شرح لمعة الاعتقاد [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فكان آخر ما تكلمنا عليه في هذه العقيدة هو قول المؤلف رحمه الله: (ومن ذلك قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ، وقوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، وذكرنا أن هذا المقطع الذي ابتدأه المؤلف رحمه الله بذكر هاتين الآيتين، ثم ذكر بعدها بعض الأحاديث إنما أتى به المؤلف رحمه الله لتقرير عقيدة السلف فيما يتعلق بعلو الله عز وجل، فإن هذه الآيات دالة على علوه واستوائه على عرشه.

أما الاستواء فقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، قد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، وهو دال على استوائه على عرشه، وقلنا: إن الاستواء يفيد إثبات العلو، ولذلك يذكر دائماً مع آيات العلو في كتب الاعتقاد، ووجه ذلك: أن الاستواء علو خاص، وهذا هو الفرق بين آيات العلو وبين آيات الاستواء، فالاستواء علو خاص، وهو علو اختص الله سبحانه وتعالى به العرش دون غيره من المخلوقات، والعرش مخلوق عظيم خلقه الله جل وعلا، واختصه بهذه الخاصية، وهي أنه استوى عليه جل وعلا بعد أن خلقه.

والعرش في لغة العرب: سرير الملك، وهو خلق من خلق الله عظيم.

شرح حديث الجارية وما في معناه

وأما قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] فهذا فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل، وقوله تعالى: فِي السَّمَاءِ [الملك:16] السماء يحتمل أحد معنيين:

المعنى الأول: السقف المحفوظ، والمعنى الثاني: أنه العلو؛ لأن السماء في لغة العرب: اسم جنس للعالي، فعلى المعنى الأول، وهو أن المقصود بالسماء: السقف المحفوظ، يكون قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: من على السماء، فـ( في ) بمعنى: (على).

وعلى المعنى الثاني، وهو أن السماء اسم لجنس ما علا، تكون ( في ) على بابها، وليست بمعنى (على)، على أننا نعتقد أن الله جل وعلا محيط بكل شيء، ليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه جل وعلا، بل هو العالي الذي لا شيء فوقه، فهو سبحانه عال على كل شيء، مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه، فليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه، تعالى الله عما يظن الجاهلون ويقولون علواً كبيراً، وهذا الذي ذكرناه في قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يجري في كل ما شابه هذه الصيغة.

فقوله رحمه الله: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك (.

( في السماء ) فيها وجهان:

الوجه الأول: أن المراد بالسماء السقف المحفوظ، والوجه الثاني: أن السماء المراد بها جنس ما علا، تقول: نزل علينا المطر من السماء، يعني: من جهة العلو؛ لأن المطر لا ينزل من السقف المحفوظ، وإنما ينزل من السحاب، كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15] يعني: يمدد بحبل إلى جهة العلو، فالسماء تطلق على جنس ما علا في لغة العرب، وتطلق أيضاً على السقف المحفوظ الذي جعله الله سبحانه وتعالى طباقاً.

ففي كل الموارد التي يرد فيها الخبر بأن الله جل وعلا في السماء، إما أن تقول: السقف المحفوظ، فتكون ( في ) بمعنى (على) وإما أن تقول: جهة العلو، فتكون ( في ) ظرفية على بابها.

قال رحمه الله: (وقال للجارية: (أين الله؟ قالـت: في السماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة)، هذا الحديث في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم في قصة ضرب جاريته، حيث سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، ثم سألها: أين الله؟ قالـت: في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) يقول: (رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة).

حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع حصين بن المنذر الخزاعي

ثم قال رحمه الله تعالى: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـحصين ) وهو حصين بن المنذر الخزاعي والد عمران بن الحصين رضي الله عنه، وكان في مكة أتاه قومه-وكان شيخاً كبيراً- وقالوا له: إن محمداً يسفه أحلامنا، ويذم آلهتنا، فأته لعله يسمع منك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي لأصحابه: (أوسعوا للشيخ) -لكبر سنه-فقال له ما قال ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم تسفيه آلهتهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا حصين ! كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من لرغبتك ورهبتك؟) يعني: من لما تحب وترغب؟ ومن لما تخاف وترهب؟ ومن الذي تدخره لمطالبك ومطامعك وآمالك فتسأله؟ قال حصين : (الذي في السماء) يعني: الله عز وجل، فـحصين في هذه الحال كافر؛ لأنه أخبر بأنه يعبد سبعة، ولا يكون هذا من مسلم، ومع ذلك يعتقد أن الله في السماء، وهذا دليل من الأدلة التي تضاف إلى ما ذكره شيخ الإسلام وغيره من أن إثبات العلو لا يختص أهل الإسلام بل يقر به كل إنسان من مسلم أو كافر، قال: (فاترك الستة واعبد الذي في السماء) أي: لا تتوجه إليهم بعبادة ولا رغبة، (واعبد الذي في السماء)، أي: أخلص عبادتك لله الذي في السماء.

