ما يطلبه المستمعون


الحلقة مفرغة

اليمين هي الحلف بأسماء الله أو صفاته، ولا يجوز الحلف بغير ذلك، سواء كان المحلوف به معظماً أو لم يكن كذلك، وهي على أقسام منها اليمين الغموس ولا كفارة فيها إلا التوبة النصوح والأوبة الصادقة ومنها اليمين المنعقدة التي تكون على أمر مستقبل فيجب فيها الوفاء فإن لم يف فالكفارة، ومنها اليمين غير المنعقدة التي تجري على لسان المرء عن غير قصد، فهذه لا إثم فيها ولا كفارة على صاحبها.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الأحبة في الله! أسأل الله جل وعلا أن يحرم وجوهكم على النار، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته ومستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ما أطيب هذه الليالي، وما أجمل هذه الأمسيات التي تزدان بهذه الوجوه المؤمنة الطاهرة، وتجتمع بهذه القلوب العبقة بالمحبة والمودة والأخوة في الله ولأجل الله، ما اجتمعتم على وترٍ ولا نغمٍ ولا عزفٍ ولا طربٍ ولا لهو، وإنما اجتمعتم على محبة وأخوة، تتلون كلام الله، وتسمعون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسائل يجاب، وضالٌ يهدى، وجاهل يعلم، ومستفيد يفيد، وهكذا مجالس المؤمنين.

إن هذه الساعة التي نجلسها -أيها الأحبة في الله- ستمر عليكم في هذا المخيم، وستمر على مخيماتٍ كثيرة سواء أكانت في جدة أو الرياض أو مكة أو في أي مدينة أو مكان، وستشهد تلك الساعات على أصحابها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فطوبى لعبدٍ جاهد نفسه حتى غابت شمس يومه بعملٍ صالحٍ يشهد له لا عليه، وهنيئاً لعبدٍ غلب شهواته وقاد نفسه إلى مرضاة ربه عز وجل حتى يلقى الله، وما أحقر وأصغر أقل أيام هذه الدنيا، وما هي إلا سويعات حتى نلقى الله جل وعلا.

قيل لإمام أهل السنة الجهبذ الجليل العظيم أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ! هلا ابتغينا لك حذاءً غير هذه فقد انقطع شسع نعلك، فقال أبو عبد الله: يا بني! طعامٌ دون طعام، وحذاءٌ دون حذاء، وشراب دون شراب، ولباس دون لباس، حتى نلقى الله جل وعلا. ولما سأله ولده وقد رأى ما حل به من العذاب في ثباته في المحنة بالقول بخلق القرآن، قال: يا أبت! أنت إمام السنة فمتى الراحة؟ فقال: يا بني! الراحة عند أول قدمٍ نضعها في الجنة.

أيها الأحبة: هذه مقدمة يسيرة وقصيرة، وهذا أوان الشروع في المقصود، فلقد اختار الإخوة عنواناً عجيباً غريباً، ولما قرأت الإعلان في أحد المساجد ضحكت كثيراً ودهشت كثيراً وعجبت كثيراً "ما يطلبه المستمعون" هذا برنامج يذاع بعد الظهر في الساعة الواحدة والنصف لعددٍ من الذين يطلبون عدداً من الأغاني والأغنيات، ويهدونها إلى الأصدقاء والصديقات والزملاء والزميلات، فلانة بمناسبة وضع مولودها، والأخرى بمناسبة إنجابها ابنتها، والثالث بمناسبة تخرجه من الكلية، والرابع بمناسبة عقد الخطوبة، والخامس بمناسبة شراء السيارة، والسادس بمناسبة بيع البيت، والسابع ....

القضية أيها الأحبة: أن ما يطلبه المستمعون موضوعٌ غريب وعجيبٌ جداً، ولكن لما قلبت النظر، وفكرت كثيراً؛ تذكرت أن عندي عدداً من الأسئلة التي طالما ضاق الوقت عن الإجابة عليها في نهاية وختام بعض المحاضرات، فأعود بأسئلتي في جعبتي وأقلب الأسئلة في البيت فإذ بي أجد في الأسئلة سائلاً يقول: أريد منك أن تسمعنا آيات من القرآن، وآخر يقول: نريد أن تسمعنا شيئاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة يرغب أن يسمع حديثاً كان له أثر في حياتي، وثالث يسأل عن موقف محرجٍ وغريب وعجيب، ورابع يسأل عن أبيات من أعذب الشعر، وخامس يسأل نصيحة معينة، فجمعت هذه الأسئلة فقلت: هذا ما يطلبه المستمعون!

نعم. إن ما تسمعونه اليوم هو مجموعة من الطلبات التي جمعتها في ختام كثيرٍ من المحاضرات التي ضاق الوقت عن الإجابة على كثيرٍ من الأسئلة في ختامها، ولأجل ذلك فاسمعوا واصبروا وأعانكم الله على ما تسمعون، ويكفيك من شرٍ سماعه.

