أرشيف المقالات

ساعة فاصلة. . .!

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 للأستاذ محمود محمد شاكر إذا المرء لم يحْتَلْ وقد جَدّ جِدّه ...
أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدْبِرُ ولكن أخو الحزْمِ: الذي ليس نازلا ...
به الخطْبُ إلا وهو للقصْد مُبصرُ فذاك قريع الدهر، ما عاش، حُوّلٌ ...
إذا سُدَّ منه مَنْخِرٌ جاشَ منخرُ وأيُّ خطب!! فنحن أمة قد عاشت أكثر من أربع وستين سنة تجاهد عدُواً لدوداً، واسع الحيلة، كثيرَ الأعوان، ينفثُ سمه حيث مشى، ويُخفي غوائله ليكون فتكه أخْفى وأنكى وأشدَّ.
فاتخذ لنفسه من صميم هذا الشعب رجالا خدعهم عن عقولهم، وزيَّن لهم أن يعملوا في الدسيسة للأرض التي أنبتتْ عليهم شحومهم ولحومهم وحملتهم على ظهْرها هم وآباءَهم وأبناءَهم وذَرَاريهم، وأظلَّتهم سماؤها بالظلّ الوارف الظليل، وسكَبَتْ في نفوسهم سرّ الحياة، وسقاهم نيلها بدَرّهِ الذي اشتدَّت عليه أبدانهم وأحوالهم، ومهّد لهم المتاع ما أطغاهم وكان خليقاً أن يملأ قلوبهم شكراً، وألسنتهم حمداً وثناءً.
وزاد فأطلق في جنَبات هذا الوادي أسراباً من صعاليك الأفاعي الأجنبية، أَخافت الوَادِع، ولدَّغت السليم، وذادَتْ عن سُهول هذا الوادي كل حيٍّ من أبنائه حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسهم.
ولم يزل ذلك دأبنا ودأب عدوِّنا حتى أتاح الله الحرب العالمية الأولى فاستعلن من ضغينته وبغضائه ما اكتتم، وأعلن الحماية على أرض مصر.
فلما خرج ذلك العدوّ من لأوائها منصوراً مظفّراً، لم يبال الشعب المصري العزيز بسطوة ولا بأس ولا قوةٍ من حديد ونارٍ، فثار ثورته العجيبة في أوائل سنة 1919، وما كان يخيّل للعدو الباغي أن ذلك شيءٌ ممكن، وبعد لأي ما تحقّقَ من أنه شعب حديدُ العزم لا تُرْهبه القوة الباطشة ولا العدوان الغشوم.
فاحتال له حيلة أخرى يفرّق بها بين الرجل وأخيه، والأب وبنيه، والأمِّ وفلذات أكبادها، فرمانا بالداهية الدَّهياءِ التي جعلت الناس يختلفون بينهم على غير شيءٍ إلا الحُكم والسلطان، وتدسَّس إلى قلوب الرجال شيطانٌ مريدٌ هو: تلك الحزبية والعصبية للأشخاص، فكادت تنقض بناءَ هذه الأمة حجراً حجراً. ثم كان من رحمة الله أن جاءت الحرب العالمية الثانية، فخرج منها عدوُّنا مرة أخرى منصوراً مظفراً، فلم يبالِ الشعب المصري وخرج يقول له: (اخرجْ من بلادي، ورُدَّ علّى جنوب الوادي) وكادَ يكون ما كان في سنة 1919، ولكن العدو كان أسرع حيلة وأرشق حركة، فنَصَّبَ رجالا منَّا ليحملوا بلادهم على سبيل مضَلَّةٍ.
فكانت هذه المفاوضات الخبيثة التي ظلَّت تدور شهراً بعد شهرٍ إلى غير نهاية إلى يومنا هذا، بيد أن الشعب نفسه ظل هادئاً متربصاً طوال هذه الشهور وهو عالم ٌ أن المفاوضة كلامٌ لا يغنى فتيلا، وأن (الجلاءَ) حقٌّ لا ينازعه فيه أحد، وأن ضمّ السودان إلى أخته مصر حقٌّ لن يعوقه عنه بطشٌ ولا جبروت، وأن الحرية حقٌّ البشر منذ يولدون إلى أن تُطمَّ عليهم القبورُ.
