المسابقة إلى الخيرات


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الوقت هو الحياة، وإن عمر الإنسان قصير، وإن هذه الحياة هي دار الامتحان، فعلى الإنسان أن يبادر فيها للطاعات ما دامت الفرصة مواتية وسانحة، فإن هذه الدنيا دار انتقال، وبقاء الحال من المحال، ولذلك سرعان ما ينتقل عنها الإنسان ولم يشف منها غله، بل إن الذين انتقلوا من هذه الدار يتمنون الرجوع إليها ولو لحظة واحدة، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].

وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالمبادرة إلى الطاعات والمسارعة فيها، فقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148]، وقال تعالى: سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:133-135]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[الحديد:21].

إن هذه الدنيا مجال للمسابقة، والناس فيها كل يوم في مسابقة جديدة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فيغدو الإنسان في صباحه بعمر جديد؛ لأنه عند نومه طويت صحائف أمسه، وختم عليها، ولا تنشر إلا عندما توضع الموازين بالقسط ليوم القيامة، في كل يوم ينادي المنادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، عليك فيه لله خطاب أكيد، فلا تضيع الفرصة ثم إذا غربت شمس ذلك اليوم ذكر الموت الإنسان مرة أخرى بالليل: (فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).

ولهذا فإن عمل الشيطان يتركز في هذه الحياة الدنيا على شغل الإنسان عن المبادرة إلى الطاعة، فيحاول معه تطويل الأمل، وهو الداء الأول للبشر، يقول له: إن أمامك عمراً طويلاً. كما يقول للنائم عندما يعقد ثلاث عقد على قفاه: إن عليك ليلاً طويلاً فنم. يضرب بذلك في كل عقدة، فكذلك يقول للإنسان: إن أمامك عمراً طويلاً، فما لم تفعله في هذا اليوم ستفعله غداً، وما لم تفعله في هذا الشهر ستفعله في الشهر القادم وما لم تفعله في الشهر القادم. ستفعله في السنة القادمة، وهكذا فيطول الأمل، وقبل أن ينتبه يأتي الأجل، فالأمل أتى به الله سبحانه وتعالى ليعمل الناس في الدنيا، لا ليطيلوا الأمل فيغتروا به، وقد ورد في حديثٍ فيه ضعف (إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم من ظهره رآهم فأعجبته كثرتهم، فقال: أي رب! كيف يعيش هؤلاء في هذه الأرض؟ فقال: إني خالق موتاً. فقال: إذاً لا ينعم لهم بال عليها. قال: إني خالقٌ أملاً).

فبالموت ينتقصون حتى تحملهم الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، وبالأمل تهدأ قلوبهم في هذه الدنيا، ويطمئنون إليها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه: (أنه خط خطاً مربعاً، وخط في داخله خطاً، ثم أخرج منه خطاً طويلاً، ثم خط خطوطاً صغيرة في الأطراف، فوضع إصبعه على الخط الذي في داخل المربع فقال: هذا الإنسان، ثم وضع إصبعه على المربع فقال: وهذا أجله. ثم وضع إصبعه على الخط الخامس فقال: وهذا أمله، ثم وضع إصبعه على الخطوط الصغيرة فقال: وهذه الأعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا)، فما يعرض للإنسان من الأمراض والآفات هي مقدرة عند الله سبحانه وتعالى، فإن أخطأه هذا أصابه الذي يليه، وهكذا.

العمر الأول: عمر الدنيا نفسها

ومن هنا فإن للإنسان في هذه الدار ثلاثة أعمار:

فهي دار عمل ولا جزاء، والناس بخروجهم منها سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على أن لا يكون زاد، والمسيء يندم على إساءته، وفي ذلك فما من إنسان إلا وهو يتمنى الرجوع إليها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين أنه قال: (ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وكذلك فإن الشهداء يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا فيقتلوا مرة أخرى في سبيل الله، وكذلك كل من أحسن في عمله يتمنى أن يرجع إلى الدنيا حتى يزيد من الطاعات؛ لما يراه من تفاوت أحوال أهل الآخرة، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة، فأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، وهذه الكواكب التي نراها يصل إلينا نورها وضوؤها وهو من ملايين السنين يتجه إلينا، فلا تظن أن الضوء الذي نراه هو ابن وقته، بل هو من ملايين السنين يتجه إلينا، فهذا الفرق الشاسع بين أحوال أهل الآخرة، وهذا في حق أهل الجنة فكيف بمن سواهم؟!