(وأنا أعلمك دعوتين -وفي رواية-: كلمتين، فأسلم)، ظاهر هذا السياق أنه أسلم في الحال، والذي يظهر من الروايات الأخرى أنه أسلم بعد حين، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوفني ما وعدتني، علمني الكلمتن)، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمتين جامعتين تجمع للإنسان خير الدنيا والآخرة: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) وفي رواية: (وأعذني من شر نفسي) ومن وفق إلى الرشد وإلى الوقاية من شر النفس فقد جمع الله له الخير؛ لأن الوقاية والرشد تحصل بها الهداية، فإن من ألهم رشده، أي: أعطي الهداية ووفق إليها، ووقي شر نفسه، فقد كمل له العلم النافع والعمل الصالح، فهو سأل الله عز وجل ما يعين على الهداية واجتناب ما يمنع منها.

لأن الذي يحصل به الضلال وعدم الاستقامة أمران: الجهل، وهذا يتوقاه بقوله: اللهم ألهمني رشدي، واتباع الهوى، وهذا يتوقاه بقوله: وقني شر نفسي، فإن الإنسان قد يكون عالماً بالحق لكن يحول بينه وبين اتباعه والأخذ به نفسه واتباع شهواته، فإذا وقي هذا ووفق إلى ذلك فقد كمل له الخير، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: غريب، وقد حسنه جماعة من العلماء، وهو من رواية الحسن بن أبي الحسن البصري عن عمران رضي الله عنه.

من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة

قال: (وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة)، أي: كتب الأنبياء كالتوراة والإنجيل (أنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء).

وهذا وصف صادق على الأمة، فإن أهل الإسلام يسجدون في الأرض، ثم إذا سجدوا يقولون: سبحان ربي الأعلى، وبهذا فهم يزعمون أن إلههم في السماء، أي: في العلو؛ وأول ما ينقدح في القلب عند وصف الله أنه الأعلى، علوه جل وعلا بذاته في السماء.

وهذا أمر وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وغيرهم، فإن أهل البدعة ينكرون هذا النوع من العلو ويقولون: الأعلى قدراً، والأعلى قهراً، ولا يقولون: الأعلى ذاتاً، والعلو الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل هو العلو بأنواعه كلها، فله جل وعلا علو الذات، فهو فوق كل شيء سبحانه وبحمده.

وله علو القدر والشرف، فهو الذي له المثل الأعلى، وله الصفات العلا والأسماء الحسنى، وهو العالي على عباده قهراً كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].

والمتكلمون الذين ينكرون علو ذاته جل وعلا يقولون: إن قول الله جل وعلا: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] وقول الساجد: سبحان ربي الأعلى، إنما هو علو القدر والقهر، وهم في هذا باخسو الله جل وعلا علوه الذي اختص به وهو الأصل، فإن الأصل في العلو الثابت له هو علو الذات، وأما علو القدر وعلو القهر فهو من لوازم علوه جل وعلا.

فما ذكر في الكتب المتقدمة من أن هذه الأمة موصوفة بأنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء وصف مطابق لحال أمة الإسلام.

حديث الأوعال

قال: [ وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا) وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بين كل سماء والتي تليها، وذكر الخبر إلى قوله: (وفوق ذلك العرش والله سبحانه فوق ذلك) أي: فوق العرش، ويمكن أن يقول: والله سبحانه فوق ذلك، أي: فوق كل ما تقدم، وقوله: (والله سبحانه فوق ذلك)، يحتمل أن يرجع إلى العرش، ويحتمل أن يرجع إلى ما عداه من السموات المذكورة.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو مشهور عند أهل العلم بحديث الأوعال؛ لأن فيه ذكر الأوعال التي تحمل العرش، وهو حديث صحيح رواه أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه ابن خزيمة ، وقد طعن فيه بعضهم، لكن طعنهم واهٍ، فالحديث ثابت، ولا تنتفي صفة العلو بتشغيب من شغب بتضعيفه لأن الحديث والآيات مستفيضة في الدلالة على أن الله تعالى فوق كل شيء.

