أرشيف المقالات

الحلم والتحلم. . .

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ محمود عزت عرفة (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) حديث شريف. لا ينهض رواج الرذيلة في هذا العصر المادي دليلا على رجحان كفتها في ميزان الأخلاق، إذ ما يزال للفضائل القدح المعلى، ولا يزال الفضلاء - على قلة فيهم وضعف - اقدر الناس على الجهر بالدعوة إلى مذهبهم، وأقومهم بالحجة في الإنابة عن صحة مأخذهم.

وحسب الرذيلة من ضعة إنها مقرونة أبدا بالتواري، محجبة بقناع التخفي، لا تحيا إلا في مدلهمٍّ من الظلام، ولا تنشط إلا على غفلة من العقل، وغفوة من سلطان الضمير. والخلق النفسي قسمان: فطري وكسبي.
وليس لنا من أمر الخلق الفطري شئ ألا أن نشكر واهبة على ثمرات خيره، ونستعيذ به من بائقات شره.
أما الثاني، وهو ما تنهيا النفس لاكتسابه من صفات خلقية، فذلك الذي يتسع معه مجال الحديث، بل من اجله سن الباحثون قوانين الأخلاق وقواعد السياسة والتربية، وسائر علوم الاجتماع. ولا يكاد يتصور لهذه العلوم وجود إلا مع الاعتراف بأهمية الصفات الكسبية للنفس كدعامة من دعامتيها، وعنصر - بالغ الأهمية - من عنصريها. ولقد أخذ ابن مسكويه على منكري (التطبع) قولهم، وأبلغ - ولم يبالغ - في تقدير الخلق الكسبي، وما تتهيأ له النفس من قبول التحول، والانصياع إلى ضروب التأديب والتهذيب.
يقول في فصل من كتابه (تهذيب الأخلاق): اختلف القدماء في الخلق فقال بعضهم: الخلق خاص بالنفس غير الناطقة.
وقال بعضهم: قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ.
ثم اختلف الناس أيضاً اختلافا ثانيا فقال بعضهم: من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه.
وقال آخرون: ليس شئ من الأخلاق طبيعيا للإنسان، ولا نقول انه غير طبيعي.
وذلك أنّا مطبوعون على قبول الخلق، بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا.
وهذا الرأي الأخير هو الذي نختاره لأنا نشاهده عيانا، ولان الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، والى رفض السياسات كلها وترك الناس همجا مهملين، والى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدا - انتهى قول ابن مسكويه. ويقول الغزالي في مثل هذا المعنى: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولمّا قال رسول الله ﷺ: حسنوا أخلاقكم! وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن، إذ ينقل البازي من الإستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأديب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد؛ وكل ذلك تغيير للأخلاق؟ وإذا نحن أدركنا هذا القول تسنى لنا أن نفهم الحكمة الجليلة التي ينطوي عليها قول الرسول عليه الصلوات: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه، ومن يتوقَّ الشر يوقه.
فلتحلم والتعلم والتبصر والتوقي والتورع والتصبر والتكرم والتعفف وغيرها من هذه الصفات التي تنطوي في صيغتها على معنى التكلف إنما هي معدودة من أهم مقومات الخلق النفسي ومن اخطر العناصر في تكوينه.
وهي إلى ذلك وسيلة ميسورة إلى ترقي النفس في مدارج الفضيلة واكتسابها ما حرمته بالفطرة من أسباب الخير.
ثم هي مقوية للفضائل ومتقوية بها، لما هنالك من واشج العلاقة بين القسيمين.
يقول أبو علي القالي في أماليه: العقل عقلان: فعقل تفرد الله بصنعه، وعقل يستفيده المرء بأدبه وتجربته.
ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلا بصحة العقل المركب، فإذا اجتمعا في الجسد قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة نور البصر. الحلم والتحلم: قال ابن مسكويه: الحلم فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة فلا تكون شَغِبه، ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة. وواضح أن الحلم - كخلق فطري - يؤدي إلى طمأنينة النفس.
على أن هذه الطمأنينة من ناحيتها تكسب النفس صفة الحلم وتمكِّن لها منه، والحلم المكتسب هو (التحلم) نفسه. فطمأنينة النفس نتيجة للحلم وسبب للتحلم، ومن هنا يصعب الفصل بين الخلقين ولكنه لا يستحيل، لان الحلم إذا جاء عفو الطبع، وبدون تكلف له ولا تحامل على النفس فيه، فالتحلم لا يكون إلا نتيجة مران وثمرة ممارسة ومعاناة.
وليس من شك في أن الأول يفضل الأخير، كما يفضل الأصل الفرع، ويشأو السابق اللاحق. والغزالي يردف التحلم (كظم الغيظ)، فهما عنده شئ واحد يقل في الرتبة عن الحلم، ولكنه يتحول إلى الحلم نفسه بطول المجاهدة التي تفضي إلى الاعتياد.