أولاً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ * وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:76-90].

ثانياً: حديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم له أثر بالغ عظيم في نفسي وفي نفس كل مسلم، وأنتم من أحبابنا الذين يتأثرون بكلام الله ورسوله، ذلكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل وقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).

وحديث آخر عذب جميل من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم يرويه ابن ماجة في سننه ، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره، وفرق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له شمله، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) حديث عظيم يخاطب وينادي كل شاب أشغله أمر المستقبل، وأهمه أمر الرزق.

أخي الكريم: إن كنت على وجلٍ من الرزق فإن الرزق محتوم ومعلوم ومكتوب منذ كنت في بطن أمك، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله وشقي أم سعيد).

الرزق معلوم فلا تجزع، والرزق مقسوم فلن تمنع.

واعلموا -أيها الأحبة- أن من أصبح وهمه رضا الله والآخرة وما يرجو به وجه الله، فإن الله سيجمع له ما تشتت، وتأتيه الدنيا راغمة، ومن أصبح وهمه الدنيا فلن يأتيه أكثر مما قسم له، ويشتت عليه أمره ويصبح عبداً لهذه الدنيا وما كانت الدنيا يوماً راغمة.

ثالثاً: أيها الأحبة في الله! أيها الشاب الذي سمع كثيراً عن الملتزمين والمتدينين والصالحين، هؤلاء هم إخوانك تسمع منهم الآية فيخبتوا ويخضعوا ويخشعوا لسماعها، ويسمعون الحديث فيستنبطون فوائده ومسائله، وتسمع منهم الكلمة الطيبة وترى في مُحيَّاهم علامات البشر والسماحة، وترى البسمات المنطلقات بكل تواضع ولين ومحبة في الله ولله: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).

وإلى ذلك الشاب الذي أعرض ونأى بجانبه، إلى ذلك الشاب الذي قيل له: تعال فاسمع محاضرة قال: لا حاجة لي بهؤلاء المعقدين والموسوسين.

إلى ذلك الشاب الذي قيل له: تعال واسمع نصيحة واحضر مجلساً واقرأ كتاباً واكتب كلمة نافعة، قال: إني عنهم مشغول، ويدعي أنه في شغلٍ أهم من شغل الآخرة.

أيا من يدعي الفهـم     إلى كم يا أخا الوهم     تعبي الذنب والذم

وتخطي الخطأ الجم

أما بان لك العيب     أما أنذرك الشيب     وما في نصحـه ريب

ولا سمعك قد صم

أما نادى بـك الموت     أما أسمعك الصوت     أما تخشى من الفوت

فتحتاط وتهتم

فكم تسدر في السهو     وتختال من الزهو     وتَنْصَبُّ إلى اللهو

كأن الموت ما عم

وحتى مَ تجافيك     وإبطاء تلافيك     طباعاً جمعت فيك

عيوباً شملها انضم

إذا أسخطـت مولاك     فما تقلقُ من ذاك     وإن أخفق مسعاك

تلظيت من الهم

وإن لاح لك النقـش     من الأصفر تهتش     وإن مر بـك النعش

تغاممت ولا غم

تعاصي الناصـح البر     وتعتاص وتزور     وتنقاد لمن غر

ومن مان ومن نم

وتسعى في هوى النفس     وتحتال على الفلس     وتنسى ظلمـة الرمس

ولا تذكر ما ثم

ولو لاحظـك الحظ     لما طاح بك اللحظ     ولا كنت إذا الـوعظ

جلا الأحزان تغتم

ستذري الدم لا الدمع     إذا عاينت لا جمع     يقي في عرصة الجمع

ولا خال ولا عم

كأني بك تنحط     إلى اللحد وتنغط     وقـد أسلمك الرهط

إلى أضيق من سم

هناك الجسم ممدود     ليستأكله الدود     إلى أن ينخر العود

ويمسي العظم قد رم

ومن بعد فلا بد     من العرض إذا اعتد     صراطٌ جسره مد

على النار لمن أم

فكم من مرشـدٍ ضل     ومن ذي عزة ذل     وكم من عالمٍ زل

وقال الخطب قد طم

فبادر أيها الغمر     لما يحلو به المر     فقد كاد يهـي العمر

وما أقلعت عن ذم

ولا تركن إلى الدهـر     وإن لان وإن سر     فتلفى كمن اغتر

بأفعى تنفث السم

وخفـض من تراقيك     فإن الموت لاقيك     وسارٍ في تراقيك

وما ينكل إن هم

وجانب صعر الخد     إذا ساعدك الجد     وزم اللفظ إن ند

فما أسعد من زم

ونفس عن أخي البث     وصدقه إذا نث     ورم العمل الرث

فقد أفلح من رم

ورش من ريشه انحص     بما عم وما خص     ولا تأس على النقص

ولا تحرص على اللم

وعاد الخلق الـرذل     وعود كفك البذل     ولا تستمع العذل

ونزهها عن الضم

وزود نفسك الخير     ودع ما يعقب الضير     وهيئ ركب السير

وخف من لجة اليم

بذا أوصيك يا صـاح     وقد بحت كمن باح     فطوبى لفتى راح

بآدابي يأتم

أيها الشاب: لم تسمع في مجالس الخير إلا من هذه النصائح والمواعظ والفوائد.