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً صلباً ألقي في جهنم فمكث سبعين خريفاً يهوي حتى وصل إلى قعرها، فلذلك على الإنسان أن يعلم أن هذا العمر الأول الذي هو عمر هذه الدنيا منقضٍ لا محالة، وأن نهايته حتمية، فهذه الدنيا غير باقية، ولذلك فإن اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو أو أن يكون مشتقاً من الدناءة، فالدنيا إما أن تكون من الدنوِ لقربها من الآخرة، أو أن تكون من الدناءة لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهذه الدنيا نهايتها لا تأتي إلا بغتة، فإنما نهايتها بأن يأذن الله للملك بأن ينفخ في الصور، فينفخ فيه نفخة الفزع فيصعق الناس جميعاً لها، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ النفخة الأخرى فإذا هم قيام ينظرون، وتنبت أجسامهم من جديد، فيخرجون يلبون نداء الله عندما ينادي: هلموا إلى ربكم. فيخرجون حفاة، عراة، غرلاً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، كما ولدتهم أمهاتهم يبعثون، فيحشرون إلى الساهرة يجتمعون فيها جميعاً مثلما يجتمعون في المقابر، فالذي مات اليوم ودفن في المقبرة تساوت المعلومات التي لدينا عنه مع المعلومات التي لدينا عمن دفن قبل ألف سنة، فإن من ورائهم ذلك البرزخ الذي لا يمكن أن يخترق وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:100-104] .

فمن علم هذا الحال علم أن هذه الدنيا ينبغي أن تنتهز، وقد صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير، والمسكين وابن السبيل). إنك تشاهد التقلب في هذه الدنيا، وهو مؤذنٌ بالزوال، فتشاهد الفقير ينتقل إلى غني، وتشاهد الغني ينتقل إلى فقير، وتشاهد الصغير ينتقل إلى كبير، وتشاهد الضعيف يصبح قوياً والقوي يصبح ضعيفاً، وكل هذا مؤذنٌ بانتقال هذه الدنيا كلها، فالتغير دليل الفناء، وما كان كذلك فعلينا فيه أن ننتهزه.

لاحظ أن العامل الحريص الذي وقته ضيق، فإنه إذا رأى الشمس تدنو للغروب وقد تضيفت له فإنه لا يفسد شيئاً من وقته، بل يكابد العمل غاية المكابدة ليتمه قبل أن تغرب الشمس.

فالآن لم يبق من هذه الدنيا التي هي دار العمل إلا مثلما يبقى من النهار عندما تتضيف الشمس للغروب، فنحن آخر الأمم، ونحن أيضاً في آخر هذه الأمة، ثم إن الذي ينتقل من هذه الدار سيرى الذين سبقوه في الأعمال، سيرى كل إنسان يستظل بظل صدقته يوم القيامة بين مستكثر أو مستقل، ويرى أولئك الذين ترجح كفة حسناتهم رجحاناً بيناً عظيماً فيفرحون عند لقاء الله فرحاً عجيباً، ويرى آخرين دون ذلك، حتى يرى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (من أن رجلاً أتى به، فلما عرض على الله عز وجل قال: هل لك من عمل صالح؟ قال: لا يا رب. فأمر الله ملائكته فجاؤوا بصحائفه، فإذا سجلات قدر مد البصر تبلغ الأفق من السيئات، وإذا بطاقة قدر الظفر كتب فيها: (لا إله إلا الله)، فقال الرجل: يارب! ما تغني هذه البطاقة عن هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم شيئاً. فوضعت السجلات في كفة السيئات، ووضعت البطاقة في كفة الحسنات، فرجحت (لا إله إلا الله) وطاشت السجلات)، وقد ذكر أحد الشعراء وصية النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه للناس فنظم ما قال فقال:

أجِدك لم تسمع وصاة محمدٍ رسول الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

إن التقلبات التي نشاهدها في هذه الحياة تقتضي منا المبادرة، فما من إنسان منا إلا وقد كان يجد فراغاً وصحةً، وقد عدم ذلك إلى غير رجعة، وقد علم أنه لن يعود إلى قوته التي فقدها، ولن يعود إلى شبابه الذي فقده، ولن يعود إلى الفراغ الذي كان فيه، يعلم أن تلك النعمة قد ذهبت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، فالصحة نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من ابتلي بالمرض، عندما تؤلمه عينه أو أذنه أو ضرسه أو أي عضو منه فيبيت يتقلب لا يستطيع النوم، يتذكر حال الصحة وما كان عليه من قبل، فيتذكر أنها النعمة العظيمة، وكذلك إذا رأى بلاء الآخرين، فرأى من فقد البصر، أو من فقد السمع، أو من فقد الحركة، أو من فقد العقل، نسأل الله السلامة والعافية.

