بإخراجه عن البخاري، ولذلك يعد من أوهام صاحب العمدة، عمدة الأحكام، من هو صاحب عمدة الأحكام ؟ المقدسي، يعد من أوهامه، أنه ساق هذا الحديث في عمدة الأحكام، طيب، وما وجه الوهم؟ لماذا عدينا هذا من أوهامه؟ لأنه شرط ألا يخرج في كتاب العمدة إلا المتفق عليه، ما رواه البخاري ومسلم، وهذا الحديث قد انفرد به مسلم رحمه الله تعالى عن البخاري.

وقد رواه غير مسلم أيضاً، فممن رواه أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم، وأبو داود، وأحمد في مسنده , وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسي في مسنده أيضاً، والبيهقي في سننه .. وغيرهم. ذكرت أن الحديث من رواية أبي الجوزاء عن عائشة، هل تذكرون أن هذا الإسناد مر معنا؟ أبو الجوزاء عن عائشة؟ أين هذا جاء؟ في أي حديث أبو الجوزاء عن عائشة ؟ أنت أصبت الآن، تقول: أبو الجوزاء لم يسمع من عائشة، هذا صحيح، لكن أين مر الكلام هذا معنا؟ مر معنا في شواهد حديث أبي سعيد في دعاء الاستفتاح، في قوله: ( سبحانك اللهم وبحمدك ) أنه روي عن عائشة هذا الدعاء, ولكنه من طريق أبي الجوزاء عن عائشة , ولذلك أعله المصنف وهو الحافظ ابن حجر في كتاب التلخيص بالانقطاع, فقال: رجاله ثقات, ولكنّ فيه انقطاعاً، فأعله بالانقطاع، ولذلك قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتاب الإنصاف فيما بين العلماء من الخلاف قال عن هذا الحديث: رجال إسناده ثقات، ولكنهم يقولون -يعني: أهل الحديث وأصحاب الحديث:- أبو الجوزاء لا يعرف له سماع من عائشة رضي الله عنها, فحديثه عنها فيه إرسال، أي: أنه مرسل منقطع فيما بين أبي الجوزاء وعائشة رضي الله عنها، ولذلك أيضاً قال البخاري رحمه الله في ترجمته لـأبي الجوزاء , واسم أبي الجوزاء ما هو؟ يعرفه أحد منكم؟ اسم أبي الجوزاء ؟ الذي أذكره أن اسمه أوس بن عبد الله , ويتأكد منه، اسمه أوس بن عبد الله، وكنيته أبو الجوزاء، وهو مشهور بكنيته، فـالبخاري رحمه الله لما ترجمه قال: في إسناده نظر، يعني: في إسناد أبي الجوزاء، وفسر الحافظ ابن حجر في كتابه تهذيب التهذيب كلام البخاري هذا حين قال: في إسناده نظر، بقوله: يعني أن أبا الجوزاء لم يسمع من مثل ابن مسعود رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، لا أن أبا الجوزاء ضعيف.

إذاً: قول البخاري : في إسناده نظر. يعنى: في إسناد أبي الجوزاء كما في روايته عن ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما, وهكذا ابن حجر في التلخيص كما أسلفت قبل قليل أعل حديث الاستفتاح بانقطاعه بين أبي الجوزاء وعائشة , ومما يؤكد أن الإسناد هنا منقطع بين أبي الجوزاء وعائشة، أن جعفر الفريابي في كتاب الصلاة له ذكر الحديث بإسناده عن أبي الجوزاء قال: ( أرسلت رسولاً إلى عائشة

يسألها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ) .. إلى آخر الحديث.

فدل إذاً على أن بين أبي الجوزاء وبين عائشة رجلاً مجهولاً، وهو هذا الرسول الذي بعثه أبو الجوزاء إلى عائشة رضي الله عنها, وعلى كل حال علة هذا الحديث مشهورة, وقد تكلم فيها أهل العلم كثيراً، وإخراج مسلم له في صحيحه يقتضي أنه عنده صحيح، وكذلك إخراج أبي عوانة له في مستخرجه يقتضي بظاهره أنه عنده صحيح، واجتهادهم يكون في مقابلة اجتهاد غيرهم، خاصة وأن للحديث شواهد كثيرة لجميع فقراته, فما من فقرة من فقرات الحديث إلا وله شواهد ثابتة، فأقل أحوال الحديث أن يكون حسناً لغيره، ولعل هذا هو الحكم الصحيح على الحديث أنه حسن لغيره, والشيخ الألباني في إرواء الغليل وفي سواه قال عنه: صحيح, وهذا - يعني- لا يخلو من تسامح, فإن نقل الحديث من الضعف والانقطاع إلى الصحة بالشواهد أمر غير معروف عند علماء الحديث، وعلماء المصطلح, وأحسن أحواله أن يقولوا: حسن، فهذا نقول: إنه إن شاء الله تعالى حسن لغيره، نقول: حديث عائشة: حسن لغيره.