المواعظ سياط القلوب تناديك لتخرجك من غفلة السادرين، ولتوقظك من سبات النائمين، فما الذي يحول بينك وبين التوبة، وما الذي يمنعك من الهداية، وما الذي يردك عن الاستجابة، وما الذي يردك أن تعود إلى الله فتنقلب إلى أهلك ضاحكاً مسروراً فرحاً بتوبتك، وتروح إلى ملاهيك وأشرطتك وما عندك من أمور اللهو فتنقض عليها جذاذاً ولا تدع منها شيئاً أبداً؛ توبة وعوداً ورجوعاً إلى الله جل وعلا.

لا تساوي بين الأعمى والبصير

أخي الكريم: هل تعرف الفرق بين المهتدين والضالين؟

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [الرعد:16]؟ أخي الكريم: ألم تسمع قول الله جل وعلا: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] حياة الصالحين في تهجد الليل أتكون كحياة الفاسقين في كئوس الخمر؟

حياة الذين يقرءون القرآن آناء الليل ساجدين قائمين يرجون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ويخشون سوء العاقبة، أتكون كمن يسدرون ويسهرون الليالي على قنواتٍ مختلفة ومحطاتٍ ما عرضت أمام أعينهم إلا الصور العارية، والمنكرات السارية، والأمور التي لا ترضي الله جل وعلا أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19] أيستوي ذلك الصالح مع الطالح؟! أيستوي الفاسق مع البر؟! أيستوي الطيب مع السيئ؟! قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]؟!

أخي الكريم: هل تعرف الهداية: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] هل يستوي من يمشي على صراطٍ مستقيم ومن هو منحرف عنه؟ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22].

أتظن أن الصالحين كالطالحين في حياتهم ومماتهم وليلهم ونهارهم؟!! أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] .. أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].

قل: سمعنا وأطعنا

أخي الكريم: إن أسلمت فقد اهتديت، وإن سلمت الأمر لربك فقد اهتديت، وإن قلت: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فقد اهتديت، وإن قلت: لا خيرة لي بعد أمرك يا رب وأمر رسولك صلى الله عليه وسلم فقد اهتديت.

وإن انصرفت ذات اليمين وذات الشمال وازور بك الأمر يمنة ويسرة فاعلم أنك على خطرٍ عظيم فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] .. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] من هم المهتدون؟ من هم الذين جاوزوا أطباق الثرى والثريا بمنة الله عليهم بهذه الهداية؟ المهتدون هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5] المهتدون الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].

فما أسباب هدايتهم؟ كيف اهتدوا؟ وكيف تميزوا؟ وكيف سادوا؟ وكيف سبقوا؟ وكيف نالوا؟ وكيف تقدموا؟

والله ما نالوا ذلك بمعادلاتٍ معقدة، ولا مشروبات عجيبة، ولا كبسولات غريبة، إنما نالوا الهداية بالطاعة، سمعوا قول الله فقالوا: سمعنا وأطعنا، سمعوا قول الله فقالوا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، ما اختاروا لأنفسهم خيرة بعد أمر الله، ما اختاروا أمراً بعد أمر الله، ما قالوا: نقلب أو نفكر أو ننظر نتوب أو لا نتوب، نقلع عن الذنوب أو لا نقلع، نعود عن المعصية أو لا نعود، أبداً وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

والله ما اختاروا شيئاً بعد أن سمعوا كلام الله وكلام رسوله، هكذا اهتدوا، وهكذا أصبحوا في عداد المهتدين.

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] .. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].

يا أيها الشاب! أتريد الهداية؟! ارم بنفسك بين يدي خالقك.