ومضت الأيام والشعبُ يسمع لَجاج المفاوضة وهو غيرُ راضٍ، ولكنه استنكف أن يحولَ بين طائفة من أبنائه وبين ما يظنون فيه الخير لبلادهم، فتركهم يعملون ليعرفوا أخيراً ما عرفه هو بفطرته النقيّة: أنْ لا خير في مفاوضة الغاصب القويّ حتى يرد على المغصوب الضعيف ما سلَبَ منه، وأن الإباء هو خُلُق الأحرارِ، وأن العزْمَ هو المنقذ من ضلال السياسة، وأن اجتماع الكلمة على الجهاد في سبيل الحق هو الخلاصُ وهو سبيل الحرية. وقد انتهت الآن هذه المفاوضات وجاءنا المشروع الذي يرادُ لنا أن نصدّق عليه ونقبله، فللأمة حقُها اليوم أن تقول كلمتها، ولكل مصريّ أن يقول كلمته، وليس لهيئة المفاوضة ولا لرئيس الوزراء أن يفتاتَ على حقّ الشعبِ بشيء لا يرتضيه الشعبُ، فإن هذه ساعة حاسمةٌ في تاريخ الشعب المصريّ، بل ساعة حاسمة في حياة أبنائنا الذين يدبُّون على الأرضِ، وحياة النّسْل المصري الذي يسرِي في الأصلاب حتى يأتي قدرُه.
وانه لهوْلٌ أي هول أن ينفرد رجُلٌ أو فئة من رجالٍ بالتصرُّف في هذه الأنفُس البشرية كأنهم أصحابها وخالقوها والنافخو الحياة في أبدانها.
فالله الله أيها الرجال في مصاير بلادِكم وأبنائِكم وورثة المجد القديم الذي يطالبهم كما يطالبنا بان نعيش أحراراً في بلادنا، وبناةً لأمجادِنا، وحَفَظةً على تاريخ أجدادنا. وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم كما قال الشاعر: وعلمتُ حتى ما أُسائل واحداً ...
عن عِلْمِ واحدة لكي أزدادها وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم مالكو رقابِ هذا الشعب بمالهم أو جاههم أو سلطانهم، وليأذن لنا أولئك الذين هانت عليهم أنفسهم فضاقوا ذرعاً بإباء هذا الشعب أن يكون ككلْب الرُّفقة يشركهم في فضلة الزَّادِ، فإذا ضجروا به قالوا له اخسأ أيها الكلب، وليأذن لنا المخلصون من الكُتاب الذين يظنون إن التساهل والتغاضي لا بأسَ به ما دُمنا لا نملك أسطولا ولا طائراتٍ ولا سلاحاً ولا قنابل ذرّية، وأنه لذلك لابد لنا من أن نحالف حليفاً قوياً ينصرنا إذا بُغي علينا، ويردّ عنا إذا زحف عدو إلينا - ليأذن لنا أولئك جميعاً أن نتكلم بلسان مصر المظلومة المهضومة، فإنها هي وحدها التي ينبغي أن تنطق وتقول، فإن قولها هو القول الفصْل - لا قول العلماء الذين يرون أن لا علم إلا علمهم، ولا قول أصحاب المال والسلطان ولا قول المتهاونين الذين يرضون من نيل الحق ايسر ما ينال. إن هذه المعاهدة الجديدة التي تمخضت عنها المفاوضات الطويلة تقوم على أربعة أساس: الأول: أن الجلاء سيتم بعد ثلاث سنين الثاني: أن تعد مصر بأن تقوم مع إنجلترا بالعمل الذي تتبيّن ضرورته في حالة تهديد سلامة أي دولة من الدول المتاخمة. الثالث: مجلس دفاعٍ مشترك يقرّر الرأي في الذي سموه (تهديد السلامة) وجعلوا له حق تنظيم الأسباب التي تسهّل مهمة اشتراك الجيش المصري مع الجيش الإنجليزي في الحرب. الرابع: أن تكون الأهداف الأساسية في مسألة السودان هي تحقيق رفاهية السودانيين وتنمية مصالحهم وإعدادهم (إعداداً فعلياً) للحكم الذاتي، وممارسة حق اختيار النظام المستقبل للسودان، والى أن يتم ذلك بعد التشاور مع السودانيين تظل اتفاقية سنة 1899 سارية وكذلك المادة 11 من معاهدة 1936 - هذا محصِّل ما تقوله المعاهدة الجديدة. ومصر تقول إنها لا تثق بالمواعيد الإنجليزية المتعلقة بالجلاء فقد بلتْ ذلك أكثر من ستين عاماً فلم تر إلا شراً، وإنها لا تريد أن تُقِرَّ ساعة واحدة للإنجليز بالبقاء الشرعي في بلادها فكيف ترضاه وتوقع عليه وتعترف بشرعيته ثلاث سنوات طوالا.