قولها رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين )، أي: ويستفتح القراءة، ومقصودها بالقراءة قراءة القرآن, يستفتحها بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والحمد هنا مرفوع على الحكاية كما يقولون, فتقول: بالحمد لله رب العالمين, فلا تؤثر الباء فيها؛ لأنها حكاية عن قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وهذا اسم لسورة الفاتحة، هذا قوله: (الحمد لله رب العالمين) اسم لسورة الفاتحة، كما تسمى أيضاً الحمد، وهذا معروف عند الناس, يقول: هل حفظت سورة الحمد؟ يعني: الفاتحة.

طيب هل تحفظ حديثاً فيه تسمية الفاتحة بالحمد لله رب العالمين؛ لأنه قد يشكل على ذلك أنه قد يقول قائل: لا, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هنا ليس اسماً للسورة, وإنما هو نص على الآية الأولى من السورة، فكأن عائشة رضي الله عنها تقول: ويستفتح القراءة بالآية الأولى من سورة الفاتحة, وهي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]. فنحن قلنا: إن قولها: والقراءة بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] اسم لسورة الفاتحة, فهل تحفظ حديثاً يدل على أن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] اسم للفاتحة؟

نعم, حديث البخاري , وسبق في غير موضع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته ). فدل على أن السورة تسمى: الحمد، وتسمى: الحمد لله رب العالمين, وتسمى: الفاتحة، ولها أسماء أخرى سبقت.

وقولها: ( وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه ) لم يشخص رأسه يعني: لم يرفعه، من شخص إذا ارتفع، ومنه يسمى الشاخص, وهو الشيء المرتفع، ومنه أيضاً يسمى الإنسان شخصاً؛ لأنه يظهر ويرتفع للأبصار، ومنه يقال: شخص بصره إذا ارتفع إلى السماء.

فقولها: (لم يشخص رأسه) يعني: لم يرفع رأسه أثناء الركوع.

(ولم يصوبه) بضم الياء وفتح الصاد وتشديد الواو المكسورة, أي: لم ينزله، وإنما بين ذلك، فيكون رأسه مساوياً لظهره عند الركوع.

وقولها: ( وكان يقول في كل ركعتين التحية )، التحية هي: التحيات لله والصلوات والطيبات.. إلى آخره، وسمت التشهد بالتحية من باب تسمية الكل باسم الجزء, من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل, فهي تعني بالتحية: التشهد.

وقولها: ( في كل ركعتين ) هذا إما أن يكون مقصودها الفرض، وحينئذ لا إشكال، ففي الصلاة الرباعية فيها تشهدان, وفي الثنائية فيها تشهد واحد، وإن كان مقصودها الإطلاق في الفرض والنفل، فيكون هذا على سبيل الغالب، وإلا فهناك صلاة لا تقال فيها التحية في كل ركعتين, وهي أنه إذا جمع صلاة الليل، صلاة الوتر إذا جمعها في خمس أو سبع أو تسع فإنه قد يسردها سرداً, ولا يقول في كل ركعتين التحية, وهذا جاء في الصحيح من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فإن أرادت الفرض فلا إشكال، وإن أرادت النفل فإنه يحمل على الغالب.

قولها: ( وكان ينهى عن عقبة الشيطان )، عقبة الشيطان ضبطت بوجهين، الوجه الأول: عقبة بضم العين وسكون القاف وفتح الباء، عُقْبَة.

الوجه الثاني: وهو في صحيح مسلم أيضاً في رواية أخرى: ( وكان ينهى عن عقب الشيطان )، بفتح العين وكسر القاف، ( عن عقب الشيطان ).