أتريد الهداية؟! اسجد نادماً، اخضع نادماً، ابك لله نادماً على ما فعلت، فإن ربك قريب ولا تحتاج توبته إلى اعترافٍ أو إلى قاضٍ أو إلى أحدٍ لتعترف بين يديه وإنما هي بينك وبين الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

والذين اهتدوا زادهم هدى

أيها الأحبة: ولما اهتدوا زادهم الله هدىً، أولئك الذين سلكوا طريق الهداية لما اهتدوا زادهم وآتاهم تقواهم، لقد نالوا الهداية بالانقياد وبالاستجابة وبقول: سمعنا وأطعنا وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

أما أولئك الذي ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، أما الذين ينهون عن الحق وينأون عنه، أما الذين لم يكفهم أن يحملوا ذنوبهم بل حملوا ذنوب غيرهم: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25] أولئك كيف ضلوا؟ وكيف ضاعوا؟ وكيف حادوا عن جادة الصراط؟ وكيف ضلوا عن سواء السبيل؟

لقد ضلوا يوم أن زين لهم الشيطان أعمالهم، قال الله عز وجل: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24] والشيطان لا يريد بهم خيراً لما زين لهم، ذلك كما قال الله: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:60].

نعم .. لقد ضلوا بجليسٍ دعاهم إلى المعصية، ودعاية زخرفت لهم المعصية، وخيالٍ خيل لهم المعصية، ثم جلسوا يتنادون يظنون أنهم في سعادة ولكن يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويسب بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

نعم. لهم قادة في الباطل فاتبعوهم، وجعلوا لهم رءوساً في الشر فانقادوا لهم، وحسبوا أنهم يهدونهم إلى صراطٍ وهم يضلونهم إلى سوء العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما ينفعهم قولهم يوم القيامة: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] ثم يدعون على من قادهم إلى الضلالة فيقولون: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:68].

أولئك مساكين قد غرهم كثيرٌ من الناس، وبعض الضالين إذا ناقشته في ضلاله وفي معصيته، قال لك: أكثر الناس هكذا، وأكثر الناس يفعلون هكذا، وهل الكثرة حجة؟ وهل العوام حجة؟ وهل الطغام حجة؟ وهل الفئام حجة؟ أوليس الله جل وعلا يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] لقد اتبعت الكثرة وما ذاك إلا لهوى في النفس، ومن تبع هواه فقد ضل والله جل وعلا يقول: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].

يا أخي الحبيب! إن طائفة من الشباب ضلوا باتباع سادة في الشر والباطل، وضلوا بسبب جلساء زينوا لهم المعاصي، وضلوا بسبب العناد والإمعان، وضلوا بسبب التكبر، بعضهم يتكبر على الحق والانقياد له، بعضهم يقول: وإذا التزمت أفأجلس مجالس هؤلاء الضعفاء أو أكون في زيهم وسمتهم، أو أحرم نفسي ما عودت نفسي عليه، لقد عود نفسه ألواناً من المنكرات ولا يريد أن يتركها، تكبر عن أمر الله وأمر رسوله.

والله جل وعلا توعد الذين يتكبرون عن الانقياد للحق بأن يصرف قلوبهم عنه، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146].

أولئك الذين أسرفوا في الضلالة فأضلهم الله: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34] ولما أعرضوا عن ذكر الله قيض لهم شيطاناً وهو قرين لهم يقودهم ويصدهم ويغريهم ويخادعهم ويقول لهم: إنكم على حق، وصدق الله حيث قال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:26-38].

أيها الأحبة: إن بعض الشباب الذين ضلوا وأمعنوا في الضلالة قست قلوبهم وطال عليهم الأمد، والله يناديهم فيقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

قال مالك بن دينار: ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب.

فيا أيها الشاب الذي ضل وزل وقسا قلبه: عد إلى الله فإن الله يفرح بتوبتك فرحاً عظيماً.

أخي الحبيب: والله لو اتبعت أمر الله وهدى الله فلن تجد ضنكاً ولا ضيقاً ولا سقماً ولا مرضاً: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:123-126].

اللذة الحقيقية في طاعة الله

أيها الشاب: والله إن عملت صالحاً فإنا نبشرك ونهنئك ونقربك إلى حياة طيبة هي من عند الله بشارة صادقة ليست من عندي ولا من عند شيخٍ قريب ولا بعيد، يقول ربك الغني عنك: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

أيها الأحبة: إن الذين ذاقوا لذة الهداية يتحدون أعظم الناس في لذاتهم، يقول واحدٌ ممن أدركوا حلاوة الإيمان: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا بالسيوف.

ويقول آخر: إنه ليمر بالقلب أوقاتٌ يرقص فيها طرباً.

ويقول ثالث: إنه لتمر بي أوقات من لذة الهداية والخشوع والمناجاة أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيب.

انظر إلى الذين ذاقوا لذة الهداية سموا، وارتفعوا، وتجاوزوا حدود الملذات القريبة، بل أصبحوا يجدون اللذة حتى لو كانوا في المحنة وفي بلاء عظيم.

هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سجن في دمشق في سجن القلعة ، قال: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما كنت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول رحمه الله في مجلسه وهو في سجن القلعة: لو بذلت مثل هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، وما جزيتهم -الذين تسببوا في حبسه- على ما تسببوا إلي فيه من الخير.

ويقول ابن تيمية : المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

واعجبوا إلى هذا العالم الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية ، يقول وقد سجن في الإسكندرية فكتب رسالة يقول فيها: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11] يحدث عن نعمة وهو في السجن، يحدث عن نعمة وهو في القيد، يحدث عن نعمة وهو في الأغلال، لو أن أحداً قرأ رسالته ولم يعلم أنه في سجن لقال: إنّ هذا قد زوج أجمل النساء، وأسكن أفضل القصور، وأركب أفخر المراكب، وقدمت له خيار وكرائم الأموال، لكنه يقول وهو في سجن الإسكندرية: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].

يقول: والذي أعرف به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الباطنة والظاهرة، ويقول ابن تيمية أيضاً: والله الذي لا إله إلا هو إني في نعمة من الله ما رأيت مثلها في عمري كله، فقد فتح الله عليَّ سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن في البال، ولم يدر في الخيال، هذا ويعرف بعضها بالذوق من له نصيبٌ من معرفة الله جل وعلا وتوحيده وحقائق الإيمان، وما هو مطلوب الأولين والآخرين من العلم والإيمان.

ثم يقول شيخ الإسلام : فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفي توحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية.

أيها الأحبة في الله: هكذا ذاقوا الهداية فأصبحت السعادة لا تفارقهم في قصرٍ أو سجن، في سعةٍ أو ضيق، ركبوا أطيب المراكب أو مشوا حفاةً، لبسوا الخز والحرير والثياب أو مشوا بأقل من ذلك أو أدنى منه.

احفظ الله يحفظك

إن الهداية شأنها عظيم، يحفظ الله بها عبده: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] قال ابن عباس : [هم الملائكة يحفظونه بأمر الله جل وعلا].

أيها الشاب: إن اهتديت فأنت بإذن الله في عصمة بعد الهداية وملازمة إخوانك والحرص على طلب العلم ومجالس الذكر، وأنت بإذن الله في حصنٍ حصين ومكانٍ أمين بعيدٍ عن الشبهات والشهوات، قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

أيها الأحبة .. أيها الشاب: إن اهتديت فأنت معك فئة لا تغلب، وحارسٌ لا ينام، وهادٍ لا يضل.

وقال قتادة : [من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه نجاه:].. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] الهداية ستجعل عافيتك قوية، وحواسك نافعة، وجوارحك بإذن الله تنفعك حتى آخر لحظة من حياتك.

كان العلامة القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي المتوفى سـنة (450هـ) قد جاوز المائة من عمره وهو ممتعٌ بقوة وعقل، فوثب ذات يوم وثبة شديدة، فعوتب في ذلك وقالوا له: كيف وثبت هذه الوثبة وعمرك قد جاوز المائة؟

قال: هذه جوارح حفظناها عن معصية الله في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر.

هذه الهداية أيها الشباب! فأقبلوا وأقدموا عليها، ووالله إن المحروم من حرم الهداية وأعرض عنها.

نقول: هذا عسلٌ مصفى، فيقول بعض من أريدت به الضلالة أو اشتهى الضلالة: لا. أريد ماء مكدراً نجساً مخلطاً.

يقال: هذا عودٌ طيبٌ طاهرٌ ورائحة طيبة، فيقول: لا. أريد رائحة فيها نتنٌ وفيها ذخرٌ ونجاسة.

يقال: هذه رفعة، فيختار ذلة.

يقال: خذ كرامة، فيختار هواناً.

يقال: خذ خيراً كثيراً، فيختار شراً وفيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الأحبة: إن لذة الحياة وجمالها وقيمة السعادة وكمالها لا تكون إلا في طاعة الله التي لا تكلف الإنسان شيئاً سوى الاستقامة على أمر الله وسلوك طريقه ليسير المهتدي بعد ذلك مطمئن الضمير، مرتاح البال، هادئ النفس، دائم البشر، طلق المحيا، وأبشر والله لو صممت وعزمت واجتهدت وحرصت على الهداية فإن الله يدنيها إليك، ويقربها بين يديك.

أخي الكريم: إنك إن أعرضت عن الهداية واخترت الضلالة فلا تزال في نكدٍ وكبدٍ وضيقٍ وانقباضٍ وشكٍ، وانظر إلى أحوال الضالين الذين دعوا فلم يستجيبوا، ونصحوا فلم ينتصحوا، وأهدوا الشريط فلم يسمعوه، وقدم لهم الكتاب فلم يقرءوه، ودعوا إلى المحاضرة والمخيم والندوة والفائدة فلم يلتفتوا إليها، انظر ما هم فيه من حال: سهرٌ على معصية، نومٌ عن صلاة الفجر، تفوتهم المنافع والأرزاق، في الصباح في شقاقٍ مع أزواجهم، في مصائب، المعاصي تقودهم رويداً رويداً، فمجلس لهوٍ فدخانٍ فمخدراتٍ فمسكراتٌ ثم سرقة ثم معصية ثم قطع طريق وما أكثر الذين لم يعرفوا أنهم قد ضلوا وزلوا إلى أن أوشكت أن تطير رقابهم في ساحات العدل.

