-1- |
تمشي وحيداً في الشوارع تحتَ زخاتِ المطرْ |
وتجرُّ خلفكَ ذكرياتٍ في الدفاتر والصُّوَرْ |
وجعُ المدينةِ بانَ في عينيك حينا وانكسرْ |
-2- |
تمشي وحيدا باحثا عن كوخِ آلهةِ الفِكَرْ |
ثملا تغني في خشوعٍ للسناجب والشجرْ |
متوغلاً في النوحِ، تنصتُ للحمائم والنَّهَرْ |
فكأن وجهكَ والبكاءَ قصيدتان عن القدرْ |
-3- |
أبقيتَ ظلكَ في بلادٍ لا تغادرها السماءْ |
وأخذتَ هامتك العريقة وانسلختَ عن البشرْ |
وعن الرياحين الطرية والدفاتر والدماءْ |
وركبتَ بحرَ الروحِ بحثاً عن مساحاتِ الشتاءْ |
فكأنَّ قلبكَ مولعٌ بالإرتحالِ وبالسَّفَرْ |
حتى تركتَ كلامَك الفضيَّ يعبثُ بالفؤادْ |
وينيرُ أقبية القوافي بالأغاني والسهاد |
-4- |
أيارُ شهرٌ باهتٌ، فيه التقلبُ والسوادْ |
فتراه يبخلُ بالقصائدِ، قاتلاً نبضَ المدادْ |
ويرشُّ فوقَ صدورِنا لهبا، ويمنحُنا المطرْ |
أيارُ حين يرى دموعَك أنتَ يرغبُ بازديادْ |
فامنحْه أحلاماً رسمتَ على الزنابقِ والترابْ |
واسمعْ أناشيدَ المناراتِ الطويلةِ والضباب.. |
واقرأ له عند الغروبِ قصيدة "الأرض اليبابْ" |
-5- |
الشعر فعلٌ فاضحٌ، فامسحْ جبينكَ بالسرابْ |
واستجدِ آلهة الخلودِ، فأنتَ تدخلُ في الغيابْ |
-6- |
صوتُ القطارات استفاقَ، وحان وقت الإرتقاءْ |
فاكتبْ قصائدك العقيمة فوق أجنحةِ العتابْ |
أكتبْ، لعلكَ بالحروفِ تردُّّ غانيةَ الندى |
تلك التي أصبحتَ عندَ بياضِ كفيها سُدى |
أكتبْ، فإنك هائمٌ فيها، وقد حَضَرَ الردى |
واغسلْ أناملها الصغيرةَ بالضياءِ وبالصَّدى |
وافتحْ لها أرضَ الفؤاد، ومدَّ للعشق المَدى |
متوهماً (بعدَ افتراشِ نهودِها) أن تَخلُدا |
فهيَ انقضاءُ العُمرِ وهي فراشةٌ بين الحقولْ |
فإذا لمستَ بياضَ زنديها وقبّلتَ اليدا |
ستذوبُ مثلَ الثلجِ فاجمعْ روعة الجَسدِ الجَميلْ |
واسكبْ خلاصَةَ روحِها، قبلَ التوغلِ في الأفولْ |
-7- |
زخاتُ هذي الغيمةِ الحمراءِ تصبغُ معصميكْ |
وتعودُ رائحةُ الترابِ بكلِّ لَذتها إليكْ |
حتى الحشائشُ ليسَ فيها غيرُ أمتعةِ الرَّحيلْ |
حتى الشوارعُ والجَداولُ والمنازلُ والسيولْ |
فضياعُ مثلِكَ في المدائنِ والصَحاري قد يطولْ |
والحزن أيضا قد يعششُّ في الفؤادِ ولا يزولْ |
والمِلحُ في الدمع الذي يهوى الترقرقَ والهطولْ |
والشعرُ، والألم الذي يسمو مع الجسدِ العليلْ |
الشعر كالألم المعتقِ حينَ يُهرَقُ في الكؤوسْ |
-8- |
تبدو حبيساً كالنوارسِ في متاهاتِ الزمنْ |
وعلى حدودِ العُمرِ تسكنُكَ الموانئُ والسُّفُنْ |
والبحرُ في غضبٍ يخاطِبُ ما نثثتَ من الشجَنْ |
تشدو، وأجراسُ الكنائسِ لا تدقُّ ولا تَرنْ |
في الحزنِ أنتَ تظلُّ وحدَك كالطيور بلا وطنْ |
تمشي وحيداً مثلَ أرواح الغيومِ بلا بدنْ |
وتخاطبُ الظلماتِ، تسبحُ في الرياح وفي الرمالْ |
وتطلُّ من بين الحكايا، حاملا بؤسَ الكفنْ... |
-9- |
