رحلة إلى الدار الآخرة


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً طيباً مباركاً كما ينبغي لجلال ربنا وعظيم سلطانه، نحمده سبحانه، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل خيرٍ سألناه أعطانا، له الحمد في الأولى والآخرة، له الحمد وحده لا شريك له، نثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، نرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق.

وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، جل عن الشبيه، وعن الند، وعن المثيل، وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خيرٍ إلا دل أمته عليه، ولا سبيل شرٍ إلا حذَّر أمته منه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر الأحبة: كلنا يعلم أنه لو كان بانتظار مفاجأة سارةٍ أو ضارة، مليحة أو قبيحة، فإنه يتخيل نفسه فيها، ويتصور ما سيكون له تجاهها، فالذي ينتظر التفرج مثلاً، يتخيل يوماً يقف فيه أمام زملائه وأمام مكرميه، لكي يستلم شهادته غبطاً مسروراً بنتيجة جهده وتحصيله، والذي ينتظر وظيفةً يتخيل مكتبه ومقعده وما بين يديه من الدفاتر والمعاملات، والذي ينتظر زواجاً يتخيل زفافه ومسيره ووصوله إلى أهل عروسه، ويتخيل دخوله على زوجه، ويتوهم ويتخيل أحلى أيامه ولياليه معها، والذي ينتظر صناعةً يتخيل إنشاء مصنعه، والإنتاج في هذا المصنع، ثم خروج بضاعته ومنتجاته وتوزيعها على مستهلكيها، ويقبض غلتها وريعها ومردودها، يتخيل عده دراهمه وإيداعها في خزينته، والذي يتخيل تجارةً، يتخيل بضاعته ومستودعاته ودفاتره ومحاسباته، والذي يهم أو ينتظر سفراً يتخيل إقلاع طائرته، ثم تحليقها وهبوطها ونزوله إلى بلدٍ يسافر إليها، ثم بعد ذلك يتخيل أيامه في سياحته أو في سفره وتنقلاته، ونحن يا عباد الله! بانتظار مفاجأة سارةٍ أو ضارة، بانتظار مفاجأةٍ مليحة أو قبيحة، حسنها وقبحها، يتوقف على عمل صاحبها، ألا وهي رحلتنا من الدنيا إلى دار البرزخ، ومن دار البرزخ إلى دار القرار والآخرة.

على أي متن رحلةٍ سننتقل؟

وما هي مدة الرحلة؟

ومن هم المضيفون؟

ومن الذين يستقبلون؟

وماذا سيقدم لنا في سفرنا ورحلتنا هذه؟

ينبغي أن نتوهم ذلك وأن نتخيله وأن نتذكره، كيف سيكون شأننا في هذه الرحلة؟ والذي يسافر في رحلةٍ ولا يتخيل ماذا سيكون له من أعماله أو مفاجآته، أو جدول ما سيقدمه ويعده، فذاك نسميه معتوهاً أبله؛ لأنه يسافر إلى بلدٍ لا يدري ماذا سيفعل فيها، ولأي شيءٍ ولأي غرضٍ قدم إليها.

فيا أحبتنا في الله: تعالوا معي، وتخيلوا وتوهموا حالنا، ونحن نودع هذه الدنيا، وننتقل إلى دار البرزخ، تخيل كأنه قد نزل بك الموت وشيكاً سريعاً، فتوهم نفسك وقد صرعك الموت صرعة، ملك الموت واقفٌ على رأسك، يصرعك صرعةً لا تقوم منها إلا في الحشر إلى ربك، فتوهم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه، وسكراته وضمه وقلقه، قد بدأ ملك الموت يجذب أرواحنا من الأقدام، فوجدنا ألم جذب الروح من أسفل القدمين، ثم تدارك الملك الجذب واستحث النزع، وجذبت الروح من جميع أجزاء البدن، فنشطت الروح من الأسفل متصاعدةٍ إلى الأعلى حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه، وبلغت الروح الحلقوم، وعلت آلام الموت جميع جسمك وقلبك، وقلبك وجلٌ محزونٌ مرتقب، تنتظر البشارة أو النتيجة، إما بغضبٍ من الله أو رضى، وقد علمت أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشارتين، لا محيص ولا محجى ولا منجى إلا أن نسمع إحدى البشارتين من الملك الموكل بقبض الروح ونزعها.

يا ابن آدم!

أنت الذي ولدتك أمك باكياً      والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا      في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

فبينما أنت في كربك وغمومك، وأنت في آلام الموت وسكراته وشدة حزنك، لارتقابك وانتظارك البشارة، كالذي يقف بين يدي الحاكم مطرقاً رأسه، إما أن يؤمر بعذابه أو أن يؤمر بتكريمه وتفريحه، بينما أنت تنتظر البشارة من ربك، إذ نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن صورة، أو نظرت إلى ملك الموت بأقبح صورة، ونظرت إلى الملك، وأنت ترى من حولك وأنت في بعدٍ وفي شأن آخر منهم، تراهم ولا ينظرون إلى ما تنظر إليه -على سريرك أو على فراشك، في بيتك أو في المستشفى- يجثون على ركبهم، ينتظرون ماذا يحل بك، وأنت تراهم وتعلم أنهم لا يرون ما تراه، أنت ترى ملك الموت، نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن صورة، أو نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأقبح صورة، ثم مد الملك يده إلى فمك ليخرج الروح من بدنك، فذلت نفسك، وخارت قواك، وضعفت قوتك لما عاينت ذلك، وعاينت وجه ملك الموت، وتعلق قلبك بماذا يفاجئك من البشارة إذ سمعت صوت نغمةٍ جميلة، أبشر يا ولي الله! برضىً من الله، أبشر يا ولي الله! برضى الله وثوابه، أو تسمع ذلك الملك قبيح الصورة يقول: أبشر يا عدو الله! بغضبٍ من الله وعقابه، فتستيقن حينئذٍ بنجاحك وفوزك، ويستقر الأمر في قلبك، فتطمئن إلى الله أو تستيقن العذاب والهلاك، ويحل الفزع قلبك وتندم حينئذٍ غاية الندم، ويحل بك الهم والحزن أو الفرح والسرور حين انقضت من الدنيا مدتك وودعت من عمرك أيامك وانقطع أثرك، وحملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك، كلٌ يرى حين موته مقعده من الجنة أو من النار، فهذه ابتسامة الموتى يوم أن نراها على وجوههم، أو قلق وانزعاج الوجه والمحيا، حينما يرون ما لا يسرهم.

عباد الله: ثم ماذا بعد ذلك؟ توهم نفسك، تخيل نفسك حين استطار قلبك فرحاً وسروراً، أو ملئ حزناً وعبرةً بفترة القبر وهول مطلعه وروعة الملكين وسؤالهما، يسألانك عن إلهك، عن إيمانك بربك، فمثبتٌ من الله جل ثناؤه بالقول الثابت، أو متحيرٌ شاك مخذول، الذين حولك إن كان منهم من يحبك، وقف لحظات عند قبرك وهو يقول: اللهم ثبته بقولك الثابت، اللهم ثبته بقولك الثابت.

أنت أنت يا من لم تسمع في ظلمة اللحد، واللبن قد أغلق على لحدك، وأهيل التراب حتى ختم باب قبرك، ثم ولى الناس مسرعين إلى حوائجهم ينسونك عند آخر خطوةٍ يتجاوزون فيها باب المقبرة، وإن كان لك من حبيب أو أخٍ في الله وقف عند قبرك والناس قد ولوا وتركوك، وحبيبك هذا يقول: اللهم ثبته بقولك الثابت، اللهم لقنه حجته، اللهم لقنه حجته، فتوهم ذلك وأصوات الملائكة عند ذلك، توهم صوت الملكين حين يناديانك فيجلسانك ليوقفاك على السؤال، توهم كيف تجلس في ضيق لحدك، وقد سقطت أكفانك على حقويك، والقطن سقط من عينك على ركبتيك وقدميك، ثم رفعك البصر، وشخوصك ببصرك إلى صورة الملكين، وعظم أجسامهما، فإن رأيتهما بحسن الصورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة، وإن رأيت ملكين قبيحين تيقنت الهلاك والعذاب، تخيل أصوات الملكين وكلامهما وتخيل سؤالهما، ثم بعد ذلك هو تثبيت الله إن ثبتك أو خذلك، وتخيل جوابك يوم يسألانك، وجوابك باليقين أو بالحيرة والشك، وتخيل إقبال الملكين عليك، إن ثبتك الله عز وجل، وإقبالهما عليك بالسرور، وضربهما بأرجلهما جوانب القبر فينفرج القبر عن النار ثم تنظر إلى النار، وهي تتأجج بحريقها، وأنت تنظر ما صرف عنك من لهيبها ونارها، فيزداد قلبك سروراً وفرحاً، وتوقن أنك نجوت من هذه النار التي نظرت إليها، أو توهم أن الملكين ضربا بأرجلهما جوانب قبرك وانفراجه عن الجنة بزينتها ونعيمها وقولهما لك: يا عبد الله! انظر إلى ما أعد لك، فهذا منزلك وهذا مصيرك، أو تتخيل أن ترى الجنة ثم يقال: حرمت منها، وأن ترى النار ويقال: أنت من أهلها، تخيل سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنان وبهجة ملكها، وعلمت أنك صائرٌ إلى ما عاينت من نعيمها وحسن بهجتها، وإن تكن الأخرى، إن كنت عاينت النار توهم خلاف ذلك كله، تخيل ما ينهرك، وتخيل ما تنظر إليه ويقال لك: انظر إلى ما حرمك الله عز وجل من النعيم، ثم تنظر النار ويقال لك: انظر إلى ما أعد الله لك، فهذا منزلك ومصيرك، فأعظم بهذا خطراً، وأعظم عليه بالدنيا غماً وحزناً حتى تعلم في القبر حالك، وتعلم في القبر مآلك.

