أكثروا من ذكر هاذم اللذات


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الحياة الدنيا دار عمل ولا جزاء، وجعل بعدها الآخرة دار جزاءٍ ولا عمل، وامتحننا بالموت والحياة؛ ليبلونا أينا أحسن عملاً، وأقام علينا الحجة البالغة لله جل جلاله، وجعلنا تحت خمس رقابات:

الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله، فهو الشاهد الذي لا يغيب ولا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والرقابة الثانية: رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، فإنهم يعلمون ما يعمله الإنسان، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12].

والرقابة الثالثة: رقابة الرسول الشهيد، فإنه يشهد علينا بأعمالنا التي تعرض عليه في قبره، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن صلاتنا معروضة عليه، وورد عنه: أن الأعمال كلها تعرض عليه في قبره؛ لأن الله حكم بشهادته علينا، وقال في ذلك: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، ومن المعلوم في الشرع أن من لم يعلم شيئاً لا يحل له أن يشهد به؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، ويقول تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86].

والرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين، فهم شهداء الله في أرضه، كما قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار).

والرقابة الخامسة: رقابة الإنسان على نفسه، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[القيامة:14] وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[القيامة:15]، فستشهد عليه جوارحه وملابسه وأطرافه يوم القيامة، كما قال الله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65], وقال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ[النور:24-25]، وقال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ[فصلت:21-22].

فإذا تذكر الإنسان ذلك تذكر أن له خمسة أعمار:

عمره الأول: كان في عالم الذر، عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته، فقال آدم: ( أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم أخرج منه ذرية أخرى، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلقهم حتى ما يتميزون فناداهم وقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا ).

والعمر الثاني: هو عمر الإنسان فوق الأرض، ويبدأ من نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، وينتهي بانتزاع الروح منه عند الموت.

والعمر الثالث: هو عمره تحت الأرض في البرزخ بعد الدفن.

والعمر الرابع: هو عمره فوق الساهرة في المحشر في يوم القيامة، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6].

والعمر الخامس: هو عمره الأبدي السرمدي في جنة أو في نار، وهذا العمر هو أطول الأعمار؛ لأنه لا نهاية له، فبعد أن يدخل الإنسان الجنة لا يخرج منها، وكذلك بعد أن يدخل أهل النار النار يمكثون فيها آماداً غير متناهية، ولذلك يقول لهم مالك خازن النار بعد أن يلتمسوا منه الإخراج أربعين سنة، وهم يقولون: يا مالك نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فيقول: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]، فهم لابثون فيها أحقاباً، أي: أزمنة طويلة، وسنوات مديدة عديدة، مستمرون على ذلك العذاب الشديد.

فإذا أدرك الإنسان ذلك حرص على ما ينجيه؛ لأن العاقل إذا كان يعلم أن مستقره إنما هو في منزله، وأن مدة بقائه في مكتبه أو في سوقه مدة محصورة، فإنه يجعل وسائل راحته ونومه وهدوئه في بيته الذي يستقر فيه، ولا يمكن أن يجعل ذلك في المكان الذي يمكث فيه ساعة قليلة، ومدة بقائنا في هذه الحياة الدنيا ساعة قليلة؛ لأننا بعد الموت نسأل فيقول الله تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116]، فلا بد من الاستعداد للرحيل من هذه الحياة الدنيا، وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، والراكب إذا استظل بالشجرة فإنها لا يريد البقاء الأبدي السرمدي تحتها، وإنما يريد أن يجعلها متاعاً لمدة محددة، ثم بعد ذلك ينطلق في سفرته، ولا يمكن أن يتخذ هذا دار قرار، فالعاقل ينظر إلى هذه الدنيا بهذه النظرة، فقد قامت عليه الشواهد بذلك، فأين آباؤنا وأمهاتنا إلى آدم عليه السلام، ألم يسبقونا إلى الدار الآخرة؟ وكل يوم نرى بعثاً ينطلق إلى الدار الآخرة، ممن هو أسن منا, وممن هو أكبر, وممن هو أصغر, وممن هو معاصر من أولادنا وإخواننا وأخواتنا، ينطلقون إلى الدار الآخرة يُحملون على الرقاب، لا يصحبهم إلا عملهم، وتنقطع أخبارهم بعد ذلك.