وتقول إن تحديد السنوات خداع وبيل العواقب غير مأمون المغبة فإنها لا تدري ماذا عسى أن يكون غداً أو بعد غد، وان الإنجليز قادرون إذا شاءوا على الجلاء في أقل من ستة أشهر جلاء كامل عن كل بقعة من بقاع هذا الوادي، فالإطالة مُرَادَةٌ لنفسها لأسباب جهلها من جهلها وعلمها من علمها.
وقبيح بامرئ ذاق الذل من وعود الإنجليز ستين عاماً أن يجهل شيئاً عن مثل هذا الوعد المدخول المكتم بالأسرار. أما الأساس الثاني: فإن مصر تقول إن بلاء البلاد المتاخمة لمصر هو كبلائها مِثلا بمثل، فالإنجليز هم الجاذب الداعي إلى أن يعتدي عليها معتدٍ طاغٍ يريد أن يضرب إنجلترا في مكامنها، كما كانوا سبباً في عدوان الألمان والإيطاليين على مصر في الحرب الأخيرة السالفة.
فلماذا يريد الإنجليز أن يتخذوا أعواناً وأنصاراً على إذلال جيراننا، وأن يجعلونا نعترف ضمناً بأن لهم حق الدفاع عن هذه البلاد التي سلطوا عليها بَغْي استعمارهم؟ ولماذا تسفك مصر دماء أبنائها في سبيل المحافظة على هذه الإمبراطورية التي ملأت رحاب الأرض جوراً؟ ثم إن هذا العدوان إذا وقع، فهو النذير العريان بالحرب العالمية الثالثة، والمعتدى فيه معروف منذ اليوم للإنجليز ولغير الإنجليز.
والأسباب الداعية إلى انفجار هذا البارود راجع إلى أسباب أخرى غير الرغبة في التوسُّع.
وهو جشع الاستعمار القائم اليوم في هذا الشرق الأوسط والشرق الأدنى والهند.
يوم يقع هذا العُدوان فالدُّنيا كلها ستهبّ هَبة رجل واحد، ولا يدري أحدٌ منذ اليوم كيف يكون الأمر غداً وأين تكون مصلحته، فعلام تريدنا إنجلترا أن نتعجَّل، وأن ندخُلَ نحن في حروبها التي ضرَّمتْ نيرانها منذ كانت، وأن نفرض على أنفسنا منذ اليوم قيداً لعلْ غداً يأمرنا أن نعيد إلى خلافه حتى لا نكون طعمة للمنصور إذا كانت إنجلترا هي الخاسرة؟ أليس يقول لنا ذلك المنصور يومئذ، لقد قاتلتموني وحاربتموني فأنا أستحلّ دياركم وبلادكم وأقداركم بحكم الفتح؟ فماذا تقول مصر يومَئذ؟ ومن زعَمَ أن سياسة الدنيا سوف تجري غداً على النهج الذي جرت عليه حتى اليوم، فقد أنكر عقله وأنكر تلك القوى العاملة التي تؤثر في سياسات العالم.
ثم لماذا تريد إنجلترا أن تكون قيِّمة على مستقبلنا ونحن شعبٌ حيٌّ حرٌّ يريد أن تكون بلاده ملكا له ليتوخى لها مراشدها التي ينبغي أن يتوخاها؟ وإذا كان الإنجليز يؤمنون بأن مصلحتنا غداً ستكون في أن نكون معهم يداً واحدة، فعلام الجزع إذن؟ أو يظنون إننا نخرج غاصباً من بلادنا ثم ندعها نُهْى تتعاورها أيدي لصوص الأمم فلا نؤازرهم فيما نرى أن لنا فيه منفعة وصلاحاً؟ اللهم إن الإنجليز يعلمون أننا على حق في هذا كله وأنهم هم المبطلون، وإنما يريدون بهذا النص أن يمكثوا في بلادنا سادة يستضعفوننا ويمنعوننا أن نفعل في بلادنا ما نريد، أي أن نظل أمة لا جيش لها، ولا مصانع فيها ولا قوة لها، وأن تظل (مجالا حيويا) لهل ولأشياعها وأفاعيها من نفايات الأمم وحثالات الشعوب، وأن يكون وجودهم بيننا معواناً لهم على تفريق كلمتنا وتشتيت قلوبنا، وأن يظل المصري يحس بهذا الإحساس القبيح الذي يوهن القوى، وهو أنه غريب في بلاده. أما الأساس الثالث: فهو شيء باطل كله لأنه مبني على الثاني، ولأنه شيء لا مثيل له تاريخ معاهدات الدنيا كلها، ولأن أخطاره على مصر أخطار موبقة.
