هكذا، من بلدٍ الى بلد |
أفتّش بين النجوم عن بنات نعش |
وأقول إذن من هنا العراق |
درجت معهنّ منذ الطفولة |
أعرّفهن واحدة واحدة، ويعرفنني من بين كل الصبيان |
في بعض الأحيان يغمزن لي حين أكون وحيداً |
يومها دخلت رهبوت السر، وانتشيت كطائر، كطائر |
هنّ كالقناديل في صواني العرس يطفن في السماء |
وفي الليالي الغائمة احزن وتختلّ الدنيا |
أتفقدهنّ لأنّهن كلّ ما أملك من أمان |
مجرد وجودهن دليل الثبات والديمومة، يا للاطمئنان |
تعوّدت ان اراهنّ فوق رأسي |
الى اليمين قليلاً، أمامي قليلاً. |
هذا هو مكانهنّ الثابت، جذوري التي في السماء. |
أحببت صغراهنّ التي تلهث وراءهن في رحيل دائم |
تلهث وتعرج وتلهث في رحيل دائم |
ما انتظرنها يوما، ولا هي قادرة على اللحاق |
قيل عرجاء، تلهث وتعرج، ومن حبي لها سمّيتها مليحة |
هكذا من بلدٍ الى بلد الى بلد |
افتش بين النجوم عن مليحة العرجاء |
واليوم اسمع لهاثها ولا أراها في هذه السماء الغريبة |
نظرت كالمعتاد الى المكان الثابت في السماء |
الى اليمين قليلاً، الى الأمام قليلاً، وما من أثر |
- حينما تتغير خريطة الاشياء تستنفر الحواس |
هذه هدية الغربة – |
كنّ هذه المرة بعيدات أعلى مما تعوّدته عيني |
الى اليسار قليلاً، ورائي قليلاً |
جامدات بلا قناديل وبياضهنّ متكدر خابط |
كوجوه عفسها الخوف |
غربتي هذه المرة حقيقية، قلتها بضعفٍ عاجز |
في مسقط الرأس يتعيّن |
شروقك وغروبك وشمالك وجنوبك |
كل شروق عداه غروب |
كل غروب عداه مربك |
وبنات نعش هذه المرة |
الى اليسار قليلاً، ورائي قليلاً |
تطيّرت حقا وملأت قلبي الهواجس |
كأن العراق انتقل فجأة الى مكان مجهول |
أو ابتلعه بحر، ورحل. |
حينما ترتبك جهاتك، يرتبك وجودك |
ما جدوى ان تسير الى الامام ورأسك الى الخلف؟ |
"وجعت من الاصغاء ليتاً وأخدعا" |
كيف حال الوطن |
وكيف حال مليحة العرجاء الآن؟ |
كانت رونق الحي، يناغيها الكبار بأرق الأصوات |
تعرج وراء لداتها وتلهث |
باقة من الأصوات كل صباح في الطريق الى المدرسة |
وصوت مليحة بالذات، صافٍ، كأنه يخرج من ناي |
كنت أجملهنّ يا مليحة |
حتى عرجك جميل، جميل، جميل الى أن ينقطع النفس. |
حين طلعت في جسدك اولى الثمار المحرّمة |
اسدلوا عليك العباءة، وطالت قامتك |
إلا رجلك اليمنى تعوّقت اكثر |
يومها بات العرج عاهةٌ لا تستر |
استدرجك يا مليحة الى البلد الغريب |
ساعة تشتد بي الغربة وحيدا |
وألمك قطعة قطعة، وأغيب فيك بلا انتهاء |
مجرد وجودك دليل الثبات والديمومة. |
لم نتكلم قط، وما من مرة تصافحنا حتى ولا في عيد |
نتلاقى كغرباء وقلبانا معصوران |
كنت تعرفينني من بين كل الصبيان |
مرة واحدة طالت نظرتك وغمزت لي. كنت وحيداً |
تماماً مثل مليحة العرجاء في السماء |
يومها دخلت رهبوت السر وانتشيت كطائر، كطائر |
اسبح في حلم عزّ النهار. |
لم أرك بعد تلك النكبة، هل بلعنا البحر ورحل؟ |
كان بكاؤك بعرض الشارع، يرتطم بالجدران، واعلى من أعلى البيوت |
اختلّ توازنك عدة مرات، خذلتك القدم العرجاء |
صالح يمشي بصعوبة ووجع، منفرج الساقين |
شقيقك صالح منفرج الساقين |
وفي دشداشته بقعة دم. بالضبط بين ردفيه |
كان وجهه مشعثاً مثل كرة خرق ممزقة. |
اغتصبه جندي في بستان امام الثكنة العسكرية |
انفرد به انفراد وحش، يزيده الصراخ توحشاً وتطمّعاً |
وصالح يرتجف الى ما لا نهاية في باب المستشفى |
بعواء لم يسمع مثله من حنجرة بشرية من قبل |
يهتز بلا انقطاع من الرأس الى القدم، من الرأس الى القدم بلا انقطاع |
وعلى دشداشته بقعة دم، تنزّ وتنتشر. ولا يكف عن الصراخ. |
في البلد الغريب أسير الى الأمام ورأسي الى الخلف |
أفكر بمليحة التي انقطعت عن المدرسة منذ الفضيحة |
وصالح الذي ابيضّت عيناه من العمى |
والجندي الذي يفرّ منه الأطفال فرار العصافير |
وحين يطبق الليل ويأتي ضيق النفس كالمعتاد |
افتش بين النجوم عن بنات نعش |
وأقول إذن من هنا العراق. |