مفاهيم رمضانية


الحلقة مفرغة

الحمد لله المبدئ المعيد، الفعَّال لما يريد، خلق الخلق بعلمه، وقدَّر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، لا يستأخرون عنها ساعة ولا يستقدمون، قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8] ومشيئته تنفُذ لا مشيئة العباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن: عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] فله الحمد كله: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود:123] وبيده الخير كله: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من صلى وقام، وحج وصام، ونصح لله، وجاهد فيه حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، أولي العفاف والنُّهى، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها الناس: لا وصية مبذولة، ولا تذكير مقروء، يقرب إلى الله من تقواه سبحانه، فاتقوه وراقبوه على كل حال، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

أيها المسلمون: في شهر رمضان المبارك تتجلى أسرار خوالد، وتترادف حلقات حِكَم بواهِر، يَتَضَوَّأ بعضُها على بعض، بحيث لا يُمَل كثرةُ الحديث عنها، فلا تخْلَق جِدَّتُه، ولا يَبْلى ترجيعُه، ولا تُسْأَمُ سيرتُه، بل قد يحلو إذا أُعيد وتكرر، كما يحلو مذاق الشهد عند تكريره.

ولأجل ذا -عباد الله- ما برحت النفوس المسلمة تشرئب لمثل هذه الإطلالة السنوية والتي تعم المدر والوبر ما عم الأجدَّان: الليل والنهار.

فلا غروَ إذاً عباد الله، حين نسلط الضوء ولو قليلاً على ما نصحح به بعض مفاهيمنا أو رتابتنا مع شهر رمضان، وما نحيي به ما تراكم عليه غبار النسيان في النفوس، حين يتخذ كثير من الناس في هذا الشهر صورة تقليدية تحكمها حركة العادة، لا حركة العبادة.

ففي هذا الشهر المبارك -عباد الله- تُشَدُّ النفوسُ إلى الدين والتديُّن، يذكرهم هذا الشهر بحق الله تعالى عليهم، تُشَمُّ رائحة التديُّن في أكثر من مجلس يُجلس فيه، يُحَث بإقبال الناس على العبادة والعمل الصالح، حتى إنهم يرفعون بذلك درجة الاستعداد لتغيير ما في النفوس، حتى يغير الله ما بهم: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

يشعر الكثيرون في هذا الشهر المبارك بضرورة هذا الدين لهم، كضرورة الماء والهواء، ثم إن كل أمة تهمل أمر دينها، وتعطل كلمة الله في مجتمعها، فإنما تهمل أعظم طاقاتها، وتعطل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة.

وكل أمة يُفْقَد التدين في مجتمعها، فلا جرم أن أمورها تضطرب، ويموج بعضُها في بعض، فيقلب الله عزها ذلاً، وأمنها خوفاً، وإحكامها فوضى.

في شهر رمضان المبارك ترتفع معايير القوة لدى المرء المسلم؛ بحيث يصعب اهتزازه، إذا هو أحسن الإعداد فيه، وأدرك سراً عظيماً من أسرار هذا الشهر، قد تمثل في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النيران، وصُفِّدت الشياطين ) رواه البخاري ومسلم .

يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: لأن في الصوم تضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب.

فالخشية إذاً كل الخشية -عباد الله- على أنفسٍ مسلمة لم تجعل للشيطان حساباً في واقعها، وباتت غير آبهة بمكره وألاعيبه، هو وجندُه من الجن والإنس: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

الشلل الأخلاقي

إنه مما لا شك فيه أن النفوس المسلمة قد تكون معترفة بقابليتها لألاعيب الشيطان ومكره؛ لكونها غير معصومة؛ إلا أن بعض هذه النفوس قد اعتقد أهلها أنهم محميون ضد آثاره وإفساده، بعد أن كوَّنوا حولهم هالة زائفة من الاطمئنان لأحوالهم وأوضاعهم الرتيبة، مع الاكتفاء بظواهر طفيفة من الإسلام، حتى أمسوا وكأن ما يحملونه هو الإسلام فحسب، مما يحرمهم ولا شك من إصلاح أخطائهم من جهة، ومن الاستفادة من الصواب الذي يأتي به الخير من جهة أخرى.