هذه الرحلة أيها الأحبة! وهذا الوداع، وهذا الفراق، وهذه الغربة التي لا أنيس ولا جليس ولا حديث، سوى العمل الصالح، والله إنها الغربة، ليست غربة الأوطان، ولكنها غربة الأبدان في الظلمات، وغربة الأشلاء بين الدود والتراب.

ليس الغريب غريب الشام واليمن     إن الغريب غريب اللحد والكفن

إن الغريب له حقٌ لغربته           على المقيمين في الأوطان والسكن

لا تنهرن غريباً حال غربته      الدهر ينهره بالذل والمحن

سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني      وقوتي ضعفت والموت يطلبني

تمر ساعات أيامي بلا ندم      ولا بكاء ولا خوف ولا حزن

يا معاشر المؤمنين: ما أحلم الله، إن الله حليمٌ علينا!

ما أحلم الله عني حيث أمهلني     وقد تماديت في ذنبي ويسترني

أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً     على المعاصي وعين الله تنظرني

يا زلةً كتبت في غفلة ذهبت     يا حسرةً بقيت في القلب تحرقني

دع عنك عذلي يا من كان يعذلني     لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني

دعني أنوح على نفسي وأندبها     وأقطع الدهر بالتفكير والحزن

دعني أسح دموعاً لا قياس لهـا     فهل عسى عبرة منها تخلصني

كأنني بين تلك الأهل منطرح     على الفراش وأيديهم تقلبني

كأن ما كان حولي من ينوح ومن     يبكي عليَّ وينعاني ويندبني

وقد أتوا بطبيب كي يعالجني      ولم أر الطب في ذا اليوم ينفعني

واشتد نزعي وصار الموت يجذبها      من كل عرقٍ بلا رفقٍ ولا هون

وأخرج الروح مني في تغرغرها      وصار حلقي مريراً حين غرغرني

وسل روحي وظل الجسم منطرحاً      على الفراش وأيديهم تقلبني

وغمضوني وراح الكل وانصرفوا      بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن

وقام من كان أولى الناس بي عجلاً      إلى المغسل يأتيني يغسلني

وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً      حراً أديباً أريباً عارفاً فطن

فجاءني رجلٌ منهم فجردني      من الثياب وأعراني وأفردني

وأطرحوني على الألواح منفرداً      وصار فوقي خرير الماء يغسلني

وأسكب الماء من فوقي وغسلني      غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن

وألبسوني ثياباً لا كمام لها     وصار زادي حنوطي حين حنطني

وقدموني إلى المحراب وانصرفوا      خلف الإمام فصلى ثم ودعني

صلوا عليَّ صلاةً لا ركوع لها      ولا سجود لعل الله يرحمني

وأنزلوني في قبري على مهل      وأنزلوا واحداً منهم يلحدني

وأكشف الثوب عن وجهي لينظره          وأسبل الدمع من عينيه أغرقني

فقام محتزماً بالعزم مشتملاً      وأطرح اللبن من فوقي وفارقني

وقال: هلوا عليه الترب واغتنموا      حسن الثواب من الجبار ذي المنن

بكيت لما كساني الترب منجدلاً      صار التراب على ظهري فأثقلني

في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا      أبٌ صديق ولا أخٌ يؤانسني