تبدو حزيناً، والصلاةُ اليومَ تُسكِرُ كالنبيذْ |
فاحملْ تفاصيلَ انتحارك في تشاؤمكَ اللذيذْ |
وإذا نهضتَ من المماتِ، فعد إلى ذات السؤالْ |
من أنت؟ ما الأحلام؟ ما الشعرُ المحلقُ بالخيالْ؟ |
حتى تعودَ لك الحروفُ بما تريدُ لكَ الجبالْ |
-10- |
النهر يسري هادئاً بينَ الحَشائش والغصونْ |
لا موجَ فيه، كأن تحتَ ثيابِه السرَّ الدفينْ |
ماذا سيحدثُ لو تفجَّرَ بالزلازلِ والجنونْ؟ |
ماذا سيحدث للسماءِ، وللترابِ، وللسكونْ؟ |
أتراكَ سوفَ تعيدُ رسمَ الشمس في قلبِ السماءْ؟ |
متوهماً أن القصائدَ في حياتِك قد تعودْ |
أرسلْ عظامَك للمقابرِ قبلَ أنْ يلدَ الوجودْ |
وأنثر عليها ما تيسَّرَ من دمائِك والورودْ |
فلعلَّ هذا النهرَ تسبحُ فيه قاماتُ الرعودْ |
يبدو كئيباً، والمشردُ فوقَ ضفتِه ينامْ |
قذراً، وكثَّ الشَّعرِ يلتحفُ الرطوبة والسُّخامْ |
تركَ المدينةَ، والعَمَاراتِ العظيمةَ والزحامْ |
واختار هذا النهرَ متكئاً على بعضِ الركامْ |
فتراهُ يبحثُ كلَّ يومٍ عن بقايا من طعامْ |
بين القمامةِ والشقائقِ والجنادِبِ والحَمامْ |
هو غارقٌ في عالمٍ أركانه صمتُ المكانْ |
يهفو إلى مَن حين يعبر قد يبادله السلامْ |
يهفو إلى وجهٍ يجاذبه خيوطَ الإبتسامْ |
وتمرُّ أنتَ أمامَه متثاقلاً مرَّ الكرامْ |
هلا وقفتَ مفكراً بقساوةِ الدنيا قليلا؟ |
ماذا تريدُ؟ ألا ترى الإنسانَ كيف يصيرُ غولا؟ |
يؤذي أخاه، وليسَ يعرفُ كيف يمكنُ أن يؤولا |
وتظلُّ أنتَ مسافراً في الشعرِ تحترفُ الرحيلا |
تبكي على الأيام، تمسحُ وجههَا الغضَّ العليلا |
هلا حملتَ إلى المدينةِ بعضَ دمعِ المعدمينْ؟ |
هلا حملتَ لها من الأناتِ ما يُبكي العيونْ؟ |
علّ الذين يسابقون العصرَ، أو يتطايرون |
فوق المدى، ويراقصونَ نساءَهم يتذكرونْ |
أن الحياةَ تدور دورتها على مر السنينْ |
-11- |
تبدو حزيناً، هل أخذتَ الحُزنَ من هذا المقامْ؟ |
فارجعْ إلى الأشجار وانظر كيفَ تزهرُ كلَّ عامْ |
وارقبْ صِباها حين تبدأ بالتزاوج والغرامْ |
أعد الحياة إلى فؤادك، جددِ الأمل النديا |
وانصتْ إلى صوتِ الطيور يدور فتانا شجيا |
-12- |
جاءَ المساءُ، وأنت تبحرُ بين أشرعةِ الضبابْ |
فبدأتَ تبحث عن قطارٍ يعبرُ العشبَ الطريا |
ويضيعُ في أفق القصائدِ حاملا غدكَ الشقيا |
لا يعرف الشعراء كيف يكررون إناثَهم |
فخذ الرياحَ وعدْ بلا قلبٍ إلى الماضي السَّحيقْ |
وامزجْ تنهدَكَ المعتَّقَ مع تلافيفِ الطريق |
فغدا ستمشي في دروبك تحتَ زخات المطر |
وستنتفي في الغربة السوداءِ كالنسر الغريقْ |
ولسوف تبحثُ عن بقايا الشعر في جوف البريقْ |
حتى تشاركَكَ الغيومُ همومَها عندَ السَحَرْ |
وترشَّ فوقك عطرها، وتردَّ أنت بلا اكتراث |
وتسيرَ محزوناً كأن الحزنَ سرُّ الإنبعاثْ |
ج |
وتظلَّ تبحثُ بين أفكار المدائن عن صديق |
وتظلَّ تبحثُ عن صديق.... |
* |
كاليفورنيا – 20 أيار 2005 |