ألا إن هذا هو الشلل الأخلاقي بقضه وقضيضه، وهو الارتضاع من ثدي الهوى بعد الفطام، مع أن الرضاع إنما هو للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، والذين يتضورون على مرارة الفطام.

فلا جرم عباد الله! إذ الهوى مكايد، وكم من صنديد في غبار الحق اغتيل! كيـف لا ورسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم }؟! رواه البخاري ومسلم .

إن الشعور الدائم بالتقصير هو الشعور الإيجابي المثمر الذي يدفع للعمل الآني واليومي، كما أن الشعور بالكمال العقيم شعور عاطفي، لن ينفي عن كل مسلم مسئوليته أمام الله عن أي سوء في حاله أو سلوكه أو حياته، دينياً كان أو دنيوياً: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه [النساء:123].

بطولات رمضان وأمجاده

أيها المسلمون: كثيرون هم الذين يتحدثون من على منابر متنوعة عن شهر رمضان، وأنه شهر البطولات والأمجاد، وهذا أمر لا مراء فيه ولا جدال، غير أن الذي يجب تأكيده والثبات عليه هو أن البطولات والأمجاد لا تنال بمجرد التمني والتخييل؛ في حين أن القلب غافل لاهٍ.

ألا إن للبطولات والأمجاد ثمناً يندر تحصيله والوقوف عليه؛ لأن سلعة الله غالية، وسلعة الله هي الجنة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً [التوبة:111].

إن هذه السلعة -عباد الله- هي الرابط الأساس بين المؤمنين وبين نصر الله لهم، وإنهم كلما كانوا إلى تحصيل هذه السلعة أقرب، كان النصر إليهم أقرب، والعكس بالعكس، ولا أدَلَّ على ذلك من قوله تعالى عن غزوة أحد حين ذاق فيها المسلمون أول هزيمة لهم إبَّان أوج كيانهم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152].

إن أثر المعصية وشؤمها على المجتمعات المسلمة أنها لفي أمر مريج؛ من كثرة المواقعين لها، والعابِّين من قيعانها كَمَا الهيم.

إلا أن للنصر شروطاً، منها: جز المعاصي، والنأي بالنفس عن أن تواقعها أو تتراءى لها؛ ولا أدل على أثرها في الخذلان والهزيمة أمام العدو من قول ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه أحمد في مسنده عن هزيمة أحد : [[فلو حلفتُ يومئذٍ رجوتُ أن أبَر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] ]].

الطريق إلى النصر

إن طريق المسلمين إلى النصر هو في سلوك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما أحيا ليله في بدر ، وهو قائم يصلي، ويلظ بالحي القيوم؛ ليتأكد من خلال هذا عِظَم شأن الصلاة واللجوء إلى الله في كشف الملمات ورفع النوازل، فقد جاء في السنن : {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة }.

إن شعوباً لا تخاف إلا الله لن يغلبها من لا يخاف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل، فجند الله هم الغالبون بالسيف والسنان، كما أنهم هم الغالبون بالحجة واللسان؛ غير أن الأمر قد بات من الخطورة بحيث يوجِِب البحث عن الأسباب المفضية إلى ضعف المسلمين وإلى تكاثر خسائرهم الفادحة، ثم لننظر إلى مصدرها. هل هو خلل ثقافي، أو عوج خُلُقي، أو تضارب سياسي واجتماعي، وما الذي أفقد الأمة كيانها، وجعلها تتلقى الضربات تلو الضربات، ثم هي تُصْرَع أمامها.

عباد الله: في شهر رمضان المبارك يلوح عبر الأجواء المطمئنة خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين الذي هو مفتاح القبول لدى القلوب، والذي يضع الحياة الهانئة محل الجاهلية الجهلاء والأثرة العمياء، فيرهُف الطبع، وتَجِمُ فيه النفس؛ إذ هذا هو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصرة حين تُخْذَل القوة.

إنه لو أدرك المرء المسلم أن أول حق للمسلمين عليه أن يحمل في نفسه معنى الناس، لا معنى نفسه، لَعَلِم أن مَن فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز، كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة، بهذا الأثر الطيب يحس المرء بقيمة المال، لما يحققه من مصالح، ويضمنه من منافع.