وأودعوني ولجوا في سؤالهمُ      ما لي سواك إلهي من يخلصني

وهالني صورةٌ في العين إذ نظرت      من هول مطلع ما كان أغفلني

من منكرٍ ونكير ما أقول لهم      إذ هالني منهم أمر فأفزعني

جاءك منكر ونكير وقال لك: ماذا عملت في دنياك؟ تقول: نمت الليل إلى وقت الدوام، بعت أفلام الملاهي وأشرطة الفيديو، بعت آلات الطرب، سهرت مع الأصدقاء، ضيعت صلاة الجماعة، اشتغلت بالغفلة، طربتُ للغناء، نسيت ذكر الله، غفلت عن قبري.

وهالني صورةٌ في العين إذ نظرت     من هول مطلع ما كان أغفلني

من منكرٍ ونكير ما أقول لهم     إذ هالني منهم أمر فأفزعني

فامنن عليَّ بعفو منك يا أملي     فإنني موثق بالذنب مرتهن

تقاسم الأهل مالي بعد ما انصرفوا     وصار وزري على ظهري يثقلني

واستبدلت زوجتي بعلاً لها بدلي     وملكَّته على مالي وفي وطني

وصيرت ولدي عبداً ليخدمه     وصار مالي له ملكٌ بلا ثمن

فلا تغرنك الدنيا وزينتها     وانظر إلى أهلها في الأهل والوطن

انظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها     هل راح منها بغير القطن والكفن

انظروا إلى الملوك، انظروا إلى الأثرياء، انظروا إلى الحكام، انظروا إلى الرؤساء، انظروا إلى أرباب الأموال، هل جعلوا في القبر معهم رصيداً؟ أو وقف على القبر لهم حارساً؟ أو جعلوا في اللحد معهم خادماً؟

انظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها      هل راح منها بغير القطن والكفن

خذ القناعة في دنياك وارض بها     لو لم يكن لك إلا راحة البدن

يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي     فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

أحبتي في الله: هل سمعتم برجلٍ أو شابٍ إذا علم أن صديقه في السجن ذهب نجدةً ونخوةً وبذل شفاعته وجاهه وماله لكي يخرج صديقه من السجن، فأنت ماذا فعلت حتى تخرج نفسك من النار؟ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] ماذا فعلنا حتى نخرج أنفسنا من سجون اللحود إلى روضات الجنات؟ ينزل بنا الأصدقاء والأقارب والأهل، فننحر لهم الذبائح ونعد لهم الضيافة ونكرمهم ولا نبخل عليهم، لكننا نبخل على أنفسنا بالأعمال الصالحة، أي بخيلٍ أبخل من الذي يهمل نفسه ويجعلها مقادةً للشيطان، إذا قال له الشيطان: احلق لحيتك، توجه إلى المرآة فحلقها، إذا قال له الشيطان: اسبل ثوبك، أطلق ثوبه يجره، وهو يعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين ففي النار) إذا قال له الشيطان: اسهر هذه الليلة، سهر حتى ترك صلاة الفجر، إذا قال له الشيطان: اسمع هذا الطرب والغناء، ذهب ليشتري نسخة أصلية، ويباهي زملاءه وقرناءه وأنداده بوجودها عنده، وليست عندهم.

إذا قال له الشيطان ووسوس وأوحى إليه أي كافر: سافر إلى بلد الفجور والخنا والزنا، إذا وسوس له الشيطان: اشرب ما بدا لك، شرب وطاح ثملاً سكيراً مستطلاً، إذا قال له الشيطان: افعل كذا، استجاب وانقاد، يغويه الشيطان فيستجيب له: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] أولئك يعلمون ويسمعون مثل هذه المواعظ ويعرفون الخاتمة، ويعرفون الفناء وقرب الرحيل، ودنو الزوال، ومفاجأة الموت، وهول المطلع، وإفلاس النفس من شفاعة الأصدقاء والأقارب والجلساء، ولا يبقى لك إلا نفسك، إن كان معها عملٌ صالح يخلصك بهذا العمل بعد رحمة الله جل وعلا، وإلا فتبقى كسيراً طريداً شريداً وحيداً في قبرك، أفبعد هذا نتمادى يا عباد الله؟! أبعد هذا ننسى الآخرة؟ أبعد هذا نستمر على عصياننا؟ ويوم أن ينصحنا أحدٌ من الصالحين نقول: الحمد لله نحن ملتزمون، وإذا سمعنا ونظرنا إلى هذا الالتزام، وجدناه التزامٌ على سماع الغناء، والتزامٌ على سهرٍ في معصية، والتزامٌ على ترك صلاة الفجر والصلوات مع الجماعة، والتزام على المداهنة، والتزامٌ على ترك الأمر بالمعروف، والتزامٌ على ترك النهي عن المنكر، أي التزامٌ هذا يا عباد الله؟!