هذان وجهان مشهوران في ضبط اللفظ، لكن هناك وجه ثالث ذكره بعضهم واستضعفوه, وهو قوله: ( وكان ينهى عن عُقَب الشيطان )، بضم العين وفتح القاف، ويكون حينئذ جمع عقبة.

ما هي (عقبة الشيطان)؟

هذا فيه إشكال, فقد فسره أهل العلم بأكثر من تفسير, ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم عن أبي عبيد وأبي عبيدة وجماعة من أهل اللغة: أن عقبة الشيطان هي أن يقعد الإنسان على مقعدته على الأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض أيضاً, فقال: إن هذا عقبة الشيطان, فيما نسبه إلى أبي عبيد وأبي عبيدة وآخرين، وعلى هذا تكون عقبة الشيطان على هذا الوصف، مرادفة لتفسير العلماء للإقعاء؛ لأن العلماء أو كثير من علماء اللغة فسروا الإقعاء بالتفسير نفسه، فقالوا: الإقعاء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يقعد الإنسان على مقعدته، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض, نعم، واحد يطبق لنا هذا الإقعاء الذي فسر بعضهم عقبة الشيطان به. نعم يا أخ محمد! لا, هنا أحسن.

نعم, هذا الإقعاء المنهي عنه في الصلاة، وهذه عقبة الشيطان، هذا هو المعنى الأول لعقبة الشيطان، والنووي نقله عن أبي عبيد وأبي عبيدة وجماعة من أئمة اللغة، هذا التفسير الأول، وكون هذه الجلسة منهياً عنها هذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال عندي والله أعلم في كوننا نسمي هذه الجلسة عقبة الشيطان, ما علاقتها بعقبة الشيطان؟ لماذا سميت بعقبة الشيطان؟ هذا فيه نظر كبير، فهي إقعاء لا شك فيه، منهي عنها بلا شك، بل نقل النووي اتفاق العلماء على النهي عنه، قال: منهي عنها على هذا التفسير باتفاق العلماء، لكن كوننا فسرنا عقبة الشيطان بهذا، هذا في النفس منه شيء، على كل حال هذا التفسير الأول، وقد نسبة النووي لـأبي عبيد وأبي عبيدة وبعض أهل اللغة.

التفسير الثاني لعقبة الشيطان: هو أن عقبة الشيطان أن يجلس الإنسان بين السجدتين على عقبيه، أن يجعل الإنسان مقعدته بين السجدتين على عقبيه, وهذا يتصور بأكثر من صورة، منها: أن ينصب قدميه ويقعد فوقهما.

هذا هو التفسير الثاني لعقبة الشيطان, أن يجلس بين السجدتين على عقبيه، أن يجعل مقعدته بين السجدتين على عقبيه، وهذا هو التفسير المعروف عند أهل الحديث، يعني: أهل الحديث إذا قالوا: الإقعاء فسروه بهذا، فـأبو عبيد قبل قليل نقلت لكم عن النووي أنه فسر عقبة الشيطان بالأول، الواقع رجعت إلى كتاب غريب الحديث لـأبي عبيد وهو مطبوع، في الجزء الأول (ص:210)، وأذكر الجزء؛ لأن الكتاب غير مفهرس ولا مرتب، فيشق عليك الرجوع, لكن ممكن ترجع الآن لنتأكد من دقة الفهم أو عدمها، في الجزء الأول صفحة مائتين وعشرة، أبو عبيد فسر عقبة الشيطان بهذا، وكأنه مال إليه فيما فهمته، وفيها ظهر لي, وليس بالأول الذي نقله النووي، ففسر عقبة الشيطان بما يفهمه أهل الحديث من الإقعاء, وهو أن يجلس بين السجدتين على عقبيه، وهذا أيضاً يسمى: إقعاء، ولذلك جاء في صحيح مسلم عن طاوس : ( أنه سأل ابن عباس