الضوابط المالية في الكسب والإنفاق

إن الأمة المسلمة يوم يكون مالها أداة ترف ومصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون الأغنياء وذوو اليسار أحلاس شح وبخل، فالويل والخسران لأمة أورثها مالهُا هذه الحال.

الجمع بين الصيام والصدقة موجب من موجبات الجنة؛ حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة غرفاً يُرى ظهورُها من بطونها، وبطونُها من ظهورها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى والناس نيام } رواه أحمد والترمذي .

إن من القسوة -عباد الله- أن يمنع الواجد المعونة، وأن يتقلب في رغد من العيش وسعة من الرزق، ومن أتت عليهم صروف الحياة في شدة من الضيق وألم من الإعسار، ومن هذه حاله فلا جرم أنه قاسي القلب خالٍ من الشفقة، وكأنما قُدَّ قلبُه من صخر صلب، فهو بعيد من رحمة الله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].

إن المال غادٍ ورائح، ومقبل ومدبر، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل، وبلوغ الأَرَب الأخروي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى } رواه البخاري ومسلم .

فرحم الله عبداً كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل، ورُزِق فأنفق، وذكر ربه، ولم ينس نصيبه من الدنيا، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، ويا خيبة من طغى عليه ماله، وأضاع دينه وكرامته، فضل وطغى أن رآه استغنى!! وكان من الذين قال الله فيهم: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً [الجمعة:11].

إن الواجب على الأمة المسلمة ألا تعظم الدينار والدرهم لئلا تستعبدها المعاني المنحرفة في النظرة للمال والحياة، فيكنز الغني مالاً، ويكنز ذو المسغبة عداوة؛ وليعلم الجميع أن العزة في الإسلام بإنفاق المال لا بإمساكه، وفي بذل الحياة لا في الحرص عليها، وفي اعتبار الغني ما يعمل بماله، لا ما يجمع منه؛ وبهذا كله غلب أهل الإسلام الأمم، لأنهم قبل ذلك غلبوا النفوس والشهوات.

ألا إن النعم لا تدوم، وإن مع اليوم غداً، وإن بعد الحياة موتاً، وإن بعد الموت لحساباً: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].

أقول ما تسمعون.

وأستغفر الله.

إنه مما لا شك فيه أن النفوس المسلمة قد تكون معترفة بقابليتها لألاعيب الشيطان ومكره؛ لكونها غير معصومة؛ إلا أن بعض هذه النفوس قد اعتقد أهلها أنهم محميون ضد آثاره وإفساده، بعد أن كوَّنوا حولهم هالة زائفة من الاطمئنان لأحوالهم وأوضاعهم الرتيبة، مع الاكتفاء بظواهر طفيفة من الإسلام، حتى أمسوا وكأن ما يحملونه هو الإسلام فحسب، مما يحرمهم ولا شك من إصلاح أخطائهم من جهة، ومن الاستفادة من الصواب الذي يأتي به الخير من جهة أخرى.

ألا إن هذا هو الشلل الأخلاقي بقضه وقضيضه، وهو الارتضاع من ثدي الهوى بعد الفطام، مع أن الرضاع إنما هو للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، والذين يتضورون على مرارة الفطام.

فلا جرم عباد الله! إذ الهوى مكايد، وكم من صنديد في غبار الحق اغتيل! كيـف لا ورسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم }؟! رواه البخاري ومسلم .

إن الشعور الدائم بالتقصير هو الشعور الإيجابي المثمر الذي يدفع للعمل الآني واليومي، كما أن الشعور بالكمال العقيم شعور عاطفي، لن ينفي عن كل مسلم مسئوليته أمام الله عن أي سوء في حاله أو سلوكه أو حياته، دينياً كان أو دنيوياً: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه [النساء:123].




استمع المزيد من الشيخ سعود الشريم - عنوان الحلقة اسٌتمع
ربما تصح الأجسام بالعلل 2766 استماع
السياحة من منظور إسلامي 2556 استماع
لا أمن إلا في الإيمان!! 2468 استماع
حاسبوا أنفسكم 2425 استماع
العين حق 2382 استماع
كيف نفرح؟ 2347 استماع
مفهوم السياحة ومخاطرها [1] 2296 استماع
رحيل رمضان 2245 استماع
مخاصمة السنة 2164 استماع
أمّ الخبائث 2093 استماع