وشرٌ من ذلك البلاء في الدين، فمن فقد دينه بالكلية فهو أعظم الناس بلاءً، ثم من فقد جزءاً من أجزاء دينه كذلك فهو أعظم بلاء من الذي فقد بعض بدنه.

العمر الثاني: عمر الإنسان الشخصي

هذا العمر الذي بدأ بالنفخ فيه وهو جنين في بطن أمه، وينتهي بنزع الروح منه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قال لها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]، فتخرج نفسه كما تسل القطرة من في السقاء، فلا تمكث في يد ملك الموت طرفة، بل يتناولها ملائكةٌ كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر وهم باسطو أيديهم، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة، ويطيبونها من طيب الجنة، و يرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فيؤذن لها حتى تخر ساجدةً تحت العرش، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت لسؤال الملكين.

وإن كانت النفس الخبيثة قال لها ملك الموت: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة. فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول -والسفود: مسمار فيه عوجٌ والتواء-، فينتزعها بشدة وقوة فلا تمكث في يده طرفة عين، بل يتناولها أولئك الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم: والملائكة بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ[الأنعام:93]

فيأخذون تلك النفس الخبيثة، فيجعلونها في سفط من أسفاط النار، ويغطونها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون، فلا يؤذن لها، وقرأ صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[الأعراف:40] ، فترد النفس من حيث أتت خائبةً خاسرة.

ومن علم أن نهايته هكذا وهو لا يدري إلى أي الحالين ٍيصير، وعلم كذلك أن انتقاله بعد الموت إلى القبر، وبه تقوم قيامته، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، ولهذا قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22].

يتصور الإنسان المقابر عندما يقف عليها أمراً سهلاً، وأنها كما نرى ظاهرها، ولكن هناك فرق بين ظاهرها وباطنها، بل هناك أمر لا يمكن أن نتصوره، فالقبر أول منازل الآخرة، واعلم أنه أول شيء من الآخرة العظيمة التي وصفها الله بما نعلم من الأوصاف، فهي القارعة، وهي الصاخة، وهي الطامة، وهي الآزفة، إن أول منازلها لا بد أن يكون مفظعاً مروعاً، ولذلك فأول ما يلقاه الإنسان بعد تلك الضجعة ضمة القبر، التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فلما وضع الميت في لحده نظر إلى أصحابه، فقال: (أعدوا لمثل هذه الضجعة).

كذلك بعد هذا مجيء منكر ونكير اللذين يأتيان في أبشع صورة، يأتيان المرء فيقولان له بكل عنفٍ: (من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

فأما المؤمن فيوفقه الله ويثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل الذي بعث إلينا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه. فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه. لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت. ويملآن عليه قبره بالثعابين والحيات والعقارب، وتفتح له نافذةٌ إلى مقعده من النار، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعه من يليه إلا الإنس والجن، وبذلك تنقطع أخبار الإنسان الذي حل في القبر، فلا يصل إلينا شيء من أخباره: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] .

تختلط بالقبر الواحد عظام من هو في غاية النعيم، ومن هو في غاية العذاب، فلا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس شيئاً من عذاب هذا، وقد اختلطت عظامهما وتحللت أجسادهما في تربة واحدة، لكن ذلك الاختلاط لا يمكن أن يخفي شيئاً من حالهما على الله عز وجل، فلهذا لا يصل إلى أحدهما شيءٌ من حال الآخر، لا هذا يحس بنعيم الآخر، ولا الآخر يحس بعذاب هذا، فمن علم هذا الحال كذلك ولم يدر متى يموت، كما قال سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34] ، وهو يعلم أن كل يوم من الأيام ينطلق فيه وفدٌ من أهل الدنيا إلى الآخرة، ولا يشاور من سيخرج اليوم في وفد الآخرة، فلا يدري: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، فيمكن أن ينتقل كل واحد إلى الآخرة اليوم أو غداً، وهكذا، فمن كان كذلك فعليه أن يجتهد في الفرصة الباقية، وهو يعلم هول ما أمامه وشدته.