فهذا الفيلسوف لا يكاد يتصور للحلم وضعا إيجابيا أو مظهرا مستقلا، إلا إن يكون صورة كاملة استوفت خطوطها وألوانها من مظاهر للتحلم توالت على النفس وتعددت صورها حتى استوفت فيها خلقا كاملا تصقله المجاهدة وتهذبه الدربة وفرط المعاناة؛ واليك عبارته: (اعلم أن الحلم افضل من كظم الغيظ، لان كظم الغيظ عبارة عن التحلم (أي تكلف الحلم)، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا فلا يهيج الغيظ، وان هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفا.). ويبدو أن ابن مسكويه كان أدق فهما من الغزالي لحقيقة الحلم وموضعه من التحلم، عندما جعل الحلم خلقا أساسيا في بعض النفوس، ثم أوضح إمكان اكتسابه بالمعالجة فيسمى حينئذ تحلما.
وهو يقول في الكشف عن حقيقة الحلم: متى كانت حركة النفس العصبية معتدلة، تطيع النفس العاقلة فيما تقسطه لها، فلا تهيج في غير حينها، ولا تحمي أكثر مما ينبغي لها، حدثت عنها فضيلة الحلم، وتتبعها فضيلة الشجاعة، ثم بين السبيل لبلوغ فضيلة التحلم عند فقد الحلم بقوله: من أنكر من نفسه مبادرة إلى غضب في غير موضعه، أو على من لا يستحقه، أو زيادة على ما يجب منه، فليقابل ذلك بالتعرض لسفيه يعرف بالبذاء، ثم ليتحمله، وليتذلل لمن يعرف بالخيرية ممن كان لا يتواضع له قبل ذلك. على أن من الإنصاف للغزالي أن نقول: انه كان فيلسوفا (عمليا) في مقارنته بين الحلم والتحلم، فهو لا يكاد يعترف ألا بالتحلم أصلا وفرعا، لأنه محله التجربة ومظهر المجاهدة والمعاناة، وفلسفة الغزالي الخلقية كلها تقوم على هذا الأساس.
أما ابن مسكوية ففيلسوف (نظري) عميق الفكرة، يجرد الحلم أصلا قائما بذاته، ثم يلتقي مع الغزالي في بسط قضية التحلم، وبيان السبيل إلى بلوغه تكلفا. فمن المجاز إذن - لا الحقيقة - أن نقول مع الغزالي: إن كظم الغيظ واعتياد التحلم يصبح (حلما طبيعيا) - وان كانت هذه العبارة هي افضل ما يجري على لسان مربٍّ يعني بتهذيب الأخلاق وهداية الناس إلى سبيل الفضائل، بتيسير وسائلها لهم، وتهوين مشقة إحرازها عليهم. فضيلة الحلم: بان الحلم إذن بفضل له ومزية، وطال على التحلم قدر ما يطول اصل على فرع، وأول - في الكون - على أخير.
وما ثمة شك في أن الحلم أثنت على تتابع المثيرات، وابلغ في الدلالة على كرم النفس، وصفاء موردها من نبع الفضيلة. وليس يتصل الحلم بنفس إلا وقد تم لها إلى جانبه حظها من التحلم، إن لم يكن في الأول الغناء كله عن الثاني.
والنفس بعد من نتيجة التحلم على شك، تسعى إليه فتبلغ حينا وتقصر أحيانا، وأنها لتلقى فيه من البلاء ما يضجرها منه مرة، وقد يصرفها عنه أخرى. وأين في الناس مثل عمر الذي كان يبلغ بالتحلم حد الحلم دون مجهود، حتى ليلقى الرجل السكران مرة فيزمع أخذه وتعزيره، ويشتمه السكران فيرجع عنه، ثم يسأل عن ذلك فيقول: انه أغضبني، ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي، ولم أرد أن اضرب مسلما حمية لنفسي؟! وفي كتاب الأحياء أن اشجَّ عبد القيس وفد على النبي ﷺ فأناخ راحلته ثم عقلها، وطرح عنه ثوبين كانا عليه، واخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما، وذلك بعين رسول الله ﷺ يرى ما يصنع.
ثم اقبل يمشي إلى رسول الله ﷺ فقال عليه السلام: إن فيك يا اشج خلقين يحبهما الله ورسوله.
قال: ما هما بابي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة! فقال: خلتان تخلقتُهما، أم خلقان جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقان جبلك الله عليهما.
فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.
فقد كان رسول الله عليه الصلوات إذن اعلم الناس بفرق ما بين الحلم والتحلم، وبعد ما بين الطبيعة والتطبع، وانه ليمتدح صاحبه - فيثلج قلبه، ويستحمده ربه - حين يجيبه عن سؤاله بقوله: بل خلقان جبلك الله عليهما! هذا، والحلم سيد الأخلاق - كما يقولون - لأنه السجية النبيلة التي لا تليق ألا بالملوك والأمراء، ولا تأخذ أروع زينتها إلا حين يصطنعها السَّراة والوجوه وأعيان الناس.
روى أن عليا (عليه الرضوان) سأل رجلا من أهل فارس عمن كان أحمد ملوكهم سيرة.
قال: أنو شروان.
فقال علي: أي أخلاقه كانت اغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة.
فقال علي: هما قوام الملك، نتيجتهما علو الهمة! ولقد بلغ بعض الملوك والرؤساء من الحلم مبالغ تثير الدهشة وتستخرج العجب؛ وليس يعزى هذا إلى طبيعة فيهم بأكثر مما يعزى إلى الظروف التي أحاطت بهم.
ونحن نحب أن نقف قليلا عند بعض من طارت شهرتهم بالحلم، وأخذوا من التحلم بأسباب قوية، فنتبين مظاهر هذين الخلقين فيهم، ونلمس البواعث عليهما، والمقاصد الخفية أو الظاهرة الدافعة إليهما.
(يتبع) محمود عزت عرفة

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن