بداية/نهاية: |
يبقى من الوردِ أن نبكي على الوردِ |
لا أفْقَ عندكِ مفتوحٌ، ولا عندي... |
إن كان كأسُ النَّدى من خمره ضجراً |
وخان كلَّ نداماهُ... فما يُجْدي؟ |
هذا الفضاءُ حملناه معاً شغفَاً |
والآن أحملُه مستوحشاً وحدي |
وأخطبوطٌ من الأوهامِ يُحْدِقُ بي |
كأنَّني ملكٌ يمضي بلا جند |
لليأس نحلتُهُ العمياءُ طائشةً |
تمتصّ شعريَ إنْ لم يُرْضِها شَهْدي |
لحنٌ عقيمٌ عزفناه، فأوهَمَنا |
أنَّا نشاوى بفردوسٍ من المجدِ |
عقرتُ ناقةَ أشعاري بلا ندمٍ |
لمّا أناخَتْ على أعتابها ضدّي |
أفيضُ من عدمٍ يُودي إلى عدمٍ |
وأخدَعُ النَّفسَ أنّي جنَّةُ الخلدِ |
تشقَّقَ القلبُ من قلبٍ أضيقُ بهِ |
كالرَّعدِ تخرجُ منه آيةُ الرَّعدِ |
أسيرُ كالوردِ فوق الأرض.. هل أحدٌ |
إلاَّ وشيّعَ تابوتاً من الوَرْدِ؟.. |
*** |
القصيدة: |
تمَّ الخريفُ... |
وأكمل الطَّاحونُ دورتَه، |
جلستُ على فم البركان زوبعةً، |
وغيّمتِ الوجوهُ، |
وما سمعتُ سوى الصَّدى المجهول مطروداً منَ |
الوديان نحو حجارةٍ سدَّتْ على ليل الرَّحيلِ الفجرَ... |
كان الفجرُ أطولَ من ذراعٍ طالتِ السّحبَ الكئيبَهْ |
وخلعتُ عنكِ الاسمَ والتَّأويلَ، |
ظلّتْ منكِ سيرةُ موجةٍ لبسَتْ |
رمالَ الشَّاطئ العاري... |
هنالكَ تصرخينَ على النَّوارس: طيِّروني |
لن يسمعوا جسداً على تابوته ملقىً |
ولا مستوحشاً سرقوا قرنفلَهُ |
ونامت جمرةُ الماسِ المشعِّ به، |
ولن تجدي سوى النّسيان مروحةً ترفُّ على |
منامك آخرَ اللّيلِ السّجينِ |
خطواتك الخضراءُ تابَتْ عن طريقي |
عيناك قنديلان كفَّا عن بريقي |
لم يبقَ غيرُ تأمُّل الأنقاضِ، |
فلتقفي قليلاً قبل أن يهوي الرَّمادُ |
على جبيني |
ولنرفع القدَّاسَ... |
باعتكِ التَّراتيلُ، |
انتهتْ فيكِ الزَّغاليلُ، |
اتَّكأتِ على جدارٍ آخر |
ووهِمْتِِ أنَّ الفجرَ دون نداي أجمَلْ |
هل وردةَ المعنى قطفتِ؟ |
أم الذّبول الفوضويَّ؟ |
أم انتقلتِ لمهدِ سنبلةٍ تراودُ أيَّ منجَلْ؟ |
ستبايعين ضلالةً |
وتزخرفين جمالك العالي بأقنعة الدّعاءِ |
فمن يجيبُ، ومن سيسأَلْ؟ |
شاهدتِ نفسكِ تجنَحين إلى يديَّ |
كأنّك النّجمُ الصَّغيرُ يدورُ في فلكِ الغَسَقْ |
سُمِّيت كلَّ التَّسمياتِ، |
ولم يدرْ في بال بحرك أنَّه |
سيصابُ يوماً بالغرقْ... |
فإليكِ كلّ الأضحياتِ |
جميع ما جمَّعتُ من ورقٍ سنشعله معاً |
فالعاشقان أنا وأنتِ: |
ألم أجدْكِ عقيمةً؟ |
ووجدتِني حبراً يسيلُ على ورقْ؟ |
كلماتنا شاخَتْ إذاً |
فتسلَّلي بين الضّحى واللَّيل بنتاً |
لم يعد فرقٌ أمام خوائها بين القصيدة والذَّبيحةْ |
أنا ليس لي نبعٌ لأسقي ماعزاً شَرَدتْ قوافله، |
ولا قمح لأطعم أسْرَةَ الأسماءِ من سرّي، |
ضجرتُ من انتظارِ قطارِ زوّارِ الفَرَحْ |
ولبثتُ بضعَ سنينَ في قعر الضَّريحِ، |
ولستُ "يوسفَ" كي يخلّصَهُ "العزيزُ" |