فإن كلمة القوى هي العليا، فإذا قلنا لإنجلترا إننا نرى كذا وكذا وقال إنجليز هذا المجلس، كلا إن هذا ليس لنا برأي! فمن يكون الفَيْصل بيننا يومئذ؟ أليست هي قوة الإنجليز نفسها؟ وإذا كانت مصر تخرج اليوم من استعباد خمس وستين سنة، فهل تظن أن الرجال المصريين الذين سيضمهم هذا المجلس، سوف يكونون أو يختارون إلا ممن ترضى عنهم إنجلترا وتقول إنها تستطيع (العمل معهم)؟ هل يظن غير هذا عاقل؟ يا لهذه من سخرية بنا وبعقولنا وبعقول كل من يقرأ هذه السفسطة الإنجليزية!. أما الأساس الرابع، فإن مصر لم تعترف قط باتفاقية سنة 1899 ولن تعترف بها، وهذه المعاهدة تريدنا أن نعترف بها، وتريدنا أيضاً أن نرضى سَلفاً عن أبشع المبادئ التي لا عقل فيها، وهي بتر جنوب مصر عن شمالها.
فالسودان ليس أمة نحن مستعبدوها بل هي جزء من مصر من أقدم عصور التاريخ، وهي أهم لمصر من مصر نفسها بشهادة عقلاء الساسة من إنجليز وغيرهم.
ولو فرضنا أن فئة أضلتها الأموال الإنجليزية والوعود البريطانية والأكاذيب الملفقة، قامت في السودان وقالت: أنى أريد أن أكون أمة وحدي ودولة وحدي، فهل يُقبل هذا إلا إذا قبلت إنجلترا أن تقوم أسكتلندة - وبين الإسكتلنديين والإنجليز من الفروق ما لا يوجد مثله نين مصر والسودان - فتقول: سوف أكون لأمة وحدي ودولة وحدي.
افترى إنجلترا تقول يومئذ نعم ونعمة عين وتخلي بينهم وبين ما يريدون، أم تخضعهم يومئذ بقوة السلاح وبالحديد والنار كعادتها في كل بقاع الدنيا؟ ونحن ولله الحمد ليس بيننا وبين السودان مثل هذا، بل السودان كله، إلا من طمس مال الإنجليز قلبه، كلمة واحدة على أنه جنوب مصر لا أنه أمة واحدة أو دولة واحدة.
إن مصر لا تستطيع أن تفرط في بتر السودان من جسمانها، فإن في ذلك هلاكها وهلاك السودان جميعاً.
فليقلع عن هذا الرأي كل من غفل عن حقيقة الوطن المصري أو الوطن السوداني، فمعناها سواء. بقي شيء واحد هو إن إنجلترا قد خرجت من هذه الحرب في المرتبة الثالثة من دول العالم.
فإذا جاءت الحرب الثالثة فإنجلترا خارجة منها لا محالة كما خرجت فرنسا - أي إنها سوف تخرج ولا تملك غير الجزيرة البريطانية إن بقيت لها، فعلام نربط مصايرنا بمصير مظْلَمٍ يُفزّع أهله منذ وضعت الحرب الأخيرة أوزارها؟ وكان ينبغي أيضاً أن لا يغيب عن أذهان أولئك الأذكياء أن هذه الفرصة إذا أفلتت فلن تعود، فإن إنجلترا اليوم لا تملك أن ترغمنا على شيءٍ، وإنها لتهددنا وتبدى وتعيد في تهديدها، ولكننا إذا صبرنا وعزمنا وأبينا ميسمَ الذل الذي تريد أن تسمنا به، فهي لن تملك إلا التسليم بلا قيد أو شرط.
فكان عليهم أن يكونوا أبصر بخير هذه الأمة المجاهدة المصرية، وأجرأ على تلك الأمة الإنجليزية، ولو فعلوا لرأوا عجباً، فإننا إنما أُتينا من قبل الخوف والهيبة والعجز عن إمضاء العزيمة على وجهها ولكن لم يفت الأوان بعد، فاحملوا على أنفسكم أيها المفاوضون المصريون واملأ قلوبكم إيماناً بالله، وإخلاصاً للوطن، وأجمعوا رأيكم وارفعوا النير عن هذا الشعب بالإباء والأنفة والحميّة، ورفْض المفاوضة والمعاهدة، فإن إنجلترا لن تملك يومئذ صرفاً ولا عدلا، فإن لم تفعلوا فالله من ورائكم محيط.
وأحذروا غضبة الشعوب فإن لغضباتها مواسم ككيّ النار هي ذل الدهر وسُبة الأبد. محمود محمد شاكر -

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