هذه نصيحة قد طلبت مني فأنا أقدمها لكم وأقول لكل مهتدٍ: اثبت فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود:112] وأقول لكل ضال: عد إلى الله عد إلى ربك وأذكرك بقول الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53].

أخي الكريم: هل تعرف الفرق بين المهتدين والضالين؟

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [الرعد:16]؟ أخي الكريم: ألم تسمع قول الله جل وعلا: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] حياة الصالحين في تهجد الليل أتكون كحياة الفاسقين في كئوس الخمر؟

حياة الذين يقرءون القرآن آناء الليل ساجدين قائمين يرجون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ويخشون سوء العاقبة، أتكون كمن يسدرون ويسهرون الليالي على قنواتٍ مختلفة ومحطاتٍ ما عرضت أمام أعينهم إلا الصور العارية، والمنكرات السارية، والأمور التي لا ترضي الله جل وعلا أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19] أيستوي ذلك الصالح مع الطالح؟! أيستوي الفاسق مع البر؟! أيستوي الطيب مع السيئ؟! قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]؟!

أخي الكريم: هل تعرف الهداية: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] هل يستوي من يمشي على صراطٍ مستقيم ومن هو منحرف عنه؟ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22].

أتظن أن الصالحين كالطالحين في حياتهم ومماتهم وليلهم ونهارهم؟!! أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] .. أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].

أخي الكريم: إن أسلمت فقد اهتديت، وإن سلمت الأمر لربك فقد اهتديت، وإن قلت: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فقد اهتديت، وإن قلت: لا خيرة لي بعد أمرك يا رب وأمر رسولك صلى الله عليه وسلم فقد اهتديت.

وإن انصرفت ذات اليمين وذات الشمال وازور بك الأمر يمنة ويسرة فاعلم أنك على خطرٍ عظيم فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] .. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] من هم المهتدون؟ من هم الذين جاوزوا أطباق الثرى والثريا بمنة الله عليهم بهذه الهداية؟ المهتدون هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5] المهتدون الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].

فما أسباب هدايتهم؟ كيف اهتدوا؟ وكيف تميزوا؟ وكيف سادوا؟ وكيف سبقوا؟ وكيف نالوا؟ وكيف تقدموا؟

والله ما نالوا ذلك بمعادلاتٍ معقدة، ولا مشروبات عجيبة، ولا كبسولات غريبة، إنما نالوا الهداية بالطاعة، سمعوا قول الله فقالوا: سمعنا وأطعنا، سمعوا قول الله فقالوا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، ما اختاروا لأنفسهم خيرة بعد أمر الله، ما اختاروا أمراً بعد أمر الله، ما قالوا: نقلب أو نفكر أو ننظر نتوب أو لا نتوب، نقلع عن الذنوب أو لا نقلع، نعود عن المعصية أو لا نعود، أبداً وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

والله ما اختاروا شيئاً بعد أن سمعوا كلام الله وكلام رسوله، هكذا اهتدوا، وهكذا أصبحوا في عداد المهتدين.

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] .. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].

يا أيها الشاب! أتريد الهداية؟! ارم بنفسك بين يدي خالقك.

أتريد الهداية؟! اسجد نادماً، اخضع نادماً، ابك لله نادماً على ما فعلت، فإن ربك قريب ولا تحتاج توبته إلى اعترافٍ أو إلى قاضٍ أو إلى أحدٍ لتعترف بين يديه وإنما هي بينك وبين الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

أيها الأحبة: ولما اهتدوا زادهم الله هدىً، أولئك الذين سلكوا طريق الهداية لما اهتدوا زادهم وآتاهم تقواهم، لقد نالوا الهداية بالانقياد وبالاستجابة وبقول: سمعنا وأطعنا وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

أما أولئك الذي ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، أما الذين ينهون عن الحق وينأون عنه، أما الذين لم يكفهم أن يحملوا ذنوبهم بل حملوا ذنوب غيرهم: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25] أولئك كيف ضلوا؟ وكيف ضاعوا؟ وكيف حادوا عن جادة الصراط؟ وكيف ضلوا عن سواء السبيل؟

لقد ضلوا يوم أن زين لهم الشيطان أعمالهم، قال الله عز وجل: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24] والشيطان لا يريد بهم خيراً لما زين لهم، ذلك كما قال الله: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:60].