ونحن نعلم أن القبر هو أول منازل الآخرة، وأنه أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، فإنه ينسي الإنسان كل ما سبق عليه من النعيم والراحة وكل ما سبق عليه من الأذى والإهانة والمرض وغير ذلك؛ لأنه أعظم من كل ذلك كله، وبعد ذلك يأتي ما فيه من المشاهد من ذلك العمر، كسؤال الملكين منكر ونكير، وكعرض العمل على الإنسان، وكعرض مقعده من الجنة والنار، وهكذا حتى يخرج منه الإنسان إلى البعث، فنحتاج إلى الاستعداد لهذا الامتحان الحتمي الذي لابد منه، وقد قامت الشواهد علينا به، ولا أحد منا ينكر أنه سائر إلى ذلك الطريق.

فإننا مررنا في خلقتنا بتسع مراحل قد مضى منها سبع وبقي اثنتان، فقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:12-16]، والإنسان إذا أدرك أن الموت ليس مجرد بلاءٍ، بل هو انتقال من دار إلى دار, وتحول من حال إلى حال، وأهله الذين شاهدوه قد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وقدموا إلى ما قدَّموا، وانتقلوا إلى دار لا عمل فيها إلا من قبل العمل أو تجاوز الله سبحانه وتعالى وتغمده برحمته، فإنه لابد أن يتزودوا لهذا السفر الطويل.

وإذا أدرك الإنسان أنه قريب ويأتي بغتةً، فكم من إنسان نام وهو صحيح الجسم لا يشكو مرضاً أياً كان، ومات في نومته، وكم من إنسان خرج إلى بيته دون أن يقوض أغراضه فمات بحادث سير، وكم من إنسان فوجئ فجأةً بألم عارض فكان سبب موته، وكم من إنسان فحص كل الفحوص ولم يجد فيه مرضاً ثم بعد ذلك مات بغير سبب.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

فإذا كنا موقنين بأنه آتٍ لا محالة، وأدركنا أنه مجرد مرحلةٍ نمر بها ونعبر منها إلى معبر آخر أكبر منها، فلا بد من الاستعداد لذلك، والاستعداد لا يكون إلا اليوم ما دمنا في هذه الحياة وحال التصرف والاستغناء، فإن الإنسان إذا مات ورأى الأموات في قبورهم وبات بينهم ليلته الأولى التي هي إحدى الليلتين العظيمتين، فهي ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلمها: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة، إذا أدرك ذلك لابد أن يتزود، فقد حدد من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:

أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

فمن لم يرصد للموت رصداً ولم يتهيأ لها فإنه مغبون لا محالة، وقد صح في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة, والفراغ)، وقد

أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة قبل الموت فقال: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فالدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر

الاستعداد بالتوبة النصوح

والاستعداد للموت والانتقال إلى الدار الآخرة إنما يكون أولاً: بالتوبة إلى الله، فهي أول مقامات اليقين، وأول ما نقدم به على الله، وقد سمعتم قول ربكم وهو يناديكم نداءً كريماً وهو غني عنكم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ[الزمر:53-54]، ومعنى (أنيبوا إلى ربكم): توبوا إليه، وقد أمركم بذلك في عدد كثير من الآيات، فقد قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، فأول ما يقدم به الإنسان مما ينجيه هو التوبة إلى الله، فنحن قد فرطنا في جنب الله, ومضت علينا السنوات والشهور والأيام ونحن غافلون عن المصير إليه, والوقوف بين يديه.. غافلون عن تكاليفه.. غافلون عن إحسانه إلينا ونعمته التي لا نحصيها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53].

واللؤم مع الله جل جلاله هو شر لهم، فالإنسان اللئيم هو الذي يحسن إليه غيره فيقابل إحسانه بالإساء، ونحن قد أحسن الله إلينا فجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وهدانا إلى الإسلام، وأرسل إلينا أفضل الرسل, وأنزل علينا أفضل الكتب، وشرع لنا خير شرائع الدين، وأنعم علينا بالصحة والعافية، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، فاللؤم مع الله أن لا نقابل هذه النعمة بشكرها والاعتراف بها, وبالتوبة إليه جل جلاله من تفريطنا في ذلك.

الحرص على الاستقامة

ثم بعد هذه التوبة لابد أن يحرص الإنسان على أن يكون من أهل الاستقامة، فإن الإنسان قد يتردد على لسانه الاستغفار، وقد يتوب في هذه اللحظة من موعظة عارضة أو أمرٍ ما، ثم يعود إلى ذنبه الذي كان منه وقد ندم عليه، وحينئذٍ يكون من المتذبذبين الذين لا يثبتون، ويخشى عليهم سوء الخاتمة عند الممات، فالذي يحرص على حسن الخاتمة لابد أن يحرص على الاستقامة على الطريق بعد أن رآه؛ لأن الله تعهد بصرف الذين لا يرتضي لهم الموت على الشهادة، ولا يرتضي لهم حسن الخاتمة، فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11].