العمر الثالث: ما مكن الله الإنسان من النعم وكيفية استغلالها

ثم إن الفرصة الثالثة والعمر الثالث هو ما مكن الله للإنسان في هذه الدار من المنافع والخيرات والنعم الكثيرة، وهي امتحان له، ولكل نعمة منها أجل مسمى.

فهذا اللسان يمكن أن يقول الآن: (لا إله إلا الله)، وسيحال بينه وبين ذلك، وهذه الأرجل يمكن أن تحمل الإنسان الآن إلى طاعة الله، كالصلاة في المسجد، أو سماع درس أو غير ذلك، وسيحال بين الإنسان وبين ذلك، وكذلك السمع، وكذلك البصر، وهكذا كل النعم التي عند الإنسان لها آجال محددة في علم الله، فأهل الإنسان وماله وديعة، ولذلك قال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه:

وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع

فلا بد أن ترد تلك الودائع، وعلى هذا فتمتع الإنسان بها له أجل محدد في علم الله تعالى لا يمكن أن يتجاوزه، ومن كان هكذا فعليه أن ينتهز الفرصة وأن يبادر، فما هي إلا مثل عاريةٍ، فإذا أعارك إنسانٌ آلةً لتستخدمها لمدة محددة فإنك ستبادر لاستغلالها قبل فوات الأوان، من أعارك سيارته لتبلغ عليها مكاناً معيناً وتعلم أنه سيأخذها عند وقت محدد فإنك لن تتركها قائمةً واقفة، بل لا بد أن تستغلها قبل أن يأتي الأوان، ولذلك فكل ما عندك من النعم هو مثل السيارة المستعارة، أعارك الله هذه النعم ولها آجال محددة يقبضها ويأخذها.

ومن هنا فإن للإنسان في هذه الدار ثلاثة أعمار:

فهي دار عمل ولا جزاء، والناس بخروجهم منها سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على أن لا يكون زاد، والمسيء يندم على إساءته، وفي ذلك فما من إنسان إلا وهو يتمنى الرجوع إليها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين أنه قال: (ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وكذلك فإن الشهداء يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا فيقتلوا مرة أخرى في سبيل الله، وكذلك كل من أحسن في عمله يتمنى أن يرجع إلى الدنيا حتى يزيد من الطاعات؛ لما يراه من تفاوت أحوال أهل الآخرة، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة، فأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، وهذه الكواكب التي نراها يصل إلينا نورها وضوؤها وهو من ملايين السنين يتجه إلينا، فلا تظن أن الضوء الذي نراه هو ابن وقته، بل هو من ملايين السنين يتجه إلينا، فهذا الفرق الشاسع بين أحوال أهل الآخرة، وهذا في حق أهل الجنة فكيف بمن سواهم؟!

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً صلباً ألقي في جهنم فمكث سبعين خريفاً يهوي حتى وصل إلى قعرها، فلذلك على الإنسان أن يعلم أن هذا العمر الأول الذي هو عمر هذه الدنيا منقضٍ لا محالة، وأن نهايته حتمية، فهذه الدنيا غير باقية، ولذلك فإن اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو أو أن يكون مشتقاً من الدناءة، فالدنيا إما أن تكون من الدنوِ لقربها من الآخرة، أو أن تكون من الدناءة لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهذه الدنيا نهايتها لا تأتي إلا بغتة، فإنما نهايتها بأن يأذن الله للملك بأن ينفخ في الصور، فينفخ فيه نفخة الفزع فيصعق الناس جميعاً لها، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ النفخة الأخرى فإذا هم قيام ينظرون، وتنبت أجسامهم من جديد، فيخرجون يلبون نداء الله عندما ينادي: هلموا إلى ربكم. فيخرجون حفاة، عراة، غرلاً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، كما ولدتهم أمهاتهم يبعثون، فيحشرون إلى الساهرة يجتمعون فيها جميعاً مثلما يجتمعون في المقابر، فالذي مات اليوم ودفن في المقبرة تساوت المعلومات التي لدينا عنه مع المعلومات التي لدينا عمن دفن قبل ألف سنة، فإن من ورائهم ذلك البرزخ الذي لا يمكن أن يخترق وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:100-104] .

فمن علم هذا الحال علم أن هذه الدنيا ينبغي أن تنتهز، وقد صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير، والمسكين وابن السبيل). إنك تشاهد التقلب في هذه الدنيا، وهو مؤذنٌ بالزوال، فتشاهد الفقير ينتقل إلى غني، وتشاهد الغني ينتقل إلى فقير، وتشاهد الصغير ينتقل إلى كبير، وتشاهد الضعيف يصبح قوياً والقوي يصبح ضعيفاً، وكل هذا مؤذنٌ بانتقال هذه الدنيا كلها، فالتغير دليل الفناء، وما كان كذلك فعلينا فيه أن ننتهزه.