نعم .. لقد ضلوا بجليسٍ دعاهم إلى المعصية، ودعاية زخرفت لهم المعصية، وخيالٍ خيل لهم المعصية، ثم جلسوا يتنادون يظنون أنهم في سعادة ولكن يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويسب بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

نعم. لهم قادة في الباطل فاتبعوهم، وجعلوا لهم رءوساً في الشر فانقادوا لهم، وحسبوا أنهم يهدونهم إلى صراطٍ وهم يضلونهم إلى سوء العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما ينفعهم قولهم يوم القيامة: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] ثم يدعون على من قادهم إلى الضلالة فيقولون: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:68].

أولئك مساكين قد غرهم كثيرٌ من الناس، وبعض الضالين إذا ناقشته في ضلاله وفي معصيته، قال لك: أكثر الناس هكذا، وأكثر الناس يفعلون هكذا، وهل الكثرة حجة؟ وهل العوام حجة؟ وهل الطغام حجة؟ وهل الفئام حجة؟ أوليس الله جل وعلا يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] لقد اتبعت الكثرة وما ذاك إلا لهوى في النفس، ومن تبع هواه فقد ضل والله جل وعلا يقول: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].

يا أخي الحبيب! إن طائفة من الشباب ضلوا باتباع سادة في الشر والباطل، وضلوا بسبب جلساء زينوا لهم المعاصي، وضلوا بسبب العناد والإمعان، وضلوا بسبب التكبر، بعضهم يتكبر على الحق والانقياد له، بعضهم يقول: وإذا التزمت أفأجلس مجالس هؤلاء الضعفاء أو أكون في زيهم وسمتهم، أو أحرم نفسي ما عودت نفسي عليه، لقد عود نفسه ألواناً من المنكرات ولا يريد أن يتركها، تكبر عن أمر الله وأمر رسوله.

والله جل وعلا توعد الذين يتكبرون عن الانقياد للحق بأن يصرف قلوبهم عنه، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146].

أولئك الذين أسرفوا في الضلالة فأضلهم الله: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34] ولما أعرضوا عن ذكر الله قيض لهم شيطاناً وهو قرين لهم يقودهم ويصدهم ويغريهم ويخادعهم ويقول لهم: إنكم على حق، وصدق الله حيث قال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:26-38].

أيها الأحبة: إن بعض الشباب الذين ضلوا وأمعنوا في الضلالة قست قلوبهم وطال عليهم الأمد، والله يناديهم فيقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

قال مالك بن دينار: ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب.

فيا أيها الشاب الذي ضل وزل وقسا قلبه: عد إلى الله فإن الله يفرح بتوبتك فرحاً عظيماً.

أخي الحبيب: والله لو اتبعت أمر الله وهدى الله فلن تجد ضنكاً ولا ضيقاً ولا سقماً ولا مرضاً: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:123-126].

أيها الشاب: والله إن عملت صالحاً فإنا نبشرك ونهنئك ونقربك إلى حياة طيبة هي من عند الله بشارة صادقة ليست من عندي ولا من عند شيخٍ قريب ولا بعيد، يقول ربك الغني عنك: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

أيها الأحبة: إن الذين ذاقوا لذة الهداية يتحدون أعظم الناس في لذاتهم، يقول واحدٌ ممن أدركوا حلاوة الإيمان: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا بالسيوف.

ويقول آخر: إنه ليمر بالقلب أوقاتٌ يرقص فيها طرباً.

ويقول ثالث: إنه لتمر بي أوقات من لذة الهداية والخشوع والمناجاة أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيب.

انظر إلى الذين ذاقوا لذة الهداية سموا، وارتفعوا، وتجاوزوا حدود الملذات القريبة، بل أصبحوا يجدون اللذة حتى لو كانوا في المحنة وفي بلاء عظيم.

هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سجن في دمشق في سجن القلعة ، قال: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما كنت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول رحمه الله في مجلسه وهو في سجن القلعة: لو بذلت مثل هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، وما جزيتهم -الذين تسببوا في حبسه- على ما تسببوا إلي فيه من الخير.

ويقول ابن تيمية : المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

واعجبوا إلى هذا العالم الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية ، يقول وقد سجن في الإسكندرية فكتب رسالة يقول فيها: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11] يحدث عن نعمة وهو في السجن، يحدث عن نعمة وهو في القيد، يحدث عن نعمة وهو في الأغلال، لو أن أحداً قرأ رسالته ولم يعلم أنه في سجن لقال: إنّ هذا قد زوج أجمل النساء، وأسكن أفضل القصور، وأركب أفخر المراكب، وقدمت له خيار وكرائم الأموال، لكنه يقول وهو في سجن الإسكندرية: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].