ولست فارسَ غزوةٍ أولى |
ليحملني الحصانُ إلى قلاع الأندلسْ |
أنا صمتُ جثمانٍ مسجّى تحت جفنات العنبْ |
فلتخطفي منّي رماحَ الفتحِ، |
وانتبهي إلى فرسانكِ الآتين بعدي... |
أنا سلّةُ التفّاح مهملةً على حجرٍ، |
تمرّ به رفوفُ النَّحل تسألُ من يكونْ؟ |
نسيتْ رحيقي ذات أبّهةٍ |
كما تُنسى خيامُ البدو بعد الغَزْوِ، |
لا يبقى سوى بعضِ الفناجين الصّغيرَةْ |
ما صبَّها أحدٌ، ولم تعبَثْ بها شفةُ الأميرَةْ... |
هل غادرَ العشَّاقُ مثلي؟ |
هل جرى مِنْ ظامئٍ نهرُ الجنونْ؟ |
مَنْ ضاقَ فيه كلُّ متَّسعٍ، |
وجاءَتْ نفسُه لأمانِ كوثرها المحالِ؟ |
من شَقَّ من جنبيهِ صخرةَ نَفْيِهِ |
وأقام في خشب الصَّليبِ؟ |
أنا صليبي... |
وأنا العلوُّ المنكسِرْ |
أنا منشئُ الأحلامِ مهووساً بخُضْرة من يحبُّ، |
ولا يذوقُ طبائعي نهدٌ إذا لم يشتعلْ من جذرهِ |
للموت في عنقي إطارٌ ينتظرْ |
لَنْ تنزلَ الصُّور العتيقةُ عنهُ، |
لن يلهو به سيلُ المَطَرْ |
وأنا انبلاجُ الأفْقِ عن نسرٍ عجوزٍ ظلَّ يشبهني |
إلى أن كدتُ أشبهه، |
فمَنْ منَّا المغني؟ |
النَّسرُ لا يهوي على جيفٍ، |
وقد آليتُ أن أغشاكِ وقتَ الحلْمِ |
ناضجةً كتيّارٍ من النَّعناعِ، |
كاملةً مكمَّلةً كسيِّدةٍ من الإشعاعِ |
تنعشُ مجرياتِ الرّوحِ |
تلبسُ شرشفَ الشَّهوات في شغفٍ |
وترتعشُ الشِّفاهُ بنشوةٍ غُزِلتْ على نور الشَّبَقْ |
النَّسرُ يقَرعُ بابَ جنَّتكِ المغطَّى بالحَبَقْ |
هل تدركين دموعَهُ |
تمتدّ من مسرى الكلامِ |
إلى المعتَّق من كؤوس هشَّةٍ |
سقطتْ على أرضٍ من الهذيانِ قبراً للألَقْ |
فقدَتْ حديقتُكِ القديمَةُ بابَها |
واجتاحَها الحرَّاسُ، |
دقّوا بالصُّنوجَ، |
وزغردتْ فتياتُ حيِّكِ للعريسِ، |
أتى ذراكِ، |
نهاكِ عن قَوْلِ الفضاءِ، |
ولوثةِ الشّعراءِ في وادي العذارى يعمهونْ |
سمَّاكِ محراباً للذته، |
وأبصَرَ فيكِ قطَّتَهُ مغمَّضَةَ العيونْ |
قال: استبيحي كرمَهُ ليحسَّ بالعنقود يهطلُ، |
واعصري شفتيه بالياقوتِ حتَّى يشعرَ الإزميلُ |
بالذَّوبانِ في الصَّخر الحنونْ |
ميلي على جنبَيْهِ، |
لا تنسَيْ قراءةَ آيةِ الكرسيِّ والتَّعويذتين |
وقل هو الأحدُ الصَّمَدْ |
وتلمَّسي للمرّة الأولى صهيلَ العَصْفِ في صيف الجَسَدْ... |
وتذكَّري كمْ قبلةٍ هربَتْ، |
وكم من موجةٍ هُدرَتْ، |
وكم كنّا زبدْ |
الآن شُكّي مخملَ القمرَيْن في نَوْلِ الأبَدْ |
ودَعي أنايَ: تنازلتْ شرفاتُها |
عن رغبة العليانِ، |
كنتُ مسيَّجاً بيديكِ، |
أبكي ما يشاءُ الله من رسلٍ، |
وأنزفُ ما يراه الوجدُ من طللٍ، |
وأهجرُ بيتَ أطيافي |
لعلِّي واجدٌ في الأرض مرتَفَقَاً، |
ولكنِّي دخلتُ الكهفَ آخرَ مرّةٍ ونسيتُ ذاتي فيه، |
كم مرّتْ عليَّ من السّنينْ؟ |
عشرون كبشاً من حنينْ |
عشرون بأساً من أضاحي الياسمينْ |
