وأنا عجلانُ في سربٍ من الطيرِ أَطيرْ، |
دونما قلبٍ يغنِّي |
أو جناحٍ قادرٍ أن يستديرْ، |
أَخَذَتْنا الريحُ نحو الغربِ |
حتى لم نعد ندري: |
أهذا شوطُنا الأوّلُ في السبقِ |
أَمِ الشوطُ الأخيرْ؟ |
لم أكنْ أَعْرف أنّا فُرَقاءْ |
ولنا آلهةٌ شتّى، وأنّا سُفَهاءْ |
لم نُصِبْ من منطقِ الطيرِ |
وَمِنْ سرّ "فريدِ الدينِ" إلاّ الغُلَواءْ. |
لم نكنْ نبحثُ عن مسرًى |
إلى بابِ السماءْ |
بل بَحَثْنا عن فراديسَ على الأرضِ، |
سَمِعْنا قصصًا عنها، |
رأينا صورًا منها، |
فقلنا: هي ذي مملكةُ العقلِ، |
وأُولاءِ ذَوُوها العُقلاءْ، |
وهي أرضُ اللّه، |
لا شرقٌ، ولا غربٌ، |
وكلُّ الناسِ أَهْلوها، سواءٌ بسواءْ، |
ثم طِرْنا نحوها بحثًا عن السرّ، |
فلم نعثرْ على شيءٍ سوى هذا البلاءْ: |
مدنٌ مرهقةٌ، |
أفئدةٌ فارغةٌ، |
والغُرماءْ |
يسألونَ اللّهَ عن قصةِ قابيلَ وهابيلَ؛ |
ومالُ الفقراء |
دُولَةٌ بين حليفينِ: غنيٍّ وقويٍّ؛ |
والبغاءْ |
حِرْفةُ الساسةِ؛ |
أما الحكماءْ |
فهم العقلُ الذي يوحي إلى القيصرِ |
قَبْلَ الأصفياء: |
أنّ خَلْقَ اللّهِ أجناسٌ، |
وهُمْ من رُتَبٍ شتّى، |
وكلَّ الضعفاءْ |
غَنَمٌ في غابةِ القيصرِ، |
والقيصرَ ربُّ الأقوياءْ. |
ونَظَرْنا: |
فإذا نحن، كما كنّا بدأنا، فُرَقاءْ، |
وإذا الغابةُ لا مَنٌّ ولا سَلْوى، |
ولا أيُّ عزاءْ؛ |
وأرسطو يُلْهم الإسكندرَ الغزوَ |
وقهرَ المدنِ التعبى |
ويغريه بقتلِ الأمراءْ. |
وأنا أنظر في هذا المصيرْ |
وأرى الإنسانَ في الجبِّ صريعًا يستجيرْ |
وأرى القيصرَ ما زالَ، كما كان، |
إلهًا يَمْلكُ الإبرامَ والنَّقْضَ وتصريفَ الأمورْ |
قلتُ: لا بدّ إذنْ من رحلةٍ أخرى، |
ومن شوطٍ أخيرْ. |
رحلةٌ أخرى؟ |
إلى أين؟ |
وكلُّ الأرضِ بستانٌ لقيصرْ |
وعلى أطرافِهِ الجندُ يقيمونَ له ألفَ معسكرْ |
ويغنُّون سكارى شِعرَ فرجيلَ |
وروما تتبخترْ؟ |
رحلةٌ أخرى ولا شيءَ تغيّرْ |
منذ أن دارت بنا الأرضُ، |
وصار القردُ إنسانًا يفكّرْ؟ |
رحلةٌ أخرى وفي ظهرِكَ خنجرْ |
وعلى صدرك رمحٌ، |
وإلى جنبكَ لغمٌ يتفجّر؟ |
رحلةٌ أخرى ولم يبقَ من السربِ |
سوى بعضِ بغاثٍ يتطيّر؟ |
ليكنْ (قلتُ) فإنّ الصمتَ أخطرْ |
ليكنْ (قلتُ) فهذا اليومُ أغبرْ |
وغدًا قد ينجلي الأفقُ وتصفو الروحُ أكثرْ |
ونرى دربًا إلى الحكمةِ لم يعرفْهُ طاغوتٌ |
ولم يَسْلكْه قيصرْ. |
قلت: لا بدّ إذنْ من رحلةٍ أخرى |
ومن شوطٍ أخيرْ |
ولتكنْ رحلتُنا في نَفَقِ الإنسانِ، |
بين الخيرِ والشرِ، |
وفي كهفِ ظلامِ النفسِ، |
في بئرِ الضميرْ، |
قلتُ: لا بدّ لنا من أملٍ آخرَ |
غيرِ العيشِ في هذا السعير. |
ثم أَطْلقتُ جناحيَّ وحلّقتُ بعيدًا، وعميقًا،* |
غير أنِّي لم أزلْ وحدي أطير. |