يقول: والذي أعرف به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الباطنة والظاهرة، ويقول ابن تيمية أيضاً: والله الذي لا إله إلا هو إني في نعمة من الله ما رأيت مثلها في عمري كله، فقد فتح الله عليَّ سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن في البال، ولم يدر في الخيال، هذا ويعرف بعضها بالذوق من له نصيبٌ من معرفة الله جل وعلا وتوحيده وحقائق الإيمان، وما هو مطلوب الأولين والآخرين من العلم والإيمان.

ثم يقول شيخ الإسلام : فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفي توحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية.

أيها الأحبة في الله: هكذا ذاقوا الهداية فأصبحت السعادة لا تفارقهم في قصرٍ أو سجن، في سعةٍ أو ضيق، ركبوا أطيب المراكب أو مشوا حفاةً، لبسوا الخز والحرير والثياب أو مشوا بأقل من ذلك أو أدنى منه.

إن الهداية شأنها عظيم، يحفظ الله بها عبده: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] قال ابن عباس : [هم الملائكة يحفظونه بأمر الله جل وعلا].

أيها الشاب: إن اهتديت فأنت بإذن الله في عصمة بعد الهداية وملازمة إخوانك والحرص على طلب العلم ومجالس الذكر، وأنت بإذن الله في حصنٍ حصين ومكانٍ أمين بعيدٍ عن الشبهات والشهوات، قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

أيها الأحبة .. أيها الشاب: إن اهتديت فأنت معك فئة لا تغلب، وحارسٌ لا ينام، وهادٍ لا يضل.

وقال قتادة : [من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه نجاه:].. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] الهداية ستجعل عافيتك قوية، وحواسك نافعة، وجوارحك بإذن الله تنفعك حتى آخر لحظة من حياتك.

كان العلامة القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي المتوفى سـنة (450هـ) قد جاوز المائة من عمره وهو ممتعٌ بقوة وعقل، فوثب ذات يوم وثبة شديدة، فعوتب في ذلك وقالوا له: كيف وثبت هذه الوثبة وعمرك قد جاوز المائة؟

قال: هذه جوارح حفظناها عن معصية الله في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر.

هذه الهداية أيها الشباب! فأقبلوا وأقدموا عليها، ووالله إن المحروم من حرم الهداية وأعرض عنها.

نقول: هذا عسلٌ مصفى، فيقول بعض من أريدت به الضلالة أو اشتهى الضلالة: لا. أريد ماء مكدراً نجساً مخلطاً.

يقال: هذا عودٌ طيبٌ طاهرٌ ورائحة طيبة، فيقول: لا. أريد رائحة فيها نتنٌ وفيها ذخرٌ ونجاسة.

يقال: هذه رفعة، فيختار ذلة.

يقال: خذ كرامة، فيختار هواناً.

يقال: خذ خيراً كثيراً، فيختار شراً وفيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الأحبة: إن لذة الحياة وجمالها وقيمة السعادة وكمالها لا تكون إلا في طاعة الله التي لا تكلف الإنسان شيئاً سوى الاستقامة على أمر الله وسلوك طريقه ليسير المهتدي بعد ذلك مطمئن الضمير، مرتاح البال، هادئ النفس، دائم البشر، طلق المحيا، وأبشر والله لو صممت وعزمت واجتهدت وحرصت على الهداية فإن الله يدنيها إليك، ويقربها بين يديك.

أخي الكريم: إنك إن أعرضت عن الهداية واخترت الضلالة فلا تزال في نكدٍ وكبدٍ وضيقٍ وانقباضٍ وشكٍ، وانظر إلى أحوال الضالين الذين دعوا فلم يستجيبوا، ونصحوا فلم ينتصحوا، وأهدوا الشريط فلم يسمعوه، وقدم لهم الكتاب فلم يقرءوه، ودعوا إلى المحاضرة والمخيم والندوة والفائدة فلم يلتفتوا إليها، انظر ما هم فيه من حال: سهرٌ على معصية، نومٌ عن صلاة الفجر، تفوتهم المنافع والأرزاق، في الصباح في شقاقٍ مع أزواجهم، في مصائب، المعاصي تقودهم رويداً رويداً، فمجلس لهوٍ فدخانٍ فمخدراتٍ فمسكراتٌ ثم سرقة ثم معصية ثم قطع طريق وما أكثر الذين لم يعرفوا أنهم قد ضلوا وزلوا إلى أن أوشكت أن تطير رقابهم في ساحات العدل.

هذه نصيحة قد طلبت مني فأنا أقدمها لكم وأقول لكل مهتدٍ: اثبت فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود:112] وأقول لكل ضال: عد إلى الله عد إلى ربك وأذكرك بقول الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2795 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2645 استماع
توديع العام المنصرم 2641 استماع
حقوق ولاة الأمر 2617 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2545 استماع
من هنا نبدأ 2490 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2455 استماع
أنواع الجلساء 2455 استماع
إلى الله المشتكى 2430 استماع
الغفلة في حياة الناس 2428 استماع