خان النَّباتُ جذوره |
وعليّ أن أرخي أعنَّتكِ الرَّخيَّةَ نحو آخرِها |
لأبلغ كائني المطرودَ من نفْسي، |
وأُرجعَ ما خسرتُ من الهواءِ |
كم نمتُ مختنقاً بأحلامي، |
ومعتكفاً على طاغوتكِ الوحشيِّ يكبرُ في دمائي |
قدَّمتُ ألفاً من قرابين الشَّذى في معبدِكْ |
وغفوتُ أنتظرُ المَطَرْ |
لم ألقَ إلاَّ الخنجرَ الماسيَّ يلمَعُ في يدِكْ |
وعلى جبينكِ كان إكليلُ الحَجَرْ |
نامي طويلاً في مضيق التَّائهينَ |
تحوَّلي شبحاً سيحبَلُ بالضَّجرْ |
وتكوَّمي في كلِّ أسبوعٍ كسلسلةٍ تضيقُ عليكِ حلْقَتُها، |
لتحتفلي بعرس الذِّكريات مع الصُّوَرْ |
وتذكَّري أنّ المدينةَ كلَّها |
ألقَتْ وراءكِ لعنةَ العشّاق عُبَّادِ الشَّجَرْ |
ولتغلقي حصنَ الغوايةِ جيّداً |
دوري عليه سيّداً نهِماً |
سيولغُ في عميقِكِ مثل صيَّادٍ |
يُجسُّ الموجَ من أطرافِهِ |
حتَّى إذا رَفَعَتْ شواطئُكِ الشَّهيَّةُ ضوءَها الباهي، |
رمى شبكاً خرافيّاً ليجمَعَ أجمَلَ المرجانِ من نهديكِ، |
يلقط لؤلؤَ الأسرارِ من ساقيكِ، |
ثمّ يعود بالصَّيد المباركِ |
فَحْلَ أعماقٍ مثيرْ |
ينهارُ قربَكِ متعباً من رحلةٍ في البحرِ |
حين البحرُ مشنوقٌ على طرفِ السَّريرْ |
ما كنتِ أنثاه الأميرةَ إنَّما |
سيكونُ مولاكِ الأميرْ... |
عُدِّي على أقدامِهِ أيَّامكِ الصَّفراءَ وانتحبي |
أراكِ عجوزِ أحلامٍ، |
وأمَّاً خلْفَ أطفالٍ سيمتصّون كوكبَها |
وتفرَحُ في سبيل صعودها دَرَج الظَّلامْ |
هل تنزلينَ امْ ترحلينَ مع الأعالي |
هل تبصرين الشَّيب في عينيك غولاً ناهباً ثَمَرَ الجَمالِ |
هل تقرئين الشَّاعرَ ارتطمتْ مراياه ببعض |
عندما اخترتِ الصَّلاةَ على ضريحِ قصائدي؟ |
هل تسمعين الذِّئبَ يعوي بعضُه بعضاً، |
ولا يبقى له غيرُ الرِّمالِ؟ |
حتَّى الرّمالُ محوتِ آثار القوافل فوقَها... |
وظننتِ أنَّ النَّخَل أبعَدُ عن يديَّ، |
وأنَّني جمَلٌ صغيرٌ بين آلاف الجِمالِ |
جمَلٌ أنا، لكنَّما سنمي على قممِ الجبالِ... |
هذا زفافُكِ ليس بحريّاً... |
أرى الصَّحراءَ من شفتيك تولدُ، |
والتّمور البابليّة عُبّئَتْ في قفَّةٍ كبرى |
وبيعَتْ في المزادِ |
البحرُ فيكِ تضاءلتْ شطآنهُ حتَّى السَّوادِ |
صدَفٌ على فخذيكِ ما فيه سوى الدِّيدان، |
أو حسَكٌ على نهديكِ مرميٌّ لكلبِ البحرِ ينبحُ جائعاً.. |
وأنا إلى أقصى المياه وقفتُ أسألُ: |
هل زفافُكِ أمْ حدادي؟ |
شيَّعتُ خلفكِ ذاتكِ الثَّكلى |
وأغلقتُ الحقولَ على سنابلِها |
وأحضرتُ الجيادَ من الحظيرةِ |
قلت هيَّا نتبعِ الذِّكرى |
ونزرعْ قرب نَجْمِ سهيلَ جثَّتها |
لتصبحَ بنتَ نعشٍ آخرٍ |
وتضيء في أخواتها حتَّى يجدنَ رفاتَها |
سيقول عنك منجِّمون: دخلْتِ برج المستحيلْ |
ويذيع عنك محدِّثون: خسرتِ جوهرك النَّبيلْ |
وأبوح عنكِ: جميلةٌ سقَطَتْ، فما جدوى الجميلْ؟ |
_________ |
20/3/2002 |