الغفلة في حياة الناس


الحلقة مفرغة

الحمد لله القائل عن أهل الغفلة: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله! الحديث عن الغفلة وواقعنا في الغفلة، وحينما نتحدث عن الغفلة لا نخاطب أقواماً خارج المساجد فقط، أو بعيدين عن حلق الذكر ورياض الجنة، بل نخاطب أنفسنا الغافلة، وعقولنا التي تشتت بها أمور الدنيا وذهبت بها كل مذهب، لعلنا أن نعالج أنفسنا قبل أن نعالج غيرنا، ولعلنا أن نعظ أنفسنا قبل أن نعظ غيرنا، فحاجة القلوب إلى المواعظ والزواجر كحاجة النبات إلى الماء إذا انقطع عنه الماء مات.

أيها الأحبة! إن طائفة من إخواننا المسلمين لا يجعلون لتعهد إيمانهم ومراقبة حياة قلوبهم وقفات أو جلسات كما يجعلون الأوقات الطوال لأمور معيشتهم ودنياهم، وكثير منهم يحبون الحديث عن الرجاء والرحمة والمغفرة والجنة فقط، أما الحديث عن الغفلة والخوف والنار وسوء الخاتمة وعاقبة الذنوب والموت والقيامة وأهوال الحشر فلا ترى الكثيرين يحبون الحديث عن ذلك.

بل لقد سمعنا هذا مراراً من أقوام إذا ذكروا بالله عز وجل وخوفوا بعذابه وعقابه، وخوطبوا بالتذكر والتدبر لآيات الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي فيه الاستعداد قبل الممات، والاستدراك قبل الفوات قالوا: هذا شيخ متشائم! وهذا شيخ عباراته قاتمة! وليس عنده عبارة فيها بشارة أو تفاؤل! لا يحدثنا إلا عن الموت، عن الصراط، عن القبر وعذابه، عن الحشر وأهواله، عن سوء الخاتمة، عن خطر الحرام.. ماذا تشتهون من المواعظ؟ يقولون: حدثنا عن الرحمة الواسعة، حدثنا عن المغفرة الشاملة، حدثنا عن الجنة، حدثنا عن الوعد ولا تحدثنا عن الوعيد. وذلك أمر خطير إذ الحق والشرع والدين أن يتحدث عن ذاك وذاك، عن الخوف والرجاء، والمغفرة والعقوبة، وعن الجنة والنار.

الإعراض عن معرفة الآخرة والاهتمام بمعرفة الدنيا

فيا أحبابنا! ينبغي أن نقف وقفات تلو وقفات، فإن تكلمنا عن نعيم الجنة فلنتحدث عن عذاب النار، وإن تكلمنا عن البشائر والتفاؤل فلنتحدث عن الخطر والتغافل، إن حرصنا على الدنيا ومعرفتنا بها بلغ حداً لا يوصف، أما شأن الآخرة فكثير منا قد جمع فيه بين الجهل والغفلة، يقول الحسن البصري : [والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم والدينار على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي]. معاذ الله، وعياذاً بالله، ونلوذ بالله ونلتجئ به أن نكون ممن قال الله فيهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا: يعلمون أمر معاشهم كيف يكتسبون، وكيف يتجرون، ومتى يغرسون ويزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يعيشون ويبلون، أما شأن الآخرة فهم عنها ساهون وبها جاهلون، لا يتفكرون فيها ولا لأجلها يعملون.

إنكار الناس لغفلتهم

نرى كثيراً من إخواننا هداهم الله ينزعج من الكلام عن قضية الغفلة، ولا يحب طرح هذا الموضوع، بل ربما بادرك برده قائلاً عاجلاً: ألست ترانا نصوم ونصلي فعن أي غفلة تتحدث؟ لا إله إلا الله! ويا سبحان الله! لقد عظمت هذه الغفلة حتى حجبت الكثير عن التفكر والتدبير، نحن في غفلة عن الآخرة، والحساب قريب: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].

فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى     صريع الأماني عن قريب ستندم

أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده     سوى جنة أو حر نار تضرم

أهل الدنيا في غفلة، ونحن نعيش غفلة بالغة في دنيانا، ويردنا ويبعدنا ويوقظنا من سبات الغفلة أمثال هذه المجالس، حلق الذكر ورياض الجنة التي بإذن الله يجد الذين ضلت قلوبهم منها بغيتهم، والذين فقدوا رقة وشفافية أفئدتهم يجدونها في هذه الأماكن، حيث تغشى السكينة، وتحف الملائكة، وتتنزل الرحمة، ويذكر الله هذا الملأ فيمن عنده بمنه وكرمه ومشيئته.

أيها الأحبة في الله! نحن في غفلة عظيمة، وأهل الدنيا عموماً في غفلة، قال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] فأهل الدنيا في غفلة، روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل النار النار، وأدخل أهل الجنة الجنة يجاء بالموت كأنه كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟! قال: فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت. ثم ينادي مناد: يا أهل النار أتعرفون هذا؟! فيشرئبون وينظرون، وكلهم قد رأوه، فيقولون: نعم، هذا الموت. فيؤخذ ويذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود ولا موت!، ويا أهل النار خلود ولا موت! فذلك قول الله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [مريم:39] قال: أهل الدنيا في غفلة) رواه البخاري ومسلم والنسائي.

كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بهذه الأبيات:

أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم     وكيف يطيق النوم حيران هائم

فلو كنت يقظان الغداة لحرقت     مدامع عينيك الدموع السواجم

نهارك يا مغرور سهو وغفـلة     وليلك نوم والردى لك لازم

يغرك ما يفنى وتشغل بالمنى     كما غر باللذات في النوم حالم

وتشغل في ما سوف تكره غبه     كذلك في الدنيا تعيش البهائم

الدنيا أهم أسباب الغفلة

نحن في غفلة عظيمة، غفلة في الدنيا عن الآخرة، وذلك -وايم الله- جماع المصائب وبؤرة الحرمان، وقال صلى الله عليه وسلم في هذا: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن ماجة وابن حبان والإمام أحمد رحمهم الله.

الذين يتشاغلون وهم في غفلة.. لأجل ماذا هذه الغفلة؟ ولأي غاية هذه الغفلة؟ تجد جواب الحال إن لم يجيبوا بلسان المقال، تجد جواب الحال: أن غفلتهم من أجل دنياهم. وما علموا أن اشتغالهم بأمر الدنيا يشتت عليهم أمورهم، ويجعل الفقر بين أعينهم، ولا يزيد لهم في قسمة الله التي قسمها لهم من أرزاقهم، ولو أنهم جعلوا الهم والغاية والمنى والقصد في مرضاة الله عز وجل لجمع لهم كل ما تشتت، وجعلت الدنيا تتبعهم رافضة ذليلة تلحقهم، وتكفل بشئونهم وأمورهم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به هموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك) رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [ما انتفعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منفعتي بشيء كالذي كتب به إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال: أما بعد: فإن المرء يسره درك ما لم يدركه فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها، وليكن همك لما بعد الموت].

فيا أحبابنا! ينبغي أن نقف وقفات تلو وقفات، فإن تكلمنا عن نعيم الجنة فلنتحدث عن عذاب النار، وإن تكلمنا عن البشائر والتفاؤل فلنتحدث عن الخطر والتغافل، إن حرصنا على الدنيا ومعرفتنا بها بلغ حداً لا يوصف، أما شأن الآخرة فكثير منا قد جمع فيه بين الجهل والغفلة، يقول الحسن البصري : [والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم والدينار على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي]. معاذ الله، وعياذاً بالله، ونلوذ بالله ونلتجئ به أن نكون ممن قال الله فيهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا: يعلمون أمر معاشهم كيف يكتسبون، وكيف يتجرون، ومتى يغرسون ويزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يعيشون ويبلون، أما شأن الآخرة فهم عنها ساهون وبها جاهلون، لا يتفكرون فيها ولا لأجلها يعملون.

نرى كثيراً من إخواننا هداهم الله ينزعج من الكلام عن قضية الغفلة، ولا يحب طرح هذا الموضوع، بل ربما بادرك برده قائلاً عاجلاً: ألست ترانا نصوم ونصلي فعن أي غفلة تتحدث؟ لا إله إلا الله! ويا سبحان الله! لقد عظمت هذه الغفلة حتى حجبت الكثير عن التفكر والتدبير، نحن في غفلة عن الآخرة، والحساب قريب: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].

فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى     صريع الأماني عن قريب ستندم

أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده     سوى جنة أو حر نار تضرم

أهل الدنيا في غفلة، ونحن نعيش غفلة بالغة في دنيانا، ويردنا ويبعدنا ويوقظنا من سبات الغفلة أمثال هذه المجالس، حلق الذكر ورياض الجنة التي بإذن الله يجد الذين ضلت قلوبهم منها بغيتهم، والذين فقدوا رقة وشفافية أفئدتهم يجدونها في هذه الأماكن، حيث تغشى السكينة، وتحف الملائكة، وتتنزل الرحمة، ويذكر الله هذا الملأ فيمن عنده بمنه وكرمه ومشيئته.

أيها الأحبة في الله! نحن في غفلة عظيمة، وأهل الدنيا عموماً في غفلة، قال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] فأهل الدنيا في غفلة، روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل النار النار، وأدخل أهل الجنة الجنة يجاء بالموت كأنه كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟! قال: فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت. ثم ينادي مناد: يا أهل النار أتعرفون هذا؟! فيشرئبون وينظرون، وكلهم قد رأوه، فيقولون: نعم، هذا الموت. فيؤخذ ويذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود ولا موت!، ويا أهل النار خلود ولا موت! فذلك قول الله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [مريم:39] قال: أهل الدنيا في غفلة) رواه البخاري ومسلم والنسائي.

كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بهذه الأبيات:

أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم     وكيف يطيق النوم حيران هائم

فلو كنت يقظان الغداة لحرقت     مدامع عينيك الدموع السواجم

نهارك يا مغرور سهو وغفـلة     وليلك نوم والردى لك لازم

يغرك ما يفنى وتشغل بالمنى     كما غر باللذات في النوم حالم

وتشغل في ما سوف تكره غبه     كذلك في الدنيا تعيش البهائم

نحن في غفلة عظيمة، غفلة في الدنيا عن الآخرة، وذلك -وايم الله- جماع المصائب وبؤرة الحرمان، وقال صلى الله عليه وسلم في هذا: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن ماجة وابن حبان والإمام أحمد رحمهم الله.

الذين يتشاغلون وهم في غفلة.. لأجل ماذا هذه الغفلة؟ ولأي غاية هذه الغفلة؟ تجد جواب الحال إن لم يجيبوا بلسان المقال، تجد جواب الحال: أن غفلتهم من أجل دنياهم. وما علموا أن اشتغالهم بأمر الدنيا يشتت عليهم أمورهم، ويجعل الفقر بين أعينهم، ولا يزيد لهم في قسمة الله التي قسمها لهم من أرزاقهم، ولو أنهم جعلوا الهم والغاية والمنى والقصد في مرضاة الله عز وجل لجمع لهم كل ما تشتت، وجعلت الدنيا تتبعهم رافضة ذليلة تلحقهم، وتكفل بشئونهم وأمورهم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به هموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك) رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [ما انتفعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منفعتي بشيء كالذي كتب به إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال: أما بعد: فإن المرء يسره درك ما لم يدركه فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها، وليكن همك لما بعد الموت].

أيها الأحبة! نحن في غفلة عن يوم القيامة وما ينتظرنا فيه، ونحن في غفلة عن القيامة أو عن أول أحوال القيامة ألا وهي سكرات الموت وأهواله ومطلعه، يقول تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:19-22] والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا اليوم، كنت في الدنيا في غفلة عن ذلك اليوم فكشفنا عنك غطاءك: ذلك الران، وذلك الغطاء الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك، فبصرك اليوم حديد: أي نافذ تبصر ما كنت تنكره في الدنيا.

الغفلة عن الآيات الشرعية والكونية

ونحن في غفلة -يا عباد الله- عن آيات الله عز وجل، وكما يقول ربنا سبحانه: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92] الآيات الكونية والآيات الشرعية التي توجب الاعتبار والتدبر والادكار والتفكر، التي توقظ من سنة الغفلة، ونحن عنها غافلون إلا من رحم الله وقليل ما هم ذلك، ونحن في غفلة عن آيات الله عز وجل، ومعاذ الله أن تبلغ بنا الغفلة إلى أن تكون غفلة كاملة مستحكمة تامة كما غفل الكافرون عن آيات الله سبحانه وتعالى، فجمعوا بعداً وقنوطاً من الآخرة، ورضىً بالدنيا وطمأنينة بها، وهم بعد ذلك وقبله في غفلة عن آيات الله: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]