عن الإقعاء في الصلاة فقال له ابن عباس

رضي الله عنه: تلك السنة. فقال طاوس

: إنا لنراه جفاء بالرجل أن يفعل هذا - وقرأها ابن عبد البر

وغيره بالرجِل- فقال ابن عباس

رضي الله عنه: سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم
). وهذه الجلسة التي طبقها الأخ: وهي أن ينصب القدمين، ويقعد بين السجدتين فوقهما, أن ينصب قدميه ويقعد فوقهما، وهذه الجلسة بين السجدتين نص الشافعي رحمه الله على أنها مستحبة؛ لحديث ابن عباس الذي ذكرته الآن, وهو في صحيح مسلم قال: ( تلك السنة ). وحمل جماعة من العلماء المحققين الحديث عليها كالقاضي عياض والبيهقي والنووي .. وغيرهم، حملوا الحديث عليها، وقال القاضي : إن هذا الذي هو حديث ابن عباس نصب القدمين والقعود عليهما إنه روي عن جماعة من الصحابة والتابعين, بل نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (إن من السنة أن تمس عقبيك إلييك)، يعني: في الجلوس بين السجدتين، وما دام صح الحديث حديث ابن عباس في أن الإقعاء هو نصب القدمين والقعود فوقهما أنه من السنة, والشافعي رحمه الله نص على استحبابه، ونقل عن جماعة من السلف، فنوفق بينه وبين أن السنة هي الافتراش، كما في حديث عائشة .. وغيره بين السجدتين، أن يقال: إن الغالب من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام بين السجدتين أنه يفرش اليسرى وينصب اليمنى. هذا الغالب, لكنه قد يفعل في بعض الأحيان أن ينصب القدمين ويجلس فوق العقبين، في الجلسة بين السجدتين فحسب, وليس في التشهد، هذا قد يفعل أحياناً، ولا بأس أن يفعله الإنسان في بعض الأحيان، اتباعاً لحديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

التفسير الثالث: وقد نقله جماعة من الفقهاء, منهم ابن دقيق العيد في كتابه إحكام الأحكام شرح العمدة، وابن رسلان في شرحه لسنن أبي داود .. وغيرهما من الشراح، قال: أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه، وهذا يسمى إقعاء أيضاً، فرش القدمين والجلوس على العقبين يحتمل أنه بدلاً من أن يوقف القدم وينصبها أنه يفرشها فرشاً, ويجلس على العقبين، وهذا في الواقع فيه مشقة كبيرة, إذا طبقته تجد فيه مشقة وصعوبة, وفيه احتمال أن يجعل القدمين مفروشتين, إما أن تكونا فوق بعض، أو بطريقة أخرى، ويجلس على أطراف العقبين في الجلسة بين السجدتين، فهذا أيضاً يعتبر من عقبة الشيطان، ولعله يدخل في التفسير الثاني.

فهذه ثلاثة أقوال فيه, وبعض العلماء فسروا عقبة الشيطان بتفسير آخر بعيداً عن الموضوع هذا كله، قالوا: إن المقصود بعقبة الشيطان -هذا ذكره أهل اللغة وغيرهم- قالوا: عقبة الشيطان هو أن الإنسان لا يغسل عقبيه في الوضوء، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم وحذر من الغفلة عن الأعقاب, وقال: ( ويل للأعقاب من النار ). وذلك لأن العقب قد يغفل عنه الإنسان, فلا يسبغ الوضوء, ولا يمرر الماء عليه، فلذلك نهى عن عقبة الشيطان، قالوا: أي أن يترك الإنسان عقبيه فلا يغسلهما.

فيتحصل بذلك أن عقبه الشيطان فسرت بأربعة تفسيرات, الأخير منها مستبعد، والأول كذلك مستبعد، لأنه لا وجه لتسميته بعقبة الشيطان، ويبقى التفسير الثاني والثالث, يمكن أن يجمع بينهما, فيقال: عقبة الشيطان - لاحظ التعريف-: هي أن يجلس الإنسان بين السجدتين على عقبيه، هذا التفسير المختار, يعني: بغض النظر عن شكل العقب كيف هو, قائماً، منصوباً, أو مفروشاً، المهم يجلس على العقبين, فيكون حينئذ النهي في حديث عائشة معارضاً للاستحباب في حديث ابن عباس، فبعضهم قالوا: إن حديث ابن عباس رضي الله عنه مقدم, وبعضهم قد يحمل هذا على حال، وهذا على حال أخرى، فيقول: إن النهي عن عقبة الشيطان في حديث الباب في غير الجلوس بين السجدتين, كالنهي عن عقبة الشيطان مثلاً في التشهد.. أو ما أشبه ذلك.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4733 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4200 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4082 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4010 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3888 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3869 استماع