يقول رحمه الله: [ فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله ] (هذا) أي: ما تضمنته الآيات والأحاديث المتقدمة من إثبات استوائه جل وعلا وعلوه على عرشه، وما أشبهه مما أجمع السلف على نقله وقبوله، [ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله] بل جروا في هذه الصفة على ما جروا عليه في سائر الصفات، فهم لا يردون، ولا يكذبون، ولا يحرفون، ولا يمثلون.

واعلم أنه لا سلامة لأحد في خبر الله أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم عما يتصف به الرب جل وعلا إلا بسلوك هذا السبيل، فهو أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، أو يثبت ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فإن هذه الاحترازات الأربع، وهي نفي التحريف ونفي التعطيل، ونفي التمثيل ونفي التكييف، يسلم بها المرء من الضلالات في باب الأسماء والصفات، ولذلك كرر المؤلف رحمه الله قوله: (ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله)، فإن أهل السنة والجماعة يثبتون ذلك على الوجه اللائق بالله عز وجل، وأذكر دائماً أن حظ النصوص عند أهل السنة التسليم والقبول، مع حسن الفهم كما تقدم ذلك فيما ذكرناه من قول ابن القيم في نونيته:

فالجحد والإعراض والتأويل والتجهيل حظ النص عند الجاني

أما حظه عندنا فهو التسليم مع حسن القبول وفهم ذي إحسان

فإن هذين البيتين يختصران لك الضلالات التي وقع فيها من وقع في باب الأسماء والصفات، ويبينان لك طريق السلامة من هذه الضلالات؛ فيحسن حفظ هذين البيتين.

جواب الإمام مالك للسائل عن الاستواء

يقول رحمه الله في آخر ما ذكر في هذا الفصل: [ سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقيل: يا أبا عبد الله ! الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟]:

هذه القصة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله تناقلها العلماء، فإنه سأله رجل عن قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ وكان الإمام مالك رحمه الله يحذر من هذا السؤال، فسكت رحمه الله سكوتاً طويلاً كما ذكر الذهبي وغيره، حتى علته الرحضاء، أي: حتى علاه العرق من شدة ما اعتراه رحمه الله من غرابة هذا السؤال وعظمه، فوفق رحمه الله إلى جواب مسدد فقال: (الاستواء غير مجهول)، وفي بعض الروايات: الاستواء معلوم، والمعنى واحد، فغير المجهول هو المعلوم، أي: أن الاستواء لا يجهل في لسان العرب، فيدركه من له فهم بلغة العرب، هذا معنى قوله رحمه الله: الاستواء معلوم أو الاستواء غير مجهول.

ثم قال: (والكيف غير معلوم)، أي: كيفية هذا الخبر لا سبيل إلى علمها، لأن الله جل وعلا لم يبين لنا كيفية استوائه، فليس عندنا خبر من الله جل وعلا كيف استوى، لكن عندنا منه خبر أنه استوى، فالواجب أن نقف حيث وقف النص، فنثبت استواء الله جل وعلا على عرشه دون أن نتطرق إلى ذلك بطلب الكيفية، فإن الكيفية لا سبيل إلى تحصيلها ولا إلى إدراكها، قال الله جل وعلا، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] وهذا دليل على أن الكيفيات لا سبيل إلى تحصيلها، وأن الكيف مجهول غير معلوم.

فقوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمران:7] معناه: أن حقيقته وكنه خبره وما يئول إليه الخبر لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذا معنى قول مالك رحمه الله تعالى: (والكيف غير معقول) أي: لا سبيل إلى عقله وإدراكه؛ لأن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات، وليس لنا علم بكيفية الذات حتى نعرف ونعلم كيف صفاته سبحانه وتعالى.

ثم قال رحمه الله: (والإيمان به واجب) أي: الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، والذي يحصل به طمأنينة القلب وسكونه إلى خبر الله وخبر رسوله في هذه الصفة وفي غيرها واجب، فلا يسوغ لأحد أن ينكر الاستواء لكونه لم يعقل كيفيته، بل الواجب على المؤمن أن يقر بالاستواء الذي أخبر الله به عن نفسه، أما الذي يتعلق بالكيفية فأمرها إلى الله؛ لا سبيل إلى إدراكها ولا إلى العلم بها.