غفلة الإنسان عن نفسه وذنوبه

الغافل عن نفسه، والغافل عن ذنوبه، والغافل عن أعماله يجمع المصائب تلو المصائب، وبلايا مع البلايا، وفتناً مع الفتن، وعظائم مع العظائم، وهو لا يدري ما تجمع عليه وما تحصل له من سوء عاقبة ما اجترحت يداه، ونطق به لسانه، ومشت إليه قدماه أو نظرت إليه عينه، أو سمعته أذنه، لا يبالي أأصبح مطيعاً أم عاصياً، أمضى ومشى إلى طاعة الله أم إلى معصيته، إلى حلقة ذكر أم إلى جلسة لهو، إلى مجلس عبادة أم إلى مجلس فسق وباطل، إلى مجلس حلال أم إلى مجلس حرام، أولئك الذين غفلوا عن أعمالهم فلا يحاسب الواحد نفسه قبل أن يخرج: إلى أين؟ ولأجل من؟ وما هي العاقبة؟ وما الخاتمة؟ وما النتيجة؟ أولئك هم الغافلون.

الذين يتذكرون، الذين هم أصحاب القلوب الحية والسليمة يسائلون أنفسهم في كل حركة وخطوة وكلمة وصمت وذهاب وإياب وغدو ورواح: ماذا أرادوا بهذا؟ ولأجل من؟ وما الغاية؟ وما الطريق؟ وما النتيجة؟ وكيف العاقبة؟ وهل يباعد من الله أم يقرب منه؟ أما الغافل والجاهل وأما المنافق فهو لا يبالي بذلك أبداً، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به: هكذا] رواه البخاري ومسلم موقوفاً عن ابن مسعود.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاًُ يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) رواه البخاري ومسلم . فيا سبحان الله! ممن تراهم يكابرون ويصرون ويعاندون وينكرون أنهم في غفلة، تقول لهم وتحذرهم وتخوف نفسك وإياهم من الغفلة فيقولون: وأي غفلة تتحدث عنها؟! وأي غفلة تخوف الناس منها؟! وأي غفلة تصيح بها في كل ناد وفي كل واد؟! وتقول للناس: أنتم في غفلة. الناس في خير، والناس على كل خير، والناس إلى خير، فأي غفلة تتحدث عنها؟ عن أشباح في الظلام، أم عن شياطين وهمية؟ ما هي هذه الغفلة التي تتحدث عنها؟

وذلك من أعظم المصيبة: ألا يعلم الغافل أنه في غفلة كما قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] إنهم في نسيان وينسون أنهم في نسيان، وذلك هو العذاب المضاعف، وذلك هو البلاء المركب.

أو ما ترون -يا عباد الله- البث المباشر يعرض ألوان الفساد في البيوت وينكر الكثيرون أنهم في غفلة، الغناء واللهو ينعق في دور كثير من المسلمين ليل نهار وينكرون أنهم في غفلة، أولادهم في حالة يرثى لها من سوء التربية وسوء الأخلاق وينكرون أنهم في غفلة، نساء وبنات غاديات رائحات متبرجات متعطرات في الأسواق وينكرن أنهن في غفلة، ويعاندون ويكابرون أنهم في غفلة..! إن لم تكن هذه هي الغفلة، وإن لم تكن المعصية هي الغفلة فبم نسمي هذه الغفلة؟ نسميها القربات؟ نسميها الدرجات؟ نسميها المسابقة إلى الخيرات؟ نسميها المنافسة إلى الصالحات؟ لا إله إلا الله ما أشد جدلنا! وما أعظم إعراض المعرضين والغافلين! ولا حول ولا قوة إلا بالله! أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].

ضرورة المبادرة باليقظة من الغفلة

نعم -أيها الأحبة- الذين هم في غفلة وينكرون أنهم في غفلة متى يستفيقون؟ ومتى يستيقظون؟ ومتى ينتبهون؟ ينتبهون إذا حلت المصائب بدورهم، وتربعت بين أظهرهم، ونزل الخوف وتسربلت به أيديهم وأقدامهم وأرجلهم، وفصل على أبدانهم، إذا ذاقوا لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون، إذا رأوا عاقبة ما كانوا يفعلون أدركوا بعد غفلتهم أنهم كانوا في غفلة، وقد كانوا يجادلون ويكابرون وينكرون أنهم في غفلة، ولا يحبون الناصحين، ولا يحبون من يقول لهم: إنكم في غفلة.