لاحظ أن العامل الحريص الذي وقته ضيق، فإنه إذا رأى الشمس تدنو للغروب وقد تضيفت له فإنه لا يفسد شيئاً من وقته، بل يكابد العمل غاية المكابدة ليتمه قبل أن تغرب الشمس.

فالآن لم يبق من هذه الدنيا التي هي دار العمل إلا مثلما يبقى من النهار عندما تتضيف الشمس للغروب، فنحن آخر الأمم، ونحن أيضاً في آخر هذه الأمة، ثم إن الذي ينتقل من هذه الدار سيرى الذين سبقوه في الأعمال، سيرى كل إنسان يستظل بظل صدقته يوم القيامة بين مستكثر أو مستقل، ويرى أولئك الذين ترجح كفة حسناتهم رجحاناً بيناً عظيماً فيفرحون عند لقاء الله فرحاً عجيباً، ويرى آخرين دون ذلك، حتى يرى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (من أن رجلاً أتى به، فلما عرض على الله عز وجل قال: هل لك من عمل صالح؟ قال: لا يا رب. فأمر الله ملائكته فجاؤوا بصحائفه، فإذا سجلات قدر مد البصر تبلغ الأفق من السيئات، وإذا بطاقة قدر الظفر كتب فيها: (لا إله إلا الله)، فقال الرجل: يارب! ما تغني هذه البطاقة عن هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم شيئاً. فوضعت السجلات في كفة السيئات، ووضعت البطاقة في كفة الحسنات، فرجحت (لا إله إلا الله) وطاشت السجلات)، وقد ذكر أحد الشعراء وصية النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه للناس فنظم ما قال فقال:

أجِدك لم تسمع وصاة محمدٍ رسول الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

إن التقلبات التي نشاهدها في هذه الحياة تقتضي منا المبادرة، فما من إنسان منا إلا وقد كان يجد فراغاً وصحةً، وقد عدم ذلك إلى غير رجعة، وقد علم أنه لن يعود إلى قوته التي فقدها، ولن يعود إلى شبابه الذي فقده، ولن يعود إلى الفراغ الذي كان فيه، يعلم أن تلك النعمة قد ذهبت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، فالصحة نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من ابتلي بالمرض، عندما تؤلمه عينه أو أذنه أو ضرسه أو أي عضو منه فيبيت يتقلب لا يستطيع النوم، يتذكر حال الصحة وما كان عليه من قبل، فيتذكر أنها النعمة العظيمة، وكذلك إذا رأى بلاء الآخرين، فرأى من فقد البصر، أو من فقد السمع، أو من فقد الحركة، أو من فقد العقل، نسأل الله السلامة والعافية.

وشرٌ من ذلك البلاء في الدين، فمن فقد دينه بالكلية فهو أعظم الناس بلاءً، ثم من فقد جزءاً من أجزاء دينه كذلك فهو أعظم بلاء من الذي فقد بعض بدنه.

هذا العمر الذي بدأ بالنفخ فيه وهو جنين في بطن أمه، وينتهي بنزع الروح منه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قال لها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]، فتخرج نفسه كما تسل القطرة من في السقاء، فلا تمكث في يد ملك الموت طرفة، بل يتناولها ملائكةٌ كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر وهم باسطو أيديهم، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة، ويطيبونها من طيب الجنة، و يرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فيؤذن لها حتى تخر ساجدةً تحت العرش، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت لسؤال الملكين.

وإن كانت النفس الخبيثة قال لها ملك الموت: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة. فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول -والسفود: مسمار فيه عوجٌ والتواء-، فينتزعها بشدة وقوة فلا تمكث في يده طرفة عين، بل يتناولها أولئك الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم: والملائكة بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ[الأنعام:93]

فيأخذون تلك النفس الخبيثة، فيجعلونها في سفط من أسفاط النار، ويغطونها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون، فلا يؤذن لها، وقرأ صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[الأعراف:40] ، فترد النفس من حيث أتت خائبةً خاسرة.

ومن علم أن نهايته هكذا وهو لا يدري إلى أي الحالين ٍيصير، وعلم كذلك أن انتقاله بعد الموت إلى القبر، وبه تقوم قيامته، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، ولهذا قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22].