والإيمان به، أي: بالاستواء الذي أخبر به في كتابه واجب.

(والسؤال عنه بدعة) السؤال عن كيفية الاستواء وعن كيفية سائر الصفات بدعة، أي: محدث في الدين، وإذا كان بدعة فإن كل بدعة ضلالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فالواجب الكف عن هذا، ولو كان خيراً لسبقنا إليه سلف الأمة.

ثم أمر بالرجل فأخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحدثه، وفيما ذكره الذهبي رحمه الله من هذه القصة، أن الإمام مالك رحمه الله قال لهذا الرجل: (وإني لأظنك ضالاً، أخرجوه) فلما أخرجوه نادى الرجل الإمام مالك رحمه الله قال: يا أبا عبد الله ! لقد سألت عن هذا أهل الكوفة والبصرة والعراق، فلم أجد أحداً وفق إلى ما وفقت إليه.

كأن هذا الرجل وجد جواب الشبهة التي دارت في صدره وحارت، وطلب جوابها عند علماء البصرة وعلماء الكوفة وعلماء العراق، فلما أجابه الإمام مالك رحمه الله بهذا الجواب شفى ما في قلبه من شبهة، وأزال ما في قلبه من عارض، وهذا الجواب لم يكن جواباً مخترعاً من الإمام مالك رحمه الله، بل إنه قد نقل عن غيره من أئمة السلف، فهو منقول عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله، وقد نقل عن بعض الصحابة كـأم سلمة، فالمراد: أنه منقول عن غير واحد من سلف الأمة، وقد تلقاه علماء الأمة بالقبول، فكثير من أهل العلم يتناقل هذا القول ويحتج به، وهو قول مسدد في جواب هذه الشبهة.

وأما قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] فهذا فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل، وقوله تعالى: فِي السَّمَاءِ [الملك:16] السماء يحتمل أحد معنيين:

المعنى الأول: السقف المحفوظ، والمعنى الثاني: أنه العلو؛ لأن السماء في لغة العرب: اسم جنس للعالي، فعلى المعنى الأول، وهو أن المقصود بالسماء: السقف المحفوظ، يكون قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: من على السماء، فـ( في ) بمعنى: (على).

وعلى المعنى الثاني، وهو أن السماء اسم لجنس ما علا، تكون ( في ) على بابها، وليست بمعنى (على)، على أننا نعتقد أن الله جل وعلا محيط بكل شيء، ليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه جل وعلا، بل هو العالي الذي لا شيء فوقه، فهو سبحانه عال على كل شيء، مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه، فليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه، تعالى الله عما يظن الجاهلون ويقولون علواً كبيراً، وهذا الذي ذكرناه في قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يجري في كل ما شابه هذه الصيغة.

فقوله رحمه الله: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك (.

( في السماء ) فيها وجهان:

الوجه الأول: أن المراد بالسماء السقف المحفوظ، والوجه الثاني: أن السماء المراد بها جنس ما علا، تقول: نزل علينا المطر من السماء، يعني: من جهة العلو؛ لأن المطر لا ينزل من السقف المحفوظ، وإنما ينزل من السحاب، كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15] يعني: يمدد بحبل إلى جهة العلو، فالسماء تطلق على جنس ما علا في لغة العرب، وتطلق أيضاً على السقف المحفوظ الذي جعله الله سبحانه وتعالى طباقاً.

ففي كل الموارد التي يرد فيها الخبر بأن الله جل وعلا في السماء، إما أن تقول: السقف المحفوظ، فتكون ( في ) بمعنى (على) وإما أن تقول: جهة العلو، فتكون ( في ) ظرفية على بابها.

قال رحمه الله: (وقال للجارية: (أين الله؟ قالـت: في السماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة)، هذا الحديث في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم في قصة ضرب جاريته، حيث سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، ثم سألها: أين الله؟ قالـت: في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) يقول: (رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لمعة الاعتقاد [17] 2741 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [1] 2098 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [18] 2028 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [10] 1988 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [5] 1834 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [8] 1781 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [16] 1776 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [19] 1747 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [3] 1707 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [12] 1479 استماع