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) رواه الإمام أحمد وغيره.

غفلة الناس عن ذكر الله

الغفلة عظيمة، وحسبنا الغفلة عن ذكر الله، إن كثيراً منا وإن عد نفسه من الأخيار والصالحين لا يذكر الله عز وجل في غالب أحيانه، وإنما نصيب الذكر من أوقاته، ونصيب الذكر من حالاته نصيب قليل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9] الخاسر: الذي يغفل عن ذكر الله، المغبون: الذي تضيع أيامه وتضيع لياليه وسنواته وأشهره وساعاته وأوقاته، قد شغل بكل قيل وقال وكل غاد ورائح، وقد شغل بما لا يعنيه إلا ما كان من ذكر الله عز وجل، الذي يهمه وينفعه في الدنيا والآخرة فتراه مشغولاً عنه ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهل يعجز أحد عن ذكر الله؟ تلكم العبادة التي جعل الله فيها أجوراً كثيرة في جارحة صغيرة بحركة يسيرة، تلكم العبادة العظيمة الجليلة، لا تعجز عن ذكر الله، ولا تعجز المسلمة عن ذكر الله في كل أحوالها، لا يعجز الجميع عن ذكر الله غادين أو رائحين، قائمين أو قاعدين، مضطجعين أو يتحركون، مصبحين أو ممسين، في كل أحوالهم، والله لو كان الذكر بحركات الأيدي لخلعت الأيدي، ولو كان الذكر بحركات الأقدام لكلت عن المشي، لكن الذكر بحركة اللسان، بأصغر جارحة، وبأيسر جارحة، وبأهون حركة في أيسر جارحة، أن تحرك لسانك قائلاً: لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، أستغفر الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، تستغفر ربك وتدعوه وتناجيه فيكتب لك ذلك.

وفيه من الأجر العظيم ما الله به عليم، تمحى به السيئات، وترفع به الدرجات، وتحيا به القلوب، ويكون حرزاً لك من الشيطان، لا يصيبك مس، لا يصيبك سحر، لا تصيبك عين، ولا أذى: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة كان كمن أعتق عشرة من ولد إسماعيل، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة خطيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان سائر يومه ذلك) بنقل جبال؟ بنقل بحار؟ بمشي أميال؟ بصدقة أوزان الجبال من الأموال؟ لا، حركة يسيرة على جارحة صغيرة، بهذا اللسان الذي لو جعلنا آلة تحصي حركاته وتحصي كلماته وتحصي حروفه لوجدنا أننا تكلمنا ملايين الكلمات أو مليارات الكلمات، ولو أحصينا ما نطقنا به من ذكر الله وطاعة الله وتسبيح الله وتهليله وتحميده وتكبيره لوجدنا أقل القليل من ذلك ما كان في ذكر الله عز وجل.

يقول ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب: الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها، والغفلة أصل معاداة الله ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه عز وجل حتى يحبه الله فيواليه، ولا يزال العبد في غفلة عن ربه حتى يبغضه الله فيعاديه. فيا حسرة الغافلين عن ذكر الله! يا حسرة الغافلين بالملاهي! ويا حسرة الغافلين بالأغاني! ويا حسرة الغافلين بالأفلام! ويا حسرة الغافلين والغافلات بالمسلسلات في القنوات الفضائية عبر الدشوش وغيرها! إن بعض المسلمين -هداهم الله- منذ أن يصبحوا إلى أن يمسوا وهم في غفلة، وهم في لهو عن ذكر الله عز وجل، البيت مملوء باللهو، والسيارة مشغولة باللهو، والمجالس مشغولة باللهو، فأخبروني بالله عليكم متى يتذكر أولئك؟ إذا بلغت الروح الحلقوم متى يتذكر ذلك؟ إذا حلت المنية متى يتذكر أولئك؟ إذا عجز عن الذكر وأصبح مقهوراً عاجزاً حاسراً بعد أن كان قادراً،

أحسن إذا كان إمكان ومقدرة     فلا يدوم على الإحسان إمكان

غفلة الناس في مجالسهم

لقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الغفلة عامة، وحذرنا عن الغفلة بالمجالس، واعلموا أن كل مجلس لم يذكروا الله فيه إلا عدوا من الغافلين، وكان مجلسهم شاهداً عليهم في الغفلة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلسهم لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة) رواه أبو داود والحاكم.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا لله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما، ومعنى: (إلا كان عليهم ترة): أي تبعةً وحسرةً وندامةً يوم القيامة.