والله لقد زين الشيطان لأقوامٍ حسن أفعالهم.

يقضى على المرء في أيام محنته     حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

تأملوا وقفوا وحاسبوا أنفسكم أياماً قلائل وتصدر ميزانيتنا، فما هي ميزانية الأعمال الصالحة؟ فنمضي فنودع عاماً مالياً، سنسمع فيه كل شيء، فلنحاسب أنفسنا، ما هي ميزانيتنا المالية بالحسنات والسيئات؟ كم حسنة أودعناها في الصحيفة؟ وكم خزيةٍ وسيئة وعارٍ ومعصية أودعناها في الصحيفة؟ ولو ختم لنا بهذه الخاتمة بماذا نقابل الله؟

أيتسع القبر لمن تاجر بالملاهي؟ أيتسع القبر لمن ترك صلاة الجماعة؟ أينفرج اللحد لمن عصى الله جهاراً نهاراً؟ أيتسع القبر لمن جاهر الله بالمعصية؟ أيتسع القبر لمن غفل عن ذكر الله واستطرب الملاهي ومزامير الشيطان؟ أم يتسع القبر لعبدٍ من عباد الله مشى في ظلمة الليل والبرد القارس؟ (بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة) يتسع القبر لمن تدثر ملابسه ومضى يمشي خطوةً خطوة، وهو يسبح الله ويذكر الله، يسأل الله غفران زلة، ويسأل الله الثبات على يومٍ يستقبله، ويسأل الله استقبال يومٍ مليء بالصالحات، يتسع القبر ويرى الملائكة الحسان الوجوه، من حافظ على الصلاة مع الجماعة، من لم يتاجر بالملاهي، من لم ينشر الدعارة والأفلام الخليعة، من لم يساهم في نشر الفاحشة في المؤمنين، ينتظر أن يرى مقعده من الجنة، من دعا إلى الله على بصيرة، وأصبح هادياً مهدياً، داعياً إلى الله برحمةٍ من الله، لا بعمله ولا بقوله ولا بحوله، يقول صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

أسأل الله أن يتغمدنا برحمته، أسأل الله أن يتغمدنا برحمته، أسأل الله أن يتغمدنا برحمته، اللهم اغفر ذنوباً سترتها، اللهم اغفر ذنوباً سترتها، اللهم اغفر ذنوباً سترتها، اللهم امح سيئات ما علمها الناس وعلمتها، اللهم إنا نتوب إليك فتب علينا في هذه الساعة المباركة في هذا اليوم المبارك، في ساعةٍ لعلها ساعة إجابة، نسألك اللهم أن تعفو وتغفر ما سلف، وأن تهدينا إليك فيما بقي، اللهم ردنا إليك مرداً جميلاً، اللهم ردنا إليك مرداً جميلاً، اللهم ردنا إليك مرداً جميلاً، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم توفنا راكعين ساجدين، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم توفنا على ما يرضيك، اللهم توفنا على ما يرضيك، ولا تقبضنا على خزيٍ أو عارٍ أو شرابٍ أو معصيةٍ أو فاحشةٍ أو جريمةٍ يا رب العالمين.

اللهم زينا بزينة الإيمان، اللهم جملنا واسترنا بالإيمان، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين يا رب العالمين.

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم من كان منهم على ظهر هذه الدنيا حياً، اللهم متعه بالصحة والعافية على طاعتك، واختم اللهم له بمرضاتك.

اللهم لا تجعل لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2797 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2646 استماع
توديع العام المنصرم 2642 استماع
حقوق ولاة الأمر 2623 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2547 استماع
من هنا نبدأ 2491 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2430 استماع
الغفلة في حياة الناس 2430 استماع