الحرص على العلم والعمل والدعوة إلى الله والصبر على ذلك

ثم بعد الاستقامة على الطريق لابد أن يعلم الإنسان أنه مطالب بالعلم وبالعمل، فيخصص جزءًا من وقته للعلم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلمه، ثم بعد ذلك يخصص جزءاً للعمل به وتنزيله، ثم بعد ذلك يخصص جزءًا من وقته للدعوة إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تلقاه عنه وعمل به في خاصة نفسه، وبعد ذلك يصبر على الطريق، فإنه مفتون عليه, كما قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3].

وإذا أدرك الإنسان أنه مشارك في الارتحال لا ينجيه منه التخلف، ولا يستطيع التخلف عنه، وليس له أعذار، هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36]، فإنه لابد أن يستعد للارتحال إذا كان عاقلاً وإلا عرف النتيجة من البداية، وهي أنه سيكون في أسفل سافلين, وفي الأرذلين المغضوبين عند الله جل جلاله، فالعاقل لا يرضى بذلك، بل لابد أن يحرص على النجاة من عذاب الله, والنجاة من الخزي يوم القيامة، فإنه الخزي الذي لا يمكن أن يتنجى منه الإنسان ولا أن يتطهر منه أبداً، فخزي يوم القيامة هو العار والشنار الذي لا يمكن أن يتخلص منه صاحبه، أما خزي الدنيا فقد تعقبه التوبة, وقد يصلح الإنسان حاله، وقد يتغير إلى صلاح، لكن خزي الآخرة ليس بعده فلاح أبداً، فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على عدم الخزي بين يدي الله جل جلاله وهو يعلم أنه موقوف عليه.

ومما يعين الإنسان على ذلك أن يتذكر مسيرته ورحلته، فنحن في رحلة شاقة، بدأت من تكليفنا في هذه الدار ومرت بكثير من الخطوات والفتن التي تُعرض عليها القلوب كأعواد الحصير عوداً عوداً، فكل يوم يُفتن أناس فلا يثبتون ويكونون خاسرين خائبين، وكل يوم يوفق آخرون ويثبتون، كما قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، فمن هداه الله فبفضله, ومن أضله فبعدله: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

والاستعداد للموت والانتقال إلى الدار الآخرة إنما يكون أولاً: بالتوبة إلى الله، فهي أول مقامات اليقين، وأول ما نقدم به على الله، وقد سمعتم قول ربكم وهو يناديكم نداءً كريماً وهو غني عنكم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ[الزمر:53-54]، ومعنى (أنيبوا إلى ربكم): توبوا إليه، وقد أمركم بذلك في عدد كثير من الآيات، فقد قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، فأول ما يقدم به الإنسان مما ينجيه هو التوبة إلى الله، فنحن قد فرطنا في جنب الله, ومضت علينا السنوات والشهور والأيام ونحن غافلون عن المصير إليه, والوقوف بين يديه.. غافلون عن تكاليفه.. غافلون عن إحسانه إلينا ونعمته التي لا نحصيها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53].

واللؤم مع الله جل جلاله هو شر لهم، فالإنسان اللئيم هو الذي يحسن إليه غيره فيقابل إحسانه بالإساء، ونحن قد أحسن الله إلينا فجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وهدانا إلى الإسلام، وأرسل إلينا أفضل الرسل, وأنزل علينا أفضل الكتب، وشرع لنا خير شرائع الدين، وأنعم علينا بالصحة والعافية، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، فاللؤم مع الله أن لا نقابل هذه النعمة بشكرها والاعتراف بها, وبالتوبة إليه جل جلاله من تفريطنا في ذلك.

ثم بعد هذه التوبة لابد أن يحرص الإنسان على أن يكون من أهل الاستقامة، فإن الإنسان قد يتردد على لسانه الاستغفار، وقد يتوب في هذه اللحظة من موعظة عارضة أو أمرٍ ما، ثم يعود إلى ذنبه الذي كان منه وقد ندم عليه، وحينئذٍ يكون من المتذبذبين الذين لا يثبتون، ويخشى عليهم سوء الخاتمة عند الممات، فالذي يحرص على حسن الخاتمة لابد أن يحرص على الاستقامة على الطريق بعد أن رآه؛ لأن الله تعهد بصرف الذين لا يرتضي لهم الموت على الشهادة، ولا يرتضي لهم حسن الخاتمة، فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11].




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4771 استماع
بشائر النصر 4274 استماع
أسئلة عامة [2] 4115 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3979 استماع
نواقض الإيمان [2] 3934 استماع
اللغة العربية 3918 استماع
عداوة الشيطان 3918 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3890 استماع
القضاء في الإسلام 3881 استماع