فيا أيها الأحباب! إذا علمنا أن المجالس، أن العلاقات، أن الجلسات، أن اللقاءات ستكون حسرات وندامات ما لم يكن ذلك في طاعة الله ومرضاته، ما لم نطرد الشياطين ونعطر القلوب والأسماع والحاضرين بذكر الله سبحانه وتعالى وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهل يضيرنا أي اجتماع اجتمعناه، وأي لقاء التقينا فيه، هل يضيرنا قبل أن نبدأه -أياً كان- أن نستفتحه بآيات من كلام الله، وأن نعلق عليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجتمع لنا خير المجلس، وخير الكلام، وطيب الدعاء، ثم بعد ذلك نفيض فيما نشاء أن نفيض فيه من أمور دنيانا، أيضيرنا ذلك؟ أيعجزنا ذلك؟ لا والله، لكنك تعجب يوم أن يكون الذكر ثقيلاً على الأنفس، فإذا استفتح جالس من الجالسين مجلسة وقال: أيها الحضور.. أيها الأحباب.. أيها المجتمعون.. حتى لا يكون المجلس ترة، حتى لا يكون حسرة، حتى لا يكون ندامة.. دقائق نستفتح بها هذا المجلس بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، رأيت كثيراً أو رأيت بعض الجالسين يشمئزون ويزورُّون وتدور أعينهم كما تدور أعين الذي يغشى عليه من الموت.. يا سبحان الله! ولو كان الحديث أوله وآخره وأوسطه وقلبه وقالبه وباطنه وظاهره في سخافات وفي هراء، وفي ما لا تحمد عاقبته لقهقهوا وضحكوا، وطال المجلس إلى ساعات طويلة حتى يرتفع النهار أو ينتصف الليل، ولا يبالون ولا يعدون ذلك شيئاً، ولا يعدونه أمراً ثقيلاً، لكن إذا قام قائم أو ابتدأ متكلم وقال: يا معاشر الأحباب! يا معاشر الحاضرين! في هذا الزواج، في هذه المناسبة، في هذه العقيرة، في هذه الوكيرة، في هذا اللقاء، قبل أن نفيض في شأن دنيانا وعلاقاتنا نبدأه بذكر الله عز وجل، وجدت منا من تدور عينه، ووجدت منا من يزوَّر بوجهه، ووجدت منا من يتأفف.. مم تتأفف؟ أما تخشى أن تكون من الذين قال الله فيهم: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]؟ أي غفلة استحكمت في المجالس اليوم؟ أي غفلة استحكمت في اللقاءات اليوم؟ حتى بلغ الأمر إلى درجة أنهم لا يذكرون الله فيها؟ بل يعترضون ويتأففون ممن يدعوهم إلى ذكر الله عز وجل.

ونحن في غفلة -يا عباد الله- عن آيات الله عز وجل، وكما يقول ربنا سبحانه: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92] الآيات الكونية والآيات الشرعية التي توجب الاعتبار والتدبر والادكار والتفكر، التي توقظ من سنة الغفلة، ونحن عنها غافلون إلا من رحم الله وقليل ما هم ذلك، ونحن في غفلة عن آيات الله عز وجل، ومعاذ الله أن تبلغ بنا الغفلة إلى أن تكون غفلة كاملة مستحكمة تامة كما غفل الكافرون عن آيات الله سبحانه وتعالى، فجمعوا بعداً وقنوطاً من الآخرة، ورضىً بالدنيا وطمأنينة بها، وهم بعد ذلك وقبله في غفلة عن آيات الله: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2797 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2647 استماع
توديع العام المنصرم 2642 استماع
حقوق ولاة الأمر 2626 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2547 استماع
من هنا نبدأ 2491 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2431 استماع
نساء لم يذكرهنَّ التاريخ 2393 استماع