يتصور الإنسان المقابر عندما يقف عليها أمراً سهلاً، وأنها كما نرى ظاهرها، ولكن هناك فرق بين ظاهرها وباطنها، بل هناك أمر لا يمكن أن نتصوره، فالقبر أول منازل الآخرة، واعلم أنه أول شيء من الآخرة العظيمة التي وصفها الله بما نعلم من الأوصاف، فهي القارعة، وهي الصاخة، وهي الطامة، وهي الآزفة، إن أول منازلها لا بد أن يكون مفظعاً مروعاً، ولذلك فأول ما يلقاه الإنسان بعد تلك الضجعة ضمة القبر، التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فلما وضع الميت في لحده نظر إلى أصحابه، فقال: (أعدوا لمثل هذه الضجعة).

كذلك بعد هذا مجيء منكر ونكير اللذين يأتيان في أبشع صورة، يأتيان المرء فيقولان له بكل عنفٍ: (من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

فأما المؤمن فيوفقه الله ويثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل الذي بعث إلينا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه. فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه. لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت. ويملآن عليه قبره بالثعابين والحيات والعقارب، وتفتح له نافذةٌ إلى مقعده من النار، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعه من يليه إلا الإنس والجن، وبذلك تنقطع أخبار الإنسان الذي حل في القبر، فلا يصل إلينا شيء من أخباره: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] .

تختلط بالقبر الواحد عظام من هو في غاية النعيم، ومن هو في غاية العذاب، فلا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس شيئاً من عذاب هذا، وقد اختلطت عظامهما وتحللت أجسادهما في تربة واحدة، لكن ذلك الاختلاط لا يمكن أن يخفي شيئاً من حالهما على الله عز وجل، فلهذا لا يصل إلى أحدهما شيءٌ من حال الآخر، لا هذا يحس بنعيم الآخر، ولا الآخر يحس بعذاب هذا، فمن علم هذا الحال كذلك ولم يدر متى يموت، كما قال سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34] ، وهو يعلم أن كل يوم من الأيام ينطلق فيه وفدٌ من أهل الدنيا إلى الآخرة، ولا يشاور من سيخرج اليوم في وفد الآخرة، فلا يدري: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، فيمكن أن ينتقل كل واحد إلى الآخرة اليوم أو غداً، وهكذا، فمن كان كذلك فعليه أن يجتهد في الفرصة الباقية، وهو يعلم هول ما أمامه وشدته.

ثم إن الفرصة الثالثة والعمر الثالث هو ما مكن الله للإنسان في هذه الدار من المنافع والخيرات والنعم الكثيرة، وهي امتحان له، ولكل نعمة منها أجل مسمى.

فهذا اللسان يمكن أن يقول الآن: (لا إله إلا الله)، وسيحال بينه وبين ذلك، وهذه الأرجل يمكن أن تحمل الإنسان الآن إلى طاعة الله، كالصلاة في المسجد، أو سماع درس أو غير ذلك، وسيحال بين الإنسان وبين ذلك، وكذلك السمع، وكذلك البصر، وهكذا كل النعم التي عند الإنسان لها آجال محددة في علم الله، فأهل الإنسان وماله وديعة، ولذلك قال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه:

وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع

فلا بد أن ترد تلك الودائع، وعلى هذا فتمتع الإنسان بها له أجل محدد في علم الله تعالى لا يمكن أن يتجاوزه، ومن كان هكذا فعليه أن ينتهز الفرصة وأن يبادر، فما هي إلا مثل عاريةٍ، فإذا أعارك إنسانٌ آلةً لتستخدمها لمدة محددة فإنك ستبادر لاستغلالها قبل فوات الأوان، من أعارك سيارته لتبلغ عليها مكاناً معيناً وتعلم أنه سيأخذها عند وقت محدد فإنك لن تتركها قائمةً واقفة، بل لا بد أن تستغلها قبل أن يأتي الأوان، ولذلك فكل ما عندك من النعم هو مثل السيارة المستعارة، أعارك الله هذه النعم ولها آجال محددة يقبضها ويأخذها.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4760 استماع
بشائر النصر 4269 استماع
أسئلة عامة [2] 4111 استماع
المسؤولية في الإسلام 4036 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3974 استماع
نواقض الإيمان [2] 3929 استماع
عداوة الشيطان 3913 استماع
اللغة العربية 3911 استماع
القضاء في الإسلام 3877 استماع
أسماء الله الحسنى [2